الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامسالرجوع إلى "الرسالة"

الوادى

Share

إن قلبى المكلوم، المتقطع حبل رجائه حتى من الأمل، لن  يزعج الأقدار بعد الآن بابتهالاته كما كان يزعجها من قبل.

ولكن أيها الوادى، يا مأواى فى أيام طفولتى، أفسح لى مجالا  - ولو ليوم واحد - فأعيش فى ربوعك فى انتظار المنون.

ها هى ذى الطريق الضيقة المؤدية إلى ذلك الوادى المظلم:  هنا، فى أحضان هذه الروابى، تقوم أشجار تلك الغابات  الكثيفة، فترسل ظلها على وجهى الشاحب، وتحوطنى بسكون مسكر.

وهناك جدولان يسيران تحت (جسور"2") من الأعشاب  المخضوضرة، فيرسمان فى انسيابهما تعاريج الوادى ومنحدراته،  وتراهما بين الفينة والفينة، يمزجان تموجاتهما الفضية بألحان خريرهما  العذبة، ثم يتلاشيان قريبا من المنبع، بعيدا عن أعين الناس.

وأيامى فى انسيابها أشبه بهذين الجدولين! فهى تمضى وتتلاشى  دون أن يشعر بها الناس، ودون أن تحدث ذلك الخرير العذب!  أما نفسى الكئيبة الملتاعة فهيهات أن تعنى بحياة يوم جميل من  أيام حياتى.

إن خمائل الوادي الفينانة، بظلها المخيم، دفعتنى لقضاء النهار"2"  كله على ضفاف جداولها، فنفسى الحساسة تغفو على أنغام خرير  المياه، كما يغفو الطفل فى مهده على صوت المناغاة.

هناك تحوطنى الطبيعة بأسوار من العشب الاخضر، وبأفق  محدود، لكنه فسيح لناظرى.

إننى أحب أن اثبت قدمى، وأن أبتعد عن الناس لأسمع خرير  المياه، ولأتمتع برؤية السماء.

لقد رأيت فى حياتى أمورا كثيرة، وشعرت باحساسات جمة،  وملأت أيامى عشقا. والآن جئت أستوحى الطبيعة فى هدوئها الشامل.

أيتها الأماكن البهيجة الجميلة! كونى لى تلك الضفاف التى ينسى  الإنسان بقربها كل شىء، فقد أصبح سر سعادتى فى النسيان.

هنا يطمئن قلبى؛ هنا ترتاح نفسى؛ هنا تلفظ ضوضاء العالم  البعيد أنفاسها الأخيرة كما يلفظ الصوت البعيد أنفاسه حين تبعد به  الشقة قبل أن يصل مع النسيم إلى الأذن الحائرة.

من هنا، ومن خلال هذه الغيوم الصافية، أرى ماضى حياتى  يختفى فى ظلام دامس، تاركا لنفسى ذكريات حية لحبى، كما تترك  اليقظة فى نفس المستيقظ صور خيالات جميلة لحلم لذيذ قد استفاق منه.

يا نفسى! خذى حظك من الراحة فى هذا المنزل الأخير كما  يأخذ المسافر الطافح قلبه بالامال، حظه من الراحة، قبل أن يدخل  أبواب المدينة، يستنشق هنيهة نسيم المساء المعطر

ولننفض نعالنا كما يفعل هذا المسافر، لأننا لن نمر ثانية فى  هذه الطريق التي اجتزناها مملوءة بالغبار، ولنتذوق مثله أيضا، فى  آخر مرحلة من طريقنا، هذا الهدوء الذى يبشرنا بضجعتنا الأبدية

أيها الإنسان! إن أيامك المعدودة، التى تشبه فى حلكتها  وقصرها أيام الخريف، تنحدر بك كما ينحدر الظل على جوانب  الهضاب. فالصداقة تخونك، والرحمة تعرض عنك، إلى أن  تتركاك فى طريق القبر وحيدا.

ولكن الطبيعة هنا تدعوك إليها لتبثك أشواقها، فارتم فى  أحضانها.

عندما يقلب لك كل شىء ظهر المجن، عندما يخونك كل شىء  ويعرض عنك، ترى الطبيعة على حالها المعهودة. فالشمس نفسها  تشرق طيلة أيام حياتك.

أن الطبيعة لم تزل كما كانت عليه بالأمس، ترشدنا تارة بنور  حقيقتها، وتظللنا أخرى. فلا تأسف أيها الإنسان لكل ما تضيعه  من متاع الحياة الدنيا. وتعال تعبد ذلك الصدى وألحان تلك  الموسيقى العلوية كما كان يتعبدهما (فيثاغورس"1") من قبلك.

دع الطرف يناج الغزالة فى سمائها نهارا، والأشباح فى  محرابها ليلا؛ واسبح مع الغيوم على بساط الريح؛ واخترق غابات  الوادى الظليلة مع أشعة ذلك الكوكب الخفى.

إن الله خصك أيها الإنسان بالعقل والفطنة لكى تتحقق بهما  وجوده. فاستجله فى صحيفة الطبيعة، فإن فى سكونها وهدوئها  صوتا يهتف باسمه.

من منا لم يسمع هذا الصوت يدوى فى أعماق قلبه؟.

بيروت

اشترك في نشرتنا البريدية