الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 705الرجوع إلى "الثقافة"

النقد التفسيرى للأدب

Share

-4-

٦ - ولعلنا الآن نستطيع أن نقول مع بيرت : " إنه لم تعد بنا حاجة إلى التردد فى قبول النتيجة الهامة التى انتهى إليها المحلل النفسى - وهى أن أحسن الشعر وأحسن القصص وأبدع الصور ، كلها إلى حد بعيد - إنتاج النشاط اللاواعى للعقل " ومن أجل ذلك كان اعتقادنا أنه من الممكن - إن لم يكن الآن من الواجب - تفسير الأدب على أساس نفسى وفهمه فى هذا الضوء الجديد . ومن الطبيعى أن استخدام نظرية فرويد فى الأدب قد حول فى الغالب بغرض تحليل المؤلف . . ومع أن التحليل النفسى قد أضاف بالتأكيد كثيراً وما زال فى إمكانه أن يضيف أكثر فى فهم أفراد الفنانين بما هم شخصيات ، فإن أعظم عمل للنظرية الفرويدية يقدم به دارسو الأدب إنتاجاً طيبا هو فى تفسير الأدب ذاته .

وواضح أن فى مذهب فرويد أثراً بالغاً من تيار الدعوة ضد جفاف المذهب العقلى الحديث ، ومن الرأى الذى يدعو للالتجاء إلى العاطفة والوجدان ، فلعل المرء يصل بهما إلى الحقيقة التى قصر المنطق والتفكير الخالص عن إدراكها ، ولعل فى الحدس والإدراك المباشر ما ينقذ العقل من قصوره وجفاف منطقه . وبذلك استطاع فرويد أن يرمم صرح الحدس ، ويحيى " ميول القلب " وأن يصل بالمرء إلى مثالية فنية حية تشيع فى النفوس ميلها الأبدى لليقين .

على كل حال نستطيع الآن أن نتكلم عن الأدب باعتباره تعبيراً رمزيًا عن الرغبات المكبونة فى اللاشعور : " فمن الممكن الانتهاء إلى أن العمل الفنى إشارة أو رمز يقوم مقام شعور الفنان . وهو بهذا يمكن أن يعد اشارة رمزية بالنسبة للفنان نفسه ، الذى يصير - بعد أن يتم العمل الفنى - فرداً متذوقاً متمتعاً اكثر منه مبدعاً . فبما أن الموضوع عندما يتم ينفصل عن الفنان فإنه ليست هناك عقبة واحدة تمنع من القول بأنه إذا كان رمزاً بالنسبة للفنان ، فإنه - من باب أولى - يكون رمزاً بالنسبة لغير الفنان من المتذوقين . . والقول بأن العمل الفنى رمز لمشاعر

الفنان معناه قبول الشعور بوصفه إطاراً يرجع إليه ليس فقط عند البحث عن القدرة على الإبداع الفنى ، بل أيضا عند البحث عن التجربة الفنية سواء بسواء " .

وإذا رجعنا إلي فرويد وجدنا أن لا منطقية اللاوعى تنشئ علاقات جديدة بين الرموز . وهذه العلاقات الجديدة هى التى يجب أن يلتفت إليها عند محاولة تفسير الأدب . فالرمز فى ذاته بما هو صورة أو جزء من صورة ليس هو المعنى وإنما هو الصورة المجسمة للمعنى الكامن فى النفس ، وأيضا فإن العلاقات الجديدة بين هذه الرموز ليست مقصودة لذاتها ، وإنما هى صورة للعب والتلوين النفسى . ومن هنا قال بازار : إن الشعر يفيد من الرموز نفسياً أكثر من إفادته منها بوصفها رموزاً . فالشعور - فى غير حالاته الخاصة متضمن في الرمز الفني ، وبه يتأكد الفنان - إلى أبعد حد ممكن من التأكد - أن التجربة الفنية عند متلقى الفن تتفق مع ما قصد هو إلى توصيله إليه . ولكن الفنان لا يرغب فقط فى أن يفهم ؛ فهو يصطنع رموزاً ذات دلالة واسعة فى التعبير عن الشعور لكى ينقل الشعور ويطبعه فى صور محسوسة .

وقديماً قال ابن الأثير : إنك إذا مثلت الشئ بالشئ فإنما تقصد به إثبات الخيال فى النفس بصورة الشبه به ( ولنقل هنا الرمز ) أو بمعناه . ولعله من هنا كانت الرمزية - بحسب رأى بوزنكيت - طريقة للتفسير ، أى تفسير شعور الفنان

والسبب فى أن الشعراء يلبسون تعبيراتهم الفلسفية صوراً محسوسة - كما يقول دبوت باركر -Dewit Parker ليس لأنهم مجدون ما يخجل فى الضمون ( وهو هنا قد يبدو معارضاً لفكرة فرويد فى التنفيس عن النزعات الفطرية المكبوتة ) ولكن فى الحقيقة من أجل نقل عاطفتهم وتوصيلها بسهولة ووضوح أكثر . وفى كتابة ديوت باركر تظهر الفكرة المأثورة عن سقراط والعروفة عند هو سمان . وتفضيلهم العام المحسوس له نفس الدافع ؛ فإنه لا يوجد من

المجردات إلا قدر قليل يستطيع أن يثير العواطف ويوصلها .

والصفات التى تلاحظ فى الرموز هى الصفات التى تلاحظ فى نشاط العقل الباطن . " ففى العقل الباطن - كما يظهر أيضاً فى الأحلام ، وكما هو الشأن فى ظاهرة الجنون - يكون العكس opposlite فى الغالب هو الدليل المعكوس posite وليست الثنائية وحدها هى التى تلاحظ فى الرموز بل الاختلاط أيضاً بمعنى أن شيئين غير مرتبطين كلية يوضعان الواحد بجانب الآخر لتكوين صورة واحدة لها أهمية خاصة

وليس لما يجرى فى اللاشعور أية علاقة بفكرة الزمن . إذ أنه لا يوجد فى تلك المرتبة من مراتب العقل أى توقيت أو زمان . وهكذا يساعد انعدام الزمن فى اللاشعور على التكثيف  condenation الذى يمكن بواسطته أن يلمح اللاشعور الحوادث المتباعدة بعضها عن بعض فى الزمن كأنها متجمعة بعضها إلى بعض ، إذا كان بينها أى نوع من الترابط أو العلاقة . وبهذا نستطيع أن نؤكد أهمية الحقيقة القائلة بأن الإنسان فى تفكيره الخيالى ( الفنى ) يحتفظ بتكثيف لتاريخ تطوره النفسى وعملية الترابط أو العلاقة تتم عادة فى صورة حرة ، لأنها تتم وليس هناك هدف أو تركير أو اختيار للألفاظ الصالحة للتعبير عن فكرة ، كما هو الشأن فى الفكر الواعى . ومن هنا لا يشعر الفنان فى أثناء العملية الإبداعية بالقفزات البعيدة التى يقفزها بين رمز ورمز أو بين لفظ وآخر

وأخيراً ، فإذا كان العمل الفنى طريقة للتعبير ونقل التجربة اللاشعورية إلى الآخرين . فكيف إذا يتحقق للفنان ذلك إذا كان يستخدم رموزاً لا شعورية لها تلك الصفات السابقة للتعبير عن تجريته الخاصة ؟ " الفهم العام يدعو إلى الظن بأن اختلاف البيئة والثقافة والمزاج والتراث الفطرى قد تؤدى غالباً إلى اختلاف فى المعانى التى يدلى بها الرمز الواحد عند مختلف الأشخاص ، ولكن يبدو أن بعض العناصر الرمزية عمر من نطاق المحلية ليكون له صفة العمومية والإطلاق عند أكثر من فرد ، بل أكثر من أمة ؛ وكل ذلك يترك المجال دائماً أمام الآخرين ففهم الأثر الفنى وتذوقه من خلال هذه الرموز .

ونود الآن ، وقبل أن نحاول عملية تطبيقية لما سبق أن

سقناه من أفكار - أن نعرض لدعوى عريضة إن دلت على شئ فإنما تدل على أن أصحابها هم أول من سيقف فى وجه هذه الأفكار من حيث هى مستعدة من أفكار ونظريات غريبة أولا ، وأنهم يحاولون أن يقولوا للناس إن الأدب العربى عظيم وحده . أما الآداب الأوربية فحقيرة ، وإن الأدب العربى هو الغنى وتلك الآداب فقيرة .

ومن حسن الحظ - أيها القارئ الكريم - أن مثل هذه الدعاوى مكتوب وبين أيدينا . وهنا أعرض عليك واحدة منها :

" لعل بعض شبابنا الذين يهفون إلى استلهام الأدب الغربى يمحنه ورزاياه ونقاباته وسمومة ، ويعرضون من استلهام الأدب العربى بعظمته وقوته وكبريائه ووضوحه ، يرون أنهم حادوا عن الجادة ، وأنهم ظلموا الأدب العربى لجهلهم بذخائره ونفائسه ، واغتروا بالأدب الغربى وهو نتاج بيئة غير بيئتنا ومجتمع قد كثرت علله وأوصابه وتعقدت مشكلاته وأدواؤه ونخرت فيه الآفات التى تصيب الأمم المترفة المتكالبة على المادة . أدب ولده الاضطراب النفس والكبت والحرمان والضيق والظلمة - ظلمة الجو وظلمة الحياة - فجاء سخفا وهذيانًا تمثل فى تلك المدارس الأدبية الحديثة من واقعية تنحدر إلى تصوير أحط الغرائز الدنيا فى الإنسان إلى رمزية مهمة غامضة لا يعرف المرء من ورائها فكرة أو معنى ، ولا تغنى بمجتمع أو إنسان ، إلى سريالية منحرفة تهذى بخزعبلات العقل الباطن وهواجس اللاوعى ، وتختل بأضغاث الأحلام ، وتنكر المنطق والعقل والشعور ، وأوضاع المجتمع والدين والفضيلة . "

ولعل هذه الدعوى الصارخة أن تمثل الجانب المقابل تماماً ، لأنها تعتبر الأدب الذى ولده الاضطراب النفسى والكبت والحرمان والضيق وظلمة الحياة أدبًا سخيفاً إن لم يكن هو السخف بعينه . ونحن نقررها الآن صريحة بعد أن انتهينا إليها من مقدمات موثوق بها : أن الأدب الصادق هو ما كان وليد الاضطراب النفسى والكبت والحرمان والضيق وظلمة الحياة ، ولن يحط من قدره أنه يمثل السخف عند البعض ممن يدعون معرفة الأدب العربى بذخائره ونفائسه ! ويجهلون غيرهم . إنني لا أكتم القارئ الكريم

أننى ضنيت كثيراً فى أن أعثر فى الأدب العربى على شاعر ! شاعر ألمس فيه أثر الاضطراب النفسى والكبت والحرمان . شاعر يهذى بخزعبلات العقل الباطن وهواجس اللاوعى ، ويحتفل بأضغاث الأحلام وبنكر المنطق والعقل والشعور . وربما كان السبب فى هذا الضنى أن الأدب العربى عظيم وقوى ومتكبر !

ليطمئن أنصار الأدب العربى فقد قضينا شطراً من حياتنا فى دراسة ذخائره ونفائثه . وإننا لحريصون كل الحرص على أن تلتمس فيه الدليل الملموس على عظمته وقوته وكبريائه . ولعل القارئ الكريم يذكر ما قلناه فى مستهل أول مقال من هذا البحث . وكل ما يعنينا هنا هو أن

تعدل من تلك الموازين النقدية التى تتخذ ذريعة لاتهام البعض بالجهل من ناحية . ولغيره الشبهات من ناحية أخرى .

العظمة والقوة والكبرياء أثواب فضفاضه جداً لا تصور شيئاً ولا تفسر شيئاً ، ولا هى الميزان الذى توزن به الآداب . والاضطراب النفسى والكبت والحرمان والضيق وظلمة الحياة ، وهذيان العقل الباطن وهواجس اللاوعى وأضغاث الأحلام . . إلخ هى التى تصور الكثير وتفسر الكثير ، وهى بعد ميزان الأدب الصادق . " فالناس عندما يتركون لاوعيهم يتكلم فإنهم يخبروننا عن أهم الأشياء فى حياتهم الباطنية الخاصة ، وحسب الأدب - بعد - أن يطلعنا على خفايا تلك الحياة الخصبة الفسيحة .

( التتمة فى العدد القادم )

اشترك في نشرتنا البريدية