الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 38الرجوع إلى "الرسالة"

النقد والطربوش وزجاج النافذة, النقد والطربوش وزجاج النافذة

Share

وتستطيع ان تضيف الى هذه العنوانات عنوانات أخرى،  فهناك أزقة ضيقة شديدة الضيق، ملتوية شديدة الالتواء، قد كثر  على أرضها الوحل، حتى ان الذى يمشى فيها لينزلق، أو يمشى مشية  مسلم بن الوليد فى بيته المشهور:

اذا ما علت منا ذؤابة شارب    تمشت به مشى المقيد فى الوحل

وقد أمطرت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا  من المطر، منها السائل ومنها اليابس، نستغفر الله، بل قد صبت  سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من البلاء، منها مرق  الفول النابت، وماء المخلل، وفيها أشياء أخرى جامدة كانت تهوى على  الرؤوس، وربما مست العيون، وربما دخلت الأفواه ووصلت الى  الحلوق فانعصرت فيها انعصارا، وأذكت فيها لهيبا ونارا، وقد كان  فى هذه الأزقة مارد من مردة الجن أو مردة الإنس، له صدر عريض  قد انتفش فيه شعر الطويل حاد كأنه الأسنة، يصطدم به الرجل القصير  فاذا هذا الشعر الطويل الحاد يداعبه ويلاعبه، فيبعث بوجهه، ويدخل  فى أنفه وفى فمه وفى عينيه. وقد كان فى هذه الأزقة غلام شرير، لسانه  عذب، ويده مرة، وقد كان فى هذه الأزقة شاب ظهر الغباوة والبله،  خفى المكر والغدر، شديد البأس والبطش، يخيف من ليس من شأنه  أن يخاف، ويضطر اثبت الناس قلبا وأشدهم استهزاء بالحياة الى  أن يعدو عدو الشنفرى وتأبط شرا وابن براق، حتى يدفع الى دار  من الدور، ثم الى بيت من بيوت هذه الدار، فلا يدخل هذا البيت  من بابه كما أمر الله أن تؤتى البيوت، وإنما يدخله من إحدى نوافذه.  وفى هذه الأزقة شيخ وقور، ظاهره يخيف، وباطنه فيه الرحمة واللين،  وفيه الرفق والدعة، وفيه الأدب وحسن الذوق.

كل هذه الأشياء، وكل هؤلاء الأشخاص، يمكن أن تضاف  ويمكن أن يضافوا الى هذه العنوانات التى قدمتها بين يدى هذا  الكلام، ولكني لم أضفها تحرجا من الاطالة واشفاقا من الاطناب،  وايثارا للايجاز البليغ.

وأنا أستطيع بعد أن وضعت هذا العنوان وأتبعته بهذا الكلام،

أن أتحول بك الى ما شئت أنت أو ما شئت أنا من الموضوعات  فأتحدث اليك فيه حديثا طويلا أو قصيرا، وأعرض عليك فيه  صورا جميلة أو دميمة، وأثير فى نفسك به عواطف هادئة أو جامحة،  وأرسم على وجهك به ابتساما وضحكا، أو عبوسا وتقطيبا، حتى اذا  بلغت من هذا كله ما تريد أنت، أو ما أريد أنا، أو ما نريد جميعا،  ذكرت النقد والطربوش وزجاج النافذة. واعتقدت أنا أو خيلت  اليك إني أعتقد، واعتقدت أنت أو خليت الى انك اعتقدت، واعتقد  صديقى الأستاذ المازنى، أو خيل الى نفسه والينا أنه يعتقد، أنى قد أمتعت  الرسالة وقراء الرسالة بفصل قيم أو غير قيم، قوامه الحديث عن  النقد والطربوش وزجاج النافذة!.

وتسألنى ما بال الأستاذ المازنى يقحم هنا إقحاما، وما خطبه  مع النقد والطربوش وزجاج النافذة ومرق الفول النابت،  وماء المخلل، وما يتبع هذا كله من الأشياء والأحياء؟ فأجيبك بأن  هذا السؤال لا ينبغى أن يساق الى، وانما ينبغى أن يساق الى الأستاذ  المازني، فهو الذى تحدث عن هذا كله، وهو الذى أثارنى إلى أن  أتحدث عن هذا كله، وليس من شك فى أن الأستاذ المازنى سيقول  فى دعابته الحلوة الظريفة، وما أنت وجر الشكل، وما لك تدخل  بينى وبين النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من  الملحقات؟. ولكن الأستاذ يوافقنى أو لا يوافقنى - فهذا سواء -  على أنه صاحب فن، وعلى أن أصحاب الفن ان كتبوا لأنفسهم فهم  ينشرون للناس، وعلى ان صاحب الفن لا يملك أثره الفني بعد أن  يلقيه إلى الناس. وعلى أن من حق الناس إذا ألقى إليهم شىء أن  يتناوله كما يحبون، يعجبون به أو يسخطون عليه، يرغبون فيه  أو ينصرفون عنه، يحمدونه أو يسلطون عليه اللوم.

وإذن فقد ألقى الينا الأستاذ المازنى فصله الممتع البديع الذى  أثارنى الى أن أتحدث إليك عن النقد والطربوش وزجاج النافذة،  أو الى أن أتحدث اليك عن الأستاذ المازنى نفسه من وراء هذه  الأشياء التى لا تحصى، والتى لا أكره تكرارها، وما أظنك تكره  تكرارها، وهي النقد والطربوش وزجاج النافذة والأزقة وما  يتراكم على أرضها من الوحل، وما تصبه سماؤها من السائل والجامد،  ومن يمشى بين ذلك من الأشرار والأخيار.

وللأستاذ المازنى مع هذه الأشياء كلها، ومع هؤلاء الناس  كلهم، ومعك أنت، ومعى أنا، قصة طريفة ظريفة، خليقة أن

تقص، وخليقة أن تثير الإعجاب. فهل تدرى ماذا دفع الأستاذ  المازنى الى أن يتحدث عن هذه الأشياء، وعن هؤلاء الأشخاص،  فيثيرنى الى أن أتحدث عنه، وعنها، وعنهم؟ هو شىء يسير، يسير  جدا، هو أنه أديب يقرأ فى الكتب، ويكتب فى الصحف، وينقد  الكتاب والمؤلفين. وقد تتغير الأزمنة وتتبدل ظروف الحياة  وترقى الأجيال بعد انحطاط، ولكن هناك شيئا لا يتغير ولا يتبدل  فى حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء، ونقمة  يصيب الله بها هؤلاء الذين يمنحهم شيئا من حسن الذوق والقدرة  على فهم الأدب وتقريبه الى الناس. وقد امتحن الله صديقنا المازنى  ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظا عظيما، فجعله شاعرا مجيدا وكاتبا  بارعا، وناقدا مسموع الكلمة، مهيب الجانب، مقدور الرأى،  لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه.  وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس على ذلك وأشدهم طلبا  له والحاحا فيه. والكتب تمطر على الأستاذ المازنى، ويمطر معها  طلب النقد وطلب التقريظ، والنقد والتقريظ يحتاجان الى القراءة والدرس.  وإذن فالمازنى المسكين مصروف عن نفسه وعن فنه  وعن كتبه، الى هؤلاء الناس الذين يكتبون، والى هؤلاء الذين  يقرأون. ومن هنا ومن جهات أخرى أيضا كان المازنى شقيا  بالأدب، وأن كان الأدب سعيدا بالمازنى، وأى دليل على شقاء  المازنى بالأدب وسعادة الأدب بالمازنى، أقوى من هذه القصة التى  أحدثك عنها الآن؟

فقد اخرج كاتب من الكتاب كتابا من الكتب، وأهداه الى  الأستاذ بالطبع. وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أهدى اليه  فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص  ينتظر، فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد  شيئا كان الالحاح. واضطر المازنى الى أن يذعن، وأكره المازنى  على أن يكتب، ولكنه كان قد أرسل الكتاب الى من يجلده. فلما  اشتد عليه الالحاح ذهب فى طلب الكتاب من المجلد. فدفع الى رحلة  غريبة، والى استكشاف أغرب. دفع من هذه الأحياء المتحضرة التى  تتسع فيها الشوارع، وتجرى فيها السيارات، وتنتشر فيها الشرطة،  والتى لا تتغطى أرضها بالوحل، ولا تمطر سماؤها مرقا ولا مخللا، الى أزقة  ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين،  وفى هذه الأزقة عرف المازنى الخوف والفرق، وعرف الهرب  والغلو فيه، وعرف كيف يكون وقع الأحجار على الأجسام، وكيف

يكون وقع الشتائم فى النفوس. ثم عرف كيف يفقد الناس  طرابيشهم، وكيف ينظرون وهى تهان وتمرغ فى الوحل تمريغا،  ثم عرف كيف يدفع الهاربون الى اقتحام الدور والاستخفاء فى  البيوت وقد غاب عنها أهلها. ثم عرف قصة الرجل الذى ذهب يطلب  كتابا ففقد طربوشه وعاد صفر اليدين.

والغريب أن هذه الرحلة الهائلة وما امتلأت به من الأخطار  كانت كلها فى القاهرة، وفى ساعات قصيرة، ولست أدرى فيم يحتاج  الذين يحبون الأخطار الى التماسها فى الصحراء أو فى الجبال أو على  الذين يحبون الأخطار الى التماسها فى الصحراء أو فى الجبال أو على  البحر المحيط، مادام الانتقال من حي من أحياء القاهرة الى حى آخر،  خليقا أن يرينا من الهول والخطر مثل ما رأى صديقنا الكاتب الأديب  ومن هنا نستطيع أن نفهم ضيق المازنى بالأدب والأدباء، وبالكتب  والمؤلفين وتضرعهم المتصل الى الله أن يعفيه من هذه الصناعة التى  يشقى بها، ولكنها تسعد به وتسعد الناس أيضا. ولكن الأستاذ  المازنى يتساءل فى شىء من الحيرة أيجب أن يقرأ ما يريد هو أم يجب  أن يقرأ ما يريد الناس؟ وإذا سمح لى بأن أجيبه فانى أرى أنه ملزم  بان يقرأ ما يريد، وبأن يقرأ ما يريد الناس، مادام قد أقبل على صناعته  هذه راضيا بها أو مكرها عليها، ولكن السؤال الذى أحب أنا أن  أسأله هو. هل يظن الأستاذ المازنى أنه أبرأ ذمته أمام القراء وأمام  المؤلف بهذا الفصل البديع الذى كتبه منذ أيام، فحدثنا فيه عن النقد  والطربوش وزجاج النافذة، وعما تحمل الأرض من وحل، وما تمطر  السماء من مرق؟ فان كان يظن أنه قد أرضى قراءه وصاحبه بهذا  الفصل فقد أصاب وأخطأ فى وقت واحد: أصاب لأن الفصل  بديع، وأخطأ لأنه لا يغنى من النقد شيئا، فلن يعفيه صاحب  الكتاب من الالحاح عليه، ولن يدعه حتى يقول إنه قد قرأ هذا  الكتاب فرضى عنه أو سخط عليه.

وسؤال آخر، أحب ألا يغضب صديقى المازنى حين أسوقه  اليه. ما باله يطغى على نفسه ويسرف عليها فى الطغيان، ويصورها  هذا التصوير الذى لا يلائمها بحال من الأحوال، والذى لا نحبه لها؟  فهل من الحق أنه هياب الى هذا الحد؟ كلا، ولكنه يحب أن  يعبث بنفسه فيسرف فى العبث، وأكبر الظن أننا ان حدثناه فى ذلك  ضاق بنا وضجر، وشكا من هؤلاء الطفيليين الذين يدخلون بين الناس  وبين أنفسهم، وقال اذا لم يكن لى الحق فى أن أعبث بنفسى فلمن

( البقية على صفحة ٥٢٠)

(بقية المنشور على صفحة ٤٨٤)

يكون الحق فى أن يعبث بها اذن؟ أما أنا فاجيب الاستاذ بأن هذا  الحق ليس مباحا لاحد، ولكن الناس يستبيحونه لأنفسهم، سواء  أرضى الأستاذ أم لم يرض، وأنا أتحداه، وأطلب اليه، أن يرينى كيف  يستطيع أن يمنع الناس من أن يتناولوه بما يحبون من ألوان النقد  والعبث لا بما يحب هو، كيف يستطيع أن يمنع الناس من ذلك  دون أن يخرج عن طور الكاتب الاديب؟ واذن فما له يظلم نفسه  هذا الظلم، ويلح عليها بهذا العبث الذى لا قصد فيه، أم هل ضاقت  الدنيا بالاستاذ كما ضاقت بالحطيئة ذات يوم فيما يقال فهجا نفسه،  لأنه لم يجد من يهجوه، أم هل كره الأستاذ الأخذ والرد، وضاق  بالحوار والجدال، وكره أن يذكر الناس فيغريهم بذكره، فآثر أن  يذكر نفسه هذه المسكينة التى لا تجد من يدافع عنها ويحميها من  صاحبها الطاغية. فان تكن هذه فقد أخطأ المازني، فهأنذا ادافع  عن المازنى برغم المازنى. أخشى ألا يكون لشىء من هذا كله أصل  ولا فرع كما يقولون، وان يكون المازنى قد أراد نفقد الكتاب الذى  طلب اليه نقده، فمضى به الخيال ومضت به الدعابة الى هذه الازقة  الضيقة الملتوية، يبحث فيها عن الكتاب وصاحب الكتاب، فلم يفد  الا أن فقد طربوشه واضاع على صاحبه الشيخ زجاج نافذته، ولم  يجن لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئا. وويل للكتاب وللمؤلفين  من دعابة المازنى ومجونه، وويل للكتاب والمؤلفين من الغاز  المازنى ورموزه، بل ويل للمازنى نفسه من طغيان خياله وجموحه،  فان في هذا الجسم النحيل الضئيل جسم هذا الرجل الهادئ الوديع  ماردا كالمردة وشيطانا لا كالشياطين.

أما بعد، فلنذكر النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها  من الأشياء والأشخاص، لنختم المقال كما بدأناه، وليعلم المازنى أنا لم  نتحدث عنه، ولم نشر اليه، ولم نفكر فيه، وانما تحدثنا عن كتاب نقد،  وطربوش فقد، وزجاج حطمه فتى من الفتيان تحطيما.

اشترك في نشرتنا البريدية