٣- الحرب الاهلية وما بعدها
أخذت الحياة البرلمانية فى النمسا تنحدر منذ أوائل العام الماضى الى معترك من الصعاب والعواصف، وألفت حكومة الدكتور دولفوس نفسها فى مأزق صعب. ولم يك ثمة بد من أن تنتصر المعارضة - أعنى الديموقراطية الاشتراكية - اذا تركت الأغلبية البرلمانية فى سبيلها وخصومتها، أو تتوسل الحكومة لبقائها بوسائل أخرى. ولكن وقعت فى يوم ٤ مارس أزمة برلمانية الفت الحكومة فيها فرصتها ووسيلتها، وذلك أن مناقشة عاصفة حدثت فى البرلمان فى ذلك اليوم حول تصرف نائب اشتراكي اتهم بأنه وضع ورقتين فى صندوق التصويت، واشتد القذف والاتهام والهرج من الجانبين، فاستقال الدكتور رنر رئيس المجلس واستقال الوكيلان، ومن ثم غدا انعقاد المجلس مستحيلا، اذ لا يستدعيه للانعقاد طبقا لنص الدستور سوى الرئيس أو أحد وكيليه؛ وقدمت الوزارة استقالتها للرئيس ميكلاس فأبى قبولها، وفوض لرئيسها ان يعمل بقوانين الطوارئ، وبذا اتخذت الوزارة صبغة دكتاتورية، واستطاعت أن تصدر بعض القوانين الاستثنائية التى رأت ان الحاجة تدعو اليها مثل رقابة الصحافة، ومنع الاجتماعات والمظاهرات السياسية الخطرة على النظام؛ بيد ان الوزارة ما لبثت أن اضطرت أن توجه
كل جهودها لمقاومة خطر آخر. أخذ يشتد شيئا فشيئا وينذر مصاير النمسا بشر العواقب؛ ذلك أن الوطنية الاشتراكية الالمانية أخذت منذ استيلائها على مقاليد الحكم فى ٣٠ يناير (سنة ١٩٣٣) تتدخل فى شئون النمسا بطرق ووسائل عديدة، وبث الدعاة الهتلريون فى جميع أنحاء النمسا دعوة شديدة لتحقيق مشروع الاتحاد النمسو الالمانى (الانشلوس) . وضم النمسا لالمانيا كما نعلم غاية جوهرية من غايات الوطنية الاشتراكية الالمانية سجلت فى برنامج الهر هتلر منذ انشاء الحزب الوطنى الاشتراكى، وعبر عنها "بتحقيق وحدة الشعوب الجرمانية" ، وقد شرحنا فيما تقدم كيف نشأت فكرة اتحاد النمسا مع المانيا وتطورت. وكانت الفكرة ما تزال قوية فى النمسا لدى الكتلة المحافظة حينما ظفرت الوطنية الاشتراكية بتولي الحكم فى المإنيا، ولم يكن يعارضها سوى الاشتراكيين الديموقراطيين؛ ولكن السياسة العنيفة الهوجاء التى اتبعتها حكومة برلين ازاء النمسا، كانت كما قدمنا سببا فى انهيار مشروع الوحدة، وكشف عدوان الوطنية الاشتراكية وصلفها وتجنيها فى الحال للشعب النمسوى عن فداحة الخطر الذى يهدد استقلاله وكيانه، وأيقن ان هذه الوحدة لا تعنى فى نظر برلين سوى خضوعه وعبوديته، وثارت حكومة فينا ومن ورائها الشعب كله ضد هذا التجنى، وأبدى الدكتور دولفوس حزما وصرامة فى قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية التى تنظمها حكومة برلين وتمدها بالمال والنصح، وأجاب الهتلريون بتدبير سلسلة من الاعتداءات والحوادث الجنائية، ولا سيما فى فينا وسالزبرج (شهر يونيه) . وأجابت حكومة برلين على ذلك بمنع السياح الألمان من زيادة النمسا، وفرضت غرامة فادحة للتصريح بهذه الزيارة، وساءت العلائق بين فينا وبرلين الى أعظم حد، وشغلت وزارة دولفوس بذلك الخطر الجديد الذى يهدد أمن النمسا وسلامتها، ولم تدخر وسعا فى مقاومته، وأيدها فى ذلك خصومها الديموقراطيون الاشتراكيون لأنهم أدركوا الخطر الذى يهدد الديموقراطية إذا ظفرت الوطنية الاشتراكية فى النمسا؛ وعمد الدكتور دولفوس الى العمل السياسى، فزار رومة ولندن وباريس ليثير قضية النمسا باعتبارها مسألة أوربا الوسطى، وليبين أن استقلاها مسالة دولية تهم قضية السلام الأوربى كله؛ فنجحت مساعيه فى هذا الشأن؛ واستطاع أن يغنم مؤازرة دول الحلفاء ضد السياسة الالمانية، وأن
يحصل على تعديلات هامة فى النصوص العسكرية لمعاهدة سان جرمان، إذ سمح للنمسا أن تزيد جيشها ووسائلها الدفاعية؛ وتولى الجنرال فاجوان وزير الحربية وزعيم الحزب المسيحى الاشتراكى (بعد وفاة المونسنيور سيبل) تنظيم القوات الجديدة، ونظم قوات الهايمفر أيضا لتعاون فى تأييد النظام، واستطاع الدكتور دولفوس بكثير من الحزم والشجاعة والجلد أن يحبط تحريضات الدعوة الألمانية ودسائسها، وكاد يفقد حياته فى ذلك السبيل، اذ أطلق عليه الرصاص من أحد الدعاة الهتلرين وأصيب إصابة خطيرة (فى ٣ أكتوبر) ولكنه نجا، ولم يزده الاعتداء سوى شجاعة وإقدام فى مقاومة الخطط والدعوات الهتلرية ومطاردة أنصارها فى جميع أنحاء النمسا.
فى أثناء هذا الصراع كانت الديموقراطية الاشتراكية ترقب مجرى الحوادث. وكانت الخصومة الخالدة بين الديموقراطية والكتلة المحافظة (الاشتراكيين المسيحيين والهايمفر) ما تزال قائمة، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كانوا يؤيدون الحكومة فى قمع الدعوة الوطنية الاشتراكية، ويشتركون معها فى خصومة الجبهة النازية (الوطنية الاشتراكية) لأنها خطر فادح على مثلهم وكيانهم، بيد أنهم لم يهادنوا الحكومة فى غير ذلك، ولم يتركوا فرصة لمعارضتها والعمل على اسقاطها؛ وكانت الحكومة من جانبها تخشى خطط الديموقراطية ومفاجآتها، خصوصا مذ تذرعت بالسلطة الدكتاتورية، ورفضت اجراء الانتخابات واعادة الحياة النيابية.
كانت المعركة دائمة مستمرة بين الجبهتين اللتين تشغل خصومتهما حياة الجمهورية منذ قيامها، ولكنها كانت فى الأشهر الأخيرة معركة تربص وأهبة، وكان من الممكن بل من الطبيعى أن يقع الصدام بينهما من آن لآخر، كما وقع دائما خلال الأعوام الأخيرة، بيد أنه لم يكن يتوقع أحد أن تضطرم بينهما معركة الحياة والموت فى مثل هذه الظروف العصيبة، ولم يكن يتوقع أحد بالأخص أن تلقى الديموقراطية النمسوية حتفها فى تلك المعركة وأنت تختفى من ميدان الحوادث بمثل هذه السرعة.
ولقد شهدنا منذ أسابيع قلائل فقط تلك المعركة الهائلة وتتبعنا حوادثها السريعة بمنتهى الروع والدهشة؛ كانت مفاجأة لم تتضح حتى اليوم ظروفها وبواعثها الحقيقية. ونكتفى بان نقدم هنا خلاصة
وجيزة عن تلك الحوادث التى لا تزال ماثلة فى الأذهان: ففى ظهر يوم الاثنين الثانى عشر من شهر فبراير، ذهبت سرية من رجال البوليس لتفتش دار العمل (مركز الديموقراطيين الاشتراكيين) فى مدينة لنتز عاصمة النمسا العليا، فأطلق الجند الديموقراطيون (الشوتسبند) النار على البوليس القوا عليه القنابل فقتل عدة من رجاله؛ فأرسلت الحكومة فى الحال عددا كبيرا من الجند، ونشبت المعركة الأولى فى لنتز بين الديموقراطيين وجند الحكومة، والظاهر أن هذا الحادث الأول كان ايذانا بنشوب المعركة العامة. ففى نفس الوقت قطع العمال فى فينا التيار الكهربائى فعطلت المواصلات، وأعلن الاعتصاب العام؛ وكان ذلك بدء الحرب الاهلية فاعلنت الحكومة القانون العسكري وحشدت القوات بسرعة البرق فى كل ناحية، ولم يأتى المساء حتى كانت مدينة فينا تضطرم بلظى معارك هائلة؛ وتحصن رجال الشوتسبند فى مساكن العمال الكبرى، ولا سيما فى كارل ماركس هوف، وأوتاكرنج وسيمرنج وفلوريتسدورف، وغيرها من ضواحى المدينة الآهلة بالعمال، وأصلوا جند الحكومة وابلا من الرصاص والقنابل، وأطلقت قوات الحكومة المدافع الكبيرة على معاقل الاشتراكيين؛ واستمرت المعارك فى اضطرامها وشدتها حتى يوم الأربعاء. ووقعت مثل هذه المعارك فى عدة مدن فى الاقاليم، ولا سيما بروك وشتير وجراتز واشترك جنود الهايمفر مع قوات الحكومة؛ وأبدى الاشتراكيون شجاعة وبسالة نادرتين فى الدفاع عن معاقلهم وأنفسهم؛ واستعملت الحكومة منتهى الشدة والعنف؛ وقبضت على الموظفين الاشتراكيين وعلى أعضاء المجلس البلدى؛ وقررت حل الحزب الاشتراكى الديموقراطي ومصادرة مراكزه وأوراقه وأمواله وصحفه وكل مؤسساته، وصدرت أحكام الإعدام ونفذت على كثير من الاشتراكيين، ولم يأت مساء الخميس ١٥ فبراير أى لرابع يوم فقط من بدء القتال حتى كانت قوى الاشتراكية الديموقراطية قد حطمت فى كل ناحية، وغدت فلولا ممزقة؛ وقبض على عدة من زعمائها مثل رنروسايتز وسفر، وفر الزعيمان باوروديتش الى تشكوسلوفاكيا؛ وانتهت تلك المأساة الدموية بمقتل ألفين وجرح آلاف من الجانبين؛ واختفت الديموقراطية الاشتراكية من الميدان، واختتمت حياتها القوية الحافلة بسرعة، وقضت الكتلة المحافظة (الاشتراكيون المسيحيون والهايمفر) على خصومها الخالدين لتنفرد بالأشراف على مصاير النمسا
ولقد كان سحق الديموقراطية عملا فى منتهى الجرأة والخطورة من جانب الدكتور دولفوس وزملائه وخصوصا لما اقترن به من العنف والضحايا الفادحة. ومن الصعب أن نقول اليوم كلمة حاسمة سواء فى المسئولية أو النتائج؛ فاما من حيث المسئولية فان حكومة فينا ترجعها جميعا الى الاشتراكيين، وتقول أنه يبدو من اضطرام الثورة فى معظم أنحاء النمسا فى وقت واحد، ومن شدة المقاومة التى بذلها الاشتراكيون، ووفرة الأسلحة والذخائر التى وجدت لديهم، ومناعة الأبنية التى اعتصموا بها، أن الثورة كانت مدبرة، وأن الديموقراطية الاشتراكية كانت تتأهب للقيام بضربة عنيفة للاستيلاء على مقاليد الحكم؛ بيد أنه يقال فى ذلك أيضا إن الحكومة دلت على مثل هذه الأهبة، وأن ما أبدت من الشدة والعنف فى قمع الحركة، ومن قسوة وافراط فى إراقة الدم، ومن تصميم على سحق الديموقراطية الاشتراكية لا إخضاعها فقط، يدل على أنها عملت بتدبير وقصد وتتهمها بعض الدوائر الخارجية فوق ذلك بأنها كانت تعلم فى ذلك بوحى من السياسة الايطالية. وأما من جهة النتائج فان الديمقراطية الاشتراكية كانت سندا قويا للحكومة فى كفاحها ضد الدعوة الهتلرية، وكانت بطبيعتها هي الصخرة التى تتحطم عليها محاولات الوطنية الاشتراكية الالمانية، فالآن وقد سحقت، فانه يخشى أن لا تستطيع الكتلة المحافظة أن ترد بمفردها عدوان السياسة الالمانية، ومحاولات دعاتها فى الداخل؛ واختفاء الديمقراطية الاشتراكية من الميدان يشجع الحركة الفاشستية على الظهور، وقد اشتد ساعدها الآن بالفعل وأضحى لانصارها "الهايمفر" كبير نفوذ وسلطان فى الحكم وفى تسيير الشئون العامة، والهايمفر يملون اليوم ارادتهم على حكومة فينا، وليس بعيدا أن يتحركوا غدا لانتزاع الحكم. بيد أن "الهايمفر" ما زالوا يؤكدون خضوعهم للدستور وولاءهم للحكومة؛ وقد نفوا غير مرة بلسان زعيمهم البرنس شتارهمبرج ما ينسب اليهم من التأثر بوحى السياسية الايطالية؛ وصرح البرنس شتارهمبرج غداة سحق الاشتراكية، بان الفاشستية النمسوية تقتبس حقيقة من مبادئ الفاشستية الايطالية ولكنها ليست مقلدة عمياء، بل هي تفكر وتعمل طبقا لظروف النمسا وحاجاتها؛ ولخص برنامج حزبه فقال: أن الهايمفر ابعد ما يكون عن فكرة ارهاق الطبقات العاملة، ولكنهم
يعملون لجمع كلمتها حول مثل اجتماعية مشتركة؛ والهايمفر مخلصون لمبدأ الجامعة الجرمانية، ولكنهم أيضا مخلصون لمبدإ الاستقلال النمسوى، ولا يقبلون بأى حال أن تبسط المانيا سيادتها على النمسا، ولا أن تبذل النمسا ذرة من استقلالها فى سبيل ارضاء المانيا. وهم ينكرون مبادئ السياسة الهتلرية كلها لأنها تنافى مثلهم النصرانية هذا وليس هنالك فى الآونة الحاضرة ما يدل على أن الهايمفر يفكرون فى القيام بأية حركة لمقاومة الحكومة، وكل ما هنالك بالعكس يدل على أن التفاهم تام بين الفريقين.
وقد اتخذت مسألة استقلال النمسا عقب الحوادث الاخيرة أهمية خاصة، ولا سيما لما تبين من أن النازي النمسويين (الوطنيين الاشتراكيين) ، سواء داخل النمسا أو فى المانيا حيث يحتشد منهم عدة آلاف يتربصون الفرص لتنفيذ خطط حكومة برلين، ويدبرون الوسائل لإحداث انقلاب يمكنهم من انتزاع الحكم. وحكومة برلين هى التى تقوم فى الواقع بتنظيم هذه الحركة كلها، وقد انتدبت لذلك عدة من الدعاة والمحرضين على رأسهم الدكتور هابخت، وحشدت من اللاجئين النمسويين قوة عسكرية كبيرة تهدد من آن لآخر باقتحام الحدود والزحف على فينا. وقد غدت مسالة استقلال النمسا مسألة دولية، وانتهت المساعى التى بذلتها حكومة فينا فى ذلك السبيل بأن أعلنت ايطاليا وفرنسا وبريطانيا العظمى فى تصريح رسمى بأنها ترى وجوب المحافظة على استقلال النمسا كشرط لاستتباب السلم فى أوربا، وأبدت ايطاليا اهتماما خاصا بمقاومة مشاريع السياسة الالمانية لانها تهدد سلامة حدودها الشمالية ومصالحها فى أوربا الوسطى، وتوترت العلائق من أجل ذلك بين المانيا وايطاليا. وانتهت الجهود التى بذلها السنيور موسولينى فى ذلك السبيل بأن عقد أخيرا فى رومة ميثاق سياسى إقتصادى بين ايطاليا والنمسا والمجر يرمى الى توحيد الجهود السياسية والاقتصادية بين الدول الثلاث فى سبيل رد أى اعتداء يوجه الى حقوقها أو مصالحها.
وكان من أثر ذلك أيضا أن قويت الدعوة الى إعادة الملوكية فى النمسا كوسيلة لتقوية استقلالها والقضاء على اسباب الخلاف الداخلى فيها، وليس فى معاهدة الصلح (سان جرمان) ما يمنع عودة آل هبسبورج الى النمسا وعودة العرش النمسوى، ولكن الحلفاء كانوا يعارضون دائما فى هذا العود، بيد أن الفكرة تلقى اليوم
قبولا فى كثير من الدوائر التى كانت تنكرها من قبل، وقد نشطت هذه الدعوة أخيرا فى النمسا، وأقيمت عدة اجتماعات من أنصار الملوكية تحت رعاية الحكومة، وقيل إن الرئيس ميكلاس ينوى الاستقالة من منصبه قريبا ليمهد الى هذا العود، ولا يوجد فى النمسا من يعارض الفكرة الآن بعد ذهاب الديموقراطية الاشتراكية؛ وهى بالعكس تلقى تأيدا من الحزب المسيحى الاشتراكى (حزب الحكومة) ومن حلفائه الهايمفر. ويرى أنصار الفكرة أن عود الملوكية خير وسيلة للقضاء على مشاريع السياسة الالمانية فى ضم النمسا (الانشلوس) وأما فى الدوائر الخارجية فان ايطاليا وفرنسا اللتين كانتا تعارضان من قبل فى هذا العود أشد المعارضة، لا تريان اليوم بأسا منه، وفى وسع فرنسا أن تذلل معارضة حليفتها تشيكوسلوفاكيا وفى وسع ايطاليا أن تذلل معارضة صديقتها المجر، وعندئذ تغدو مسألة عود آل هبسبورج الى عرش النمسا مسألة تخص النمسا وحدها، وتتوقف على ارادة الشعب النمسوى وحده.
" تم البحث "

