الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

الوطنية والارض في الجزائر

Share

مقدمة

الاستاذ مصطفى الاشرف من شباب الجزائر الذين يفتخر القطر الشقيق بثقافتهم المركزة الواضحة وتفكيرهم القومى النير . وهو كغيره من شباب الجزائر الكثيرين الذين لم تستطع المؤسسات العالمية الموجودة فى بلادهم ان تحتضنهم.

ويكفي ان نذكر منهم الاستاذ ابو مدين الشافعي مدرس الفلسفة في جامعة القاهرة. والاستاذ الاشرف اذ كان يعيش فى باريس منذ سنوات حيث يدرس العربية بمعهد لوى لوغران فقد حمل معه تفكيره القومى ومشاكل بلاده الحيوية إلى العاصمة الفرنسية يبحثها وينقب عنها وينشرها كتبا او مقالات فى ارقي مجلات فرنسا . وللاستاذ الاشرف ميل خاص الى كل ما يتصل بالارض الجزائرية سواء من الناحية السياسية او الادبية . فأغلب اشعاره - والاستاذ شاعر وناثر بالفرنسية من طراز راق - عن اغاني بنات الريف الجزائريات وتصوير حياة الفلاح الجزائري وما يكتنفها من صور مؤلمة رائعة . وكذلك اغلب بحوثه العلمية والأدبية تدور حول الارض الجزائرية ومشكلتها السياسية والاجتماعية ، وقد علمنا انه الان بصدد تأليف كتاب عن هذه المشكلة . اما هذا الفصل الذى ننقل لها اليوم عن مجلة "اسبرى" عدد ١٩٥٥٣ فهو يعطينا صورة شاملة عن مزايا الاستاذ الاشرف العلمية والادبية والسياسية جمعا .

جرى الحديث كثيرا عن الوطنية فى شمال افريقيا دون ان يهتم اصحاب هذا الحديث بان يبينوا كيف ان هذه الوطنية هى فى غالب الاحيان عبارة عن

الحركة محلية منبثقة عن حقائق عميقة الغور وناتجة عن تطور تاريخي لاجدال في قوميته. وانما كان الاهتمام دائما منصرفا الى اعتبار هذه الوطنية حركة داخلية اتية من الجامعة العربية واذاعة القاهرة . فى حين ان هذه الوطنية فى المغرب العربى اقدم عهدا حتى من تلك التى نشأت فى بلاد الشرق الادنى وتختلف عنها طبيعة وماهية ، وتحوطها ظروف خاصة بها تتميز بمشكلة الارض التي تلتصق بها التصاقا لا ينفصم كما تتميز بمشكلة تشابك عناصر مختلفة من السكان قد وزعت بينهم العدالة توزيعا غير متساو . كما تتميز اخيرا بطموح اهلها للسيادة الوطنية . وهو طموح كان دائما عرضة للكبت والمقاومة . وظاهرة الاستعمار التي كانت دائما تبدو في بلاد المشرق فى الصور الادارية والاقتادية - نجدها فى شمال افريقيا تتخذ طابعا اخر مغايرا وهو كونها نتيجة لوجود جالية استعمارية مستقرة .

ولكي نتصور هذه الظاهرة بوضوح يحس ان نقسمها الى اربعة انواع من التعابير وهي : الوطنية والقومية . والاستعمار (كمذهب) والجالية المستعمرة . وعندما نقابل بين هذه التعابير نجد ما يلي: الوطنية فى مقابل الجالية المستعمرة . والقومية في مقابل الاستعمار.

وهذا التقابل هو الموجود فى الجزائر . منذ خمسين عاما . وهو الذى نجده مائلا خلال حرب طاحنة وثورات مسلحة تسبب فشلها في ضياع مئات الالاف من الهكتارات من الارض من ايدى اصحابها وفى الاستيطان المستمر المتوصل من طرف عنصر جديد من السكان الاجانب عن البلاد .

هذه الحرب وهذه الثورات وما استتبعت من قمع ، والتى دامت منذ ١٨٣٠ الى 1884 وبلغت اوجها من الشدة فى سنوات ١٨٤٥ و ١٨٤٩ و ١٨٥٧ و ١٧٧١ قد كان من نتائجها المباشرة شئ اسمه التدمير . ونتائج اخرى بعيدة هى "خروج " ملوك الشعب من يده .

ولكي يقوم هذا الغزو المزدوج على قواعد قوية (وهو غزو الارض واسكان العنصر الاوربى فيها) - روعى اقامة انظمة متميزة يكون عبؤها على سكان الارياف افدح مما هو على سكان المدن . لذلك كان لسكان الارياق وعى بالخطر

الذي يتهددهم اكثر مما هو عند سكان المدن . وكان ان تبلور وعيهم هذا في وطنية مكافحة حربية بقدر ما انبثقت عن غريزة البقاء والمحافظة على الذات (باعتبار ان ارضهم هى مدار الغزو الرئيسى) كما اتخذ ايضا روحا جماعية صهرت في بوتقة من المفاهيم القومية والفكرية والاخلاقية .

ان هذه "الوطنية" الدفاعية التى هى بنت الارض قبل كل شىء انضاف اليها فيما بعد الروح الوطني فى المدن . وهو روح له طابع خاص تماما كان سبب فشله النسبى هو انه جهل او تجاهل المقتضيات والفوائد المتنوعة التى سبقته من سنة  1830 الى سنة ١٨٧١.

كانت مهمة وطنية الارض هذه او وطنية الفلاح تضطرها طبيعة الاشياء الى الانتهاء بعيد الثورة الشعبية الكبرى التى نشبت فى سنة ١٨٧١ واستمرت متقطعة الى سنة ١٨٨٤ . ولم تعد هذه الحركة لتستطيع الاستمرار فى الارياف مدة طويلة على شكلها الاول من الكفاح فضلا عن ان تتخذ شكلا مذهبيا . ووضعت اجهزة الجالية الاستعمارية قواعدها بجانب السكان الفلاحيين وسيطرت عليهم . واخذت - شيئا فشيئا - تسلب منهم الوسائل المادية التى كانت تعينهم على الصمود والمقاومة ونسفت انظمتهم الفلاحية الجماعية القبلية وكونت في داخلهم اقطاعية مفتعلة اصبحت فيما بعد من اقوى العوامل على خضوعهم واستسلامهم .

وهكذا اصبحت الجزائر - بحكم اتجاهها الاقتصادي والاجتماعى الفلاحيين - عاجزة فى ميدان الكفاح عن الالتجاء الى النخبة من ابناء المدن الذين كانوا فى الماضى القريب خاضعين لزعماء القبائل والذين ذاقوا مع ذلك مرارة النفى والتشريد .

وكان لابد من مرور نصف قرن تقريبا حتى تنشأ لاول مرة في المدن قومية غامضة عند سكانهم الذين استطاعوا - بكثير من الاناة والصبر - ان يستعيدوا تكوينهم على هامش المدن تقريبا ولكنهم لم يستطيعوا - في الميدان المذهبى ان يبلغوا المستوى الذى بلغه القرن السابق فى ميدان المقاومة الفعلية .

ومما يلفت النظر ايضا ان وطنية الحضر قد نشأت في ايامنا هذه بشكل لم يكن منتظرا ان لم يكن متناقضا من بين الفلاحين الجزائريين الذين هاجروا

الى فرنسا ، ونحن نعرف من ناحية اخرى ان جهود الامير خالد سنة ١٩٢١ التي كان اهم ما فيها انها كانت " علامة " او ارهاصا او سابقة بطولية فى العودة الى النضال السياسي . او ان شئت كانت انطلاقا للوعى الجزائرى بعد نعاس طويل - هذه البادرة اصطدمت بعدم اكتراث او بخوف بعض المثققين وسكان المدن ووجوه القرية دون ان تلامس الجماهير الشعبية الرازحة تحت نظام "الاهلية" .

الا انه في الفترة نفسها تقريبا كان العمال الجزائريون فى باريس -  واغلبهم من الفلاحين - قد وجدوا انفسهم بعيدين عن قوانين القمع والارهاق التي كانوا يعانونها في مديرياتهم وقراهم بالجزائر . كما اخذ شعورهم يصطدم بالتفاوت الكبير بين ظروف حياتهم وحياة زملائهم الفرنسيين . وتكونت اتصالات جديدة وتفتحت الاذهان على آفاق جديدة من حوادث العالم (الشيوعية الناشئه وكفاح العمال ووصاية فرنسا على سوريا وثورة كمال اتاتورك وحرب الريف الخ ... ) فساهم كل ذلك في تكوين شكل من العمل الوطني الذي اصطلح على تسميته "بالوطنية" بالرغم من انه لم يكتمل خلقته بعد . واتخذت هذه الوطنية في صفوف "نجم شمال افريقيا " - وهذا ميدان اخر جديد - شكلا من الكفاح عادت به الى اصلها الذي كان توقف بعد سنة ١٨٧١.

منذ نصف قرن كان المجهود الرمزى الذى لم يستمر طويلا والذي قام به الامير خالد هو العلامات الاولى المتعثرة لوعى جديد جاء بعد غفوة طويلة الامد . وسار في طريق التطور السريع الذي كان يتجلى ويتبلور كل يوم اكثر بالرغم من العراقيل وانواع الضغط .

والواقع اننا نستطيع ان نقسم تاريخ الجزائر الحديث الى ثلاث فترات متمايزة كاوضح ما يكون التمايز . الفترة الاولى تبدأ من سنة ١٨٣٢ الى ١٨٧١ وطابعها الخاص هو المقاومة العملية الرسمية التى قام بها الامير عبد القادر ودولته الفتية . وكانت حربه هذه حركة جمهورية طويلة الامد ذات سلسلة متعددة الحلقات من الثورات بلغت ذروتها وانتهت بالمحاولة التى قام بها المقرانى والتي اخفقت . وقد اصبحت ارض الوطن كله كارض الفلاح مهددة بجالية

الاستعمار وبذلك كانت هى نقطة الدفع للكفاح المسلح الذي قام به الفلاحون منذ ما يقرب من اربعين عاما .

وفتحت المرحلة او الفترة التالية اثر الثورة السياسية - الفلاحية الكبرى التي نشبت سنة ١٨٧١ . وانتهت هذه الفترة حوالي ١٩٢٠ . وهى فترة السكوت المطبق لشعب لم يرض بما قدر له الا انه كان مكبوتا مختنقا تحت اقلية اوربية هى سيدة البلاد وما فيها من موارد بشرية ومادية . وهى صاحبة القول الفصل في مصير البلاد السياسي .

وهناك اخيرا المرحلة الثالثة هى هذه المرحلة التى نعيشها اليوم . والتى بدأت "بسابقة" الامير خالد الرجل الذى قطع الصمت الجزائرى سنة ١٩٢١

ثم توضح ذلك بصورة ايجابية اكثر عندما تكونت مؤسسة "نجم شمال افريقيا " سنة ١٩٢٣ . فنظرا لشخصية الامير خالد وانتمائه للنخبة من الطبقة البورجوازية ذات المذهب السياسى الفاتر المحتشم فان الحركة التى اوجدها لم يكن لها بد من ان تكون حركة مطالب اصلاحية بعض الشئ ولكن دون ان تصبح مطالب وطية . وهذه ظاهرة معقولة . فالجزائر العربية قد خسرت الكثير منذ خمسة وتسعين عاما . بل يمكننا ان نقول ان السكان قد انتهوا الى وضع تقهقروا فيه كثيرا عن حالتهم التى كانوا عليها فى الفترة ما بين ١٨٣٠ و ١٨٧١ . فقد فقدوا حتى مجرد الشعور اليومى بوطنيتهم . واصبحوا فى حالة أسر امام النظام الاستعمارى القائم الذي يزداد شدة أكثر فأكثر . ثم هم بعد ذلك قوم سلبوا مواردهم المادية للحياة .

ففى نظر كثير من الفرنسيين كان الدافع لغزو الجزائر المتعب والذي دام حوالي الاربعين عاما هو الارض . (أعلن الماريشال كلوزيل عندما تولي حاكما عاما جديدا للاوربين فى الجزائر سنة ١٨٣٥ : " كونوا حازمين ونفذوا مشاريعكم بكل حريتكم في متسع الاراضى التى نحتلها . إنني اضع تحت تصرفكم جميع القوات اللازمة لحمايتكم . اننا سنكون هنا - بفضل الحزم والمثابرة - شعبا جديدا يتضخم ويكثر عدده بسرعة اكثر من ذلك الذي تكون في اميركا

منذ قرون . وقد ضرب الماريشال كلوزيل المثل بنفسه على ذلك فاقتطع مساحات كبيرة من الارض لنفسه راجع كتاب روسى ج ٢ ص ٤ .

وكان الجزائريون من ناحيتهم وخاصة الذين يعيشون منهم على محصول الأرض يتصورون خطر هذا الغزو فكانوا - مدفوعين الى ذلك بالغريزة - يبذلون جهودهم الاولى لعرقلة هذا الغزو وذلك بمقاطعة المدن وقطع الصلة معها وتخريب الموارد التبى تتمون منها .

اما اهل المدن فقد لعبوا -  بعناوين متنوعة - دورا حسب وسائلهم وامكانياتهم لخدمة حركة المقاومة وحركة الدولة الجزائرية .

ولكن ابناء المدن لم يكونوا هم الذين يعملون في صفوف الامير عبد القادر ولا من قواده ولا من نخبة السياسيين والاداريين الذين كان يسير بهم شؤون الدولة . وانما كانت الحركة قائمة على سواعد ابناء الريف . وكان سكان الجبال والبادية والعائشين على محصول الارض بصورة عامة هم الذين يتولون القيادة والاطارات في الجيش المقاوم النظامى . جيش الامير عبد القادر.

وما يفسر لنا هذه الظاهرة كلها هو ان الجزائر التى كانت باستثناء بعض المدن التي ترزح تحت النظام التركى والتى كانت محتلة بعناصر الميليشيا وجنود المخزن - كانت ذات اتجاه ريفى واضح ، وبصفة عامة فقد كان النفوذ التركى - بالرغم من النظام المخزني - يثقل كاهل المدن اكثر مما يفعل ذلك فى البادية والريف في حين ان الاستعمار الفرنسى فعل العكس وهو انه ناء باعبائه كلها على البادية حيث لقي المقاومة العنيفة ، وكان للنخبة من ابناء البادية فرصة لان يتكونوا فى عدة ميادين . قال الجنرال فالازي في بعض تقاريره عن " لجنة افريقيا " لشهر سنة ١٨٣٤ ؛ " ان العرب جميعهم تقريبا يحسنون القراءة والكتابة ، وفى كل قرية توجد مدرستان اثنتان " ( راجع كتاب جيلبير Guibert: استعمار شمال افريقيا ص444)  وفى الدرجة العليا من التعليم كانت توجد " الزاوية " التى هى بدوية خالصة ، وبالاضافة الى ذلك كان هؤلاء البدو وسكان القرى والمداشر يمارسون بعض الالعاب الرياضية البنانية التى جعلت منهم غالبا مع ما كانوا يتمتعون به من الهواء الطلق والرخاء الحقيقى فى العيش رجالا كاملى الرجولة . ولعل منظرهم على هذه الصورة هو الذي كان ينتزع احيانا صيحات الاعجاب من فم الجنرال بيجو

وضباطه الذين صيرت منهم الحرب الجزائرية هم ايضا رجالا اشداء ، لقد صاح الجنرال بيجو يوما فى مجلس النواب قائلا : " ءاه لو لم يوجد العرب في الجزائر او لو كانوا يشهون تلك الشعوب المائعة التى فى الهند (!) لما نصحت بلادي بأن تكون  جاليه الى جانب العنصر العسكري . ولكن وجود هذه الامة التي بلغت من شدة المراس والاستعداد للحرب حد ارفع بكثير مما هو عند الجماهير الاوربية يضطرنا اضطرارا الى ان نضع امامها وحولها وفى وسطها سكانا منا  يكونون على اوفر ما يمكن من القوة" .

وكتب الضابط "فيستي" سنة ١٨٤٢ يقول : " ان لهذا الشعب اوتارا من الحساسية يجب ان نعرف التوقيع عليها  . ثم يذكر مثلا على ذلك رجلين اتهما بقتل ضابط تركى يعمل فى الجيش الفرنسى . ووقع جرهما جرا الى جلاد باى مستغانم ليقطع يديهما . فقال : "حزم ذراع كل منهما عند الزند وشد على شرايينها بحبل . ثم وقع جز اليد بتمهل وبطء ثم رميت اليد على وجهه . ولكن يا سيدي الجنرال لقد رايت هذا بعيني . انه لم يظهر على الرجلين اثناء العملية اى شعور بالالم . لقد كان وجه كل منهما طبيعيا لا اثر فيه للتوتر او التقلص . ثم تناول كل منهما يدنا الملقاة على الارض بيده الاخرى وسار الرجلان جنبا الى جنب يتحدثان بهدوء عجيب " . ثم انهى الضابط رسالته بقوله : " ان رجالا من هذا الطراز قادرون على ان يفعلوا شيئا عظيما رائعا "

اذن ماذا يمكن فعله لجعل هذه الامة تذوب امام جالية اجنبية كثيرة العدد يؤيدها الجيش ، الوسيلة لذلك هى قبل كل شئ ان تسلب منه الارض التى يستمد منها صلابته . ثم افقاره لفائدة الوافدين الجدد . وجميع الشهادات التي ادلى بها الرسميون والمعاصرون لغزو الجزائر من الفرنسيين تتفق في هذا الصدد .

فقد تحدث الضابط " مالارمى" على جماعات هامة فى ضواحى قسنطينة وقعت ضدهم عمليات عقوبية فقال : " . . . ثم اعاد اولاد يحيا تنظيم شملهم (يفهم من هذا ان ذلك وقع تحت النفوذ الفرنسى) وسنعمل على افقارهم لان ذلك هو الضمان بالنسبة للمستقبل ." ( راجع كتاب رحلات افريقيا

ص ٤٩٣ ). اما م . " بوجولا " الذى ليس رجلا عسكريا وانما هو مسافر يلاحظ ويسجل وينحو نحوا ملحميا فى كتابته فقد قال فى كتابه "رحلة الى الجزائر" ص ٣١٩ : ان مصالح الدولة للاراضى والغابات مسعدة دائما للاستيلاء على الاراضي التى يملكها القبائل تحت نفوذنا . والكثير منها وقع سلبه . اما البقية من السكان فانهم مضطربون اضطرابا صامتا لانهم يخيشون ان يجدوا انفسهم يوما وقد طردوا من الارض التى يستغلونها والتى تحوي رفات اجدادهم".

ثم يقترح : "يجب ان نعيش مع العرب وان نتخذ مكانا لنا معهم . وذلك لا يكون الا بمضايقتهم وبسلبهم سلبا كليا او جزئيا " . ولنلاحظ هنا جيدا ان هذا هو كل برنامج الجالية الاستعمارية طيلة قرن كامل .

ان اغلب الجزائريين لم يكونوا مستعدين لان تقع مضايقتهم ولا لان تنتزع منهم اراضيهم . ففي المناطق التى كانت معرضة اكثر من غيرها كانت الجماعات الفلاحية تبحث عن ملجا لها فى الجبال .

ولكن فى مناطق اخرى وخاصة فى ضواحى الجزائر ووهران كان الامر مختلف عن ذلك تماما بالوغم من عمليات التدمير المطلقة ومن ذلك ما كتبه القبطان " فيمفان " فى احدى مراسلاته الحربية والتي قال فيها : " لقد تجو لنا طيلة ٦٢ يوما فى جهات سكبكدة . وقد اصبحت فيها القبائل الثاثرة مهشمة او مستسلمة ، ولكن يبدو لى من خلال كل ما رايته اننا لم نستطع ان نحصل الا على طاعة مكرهة .. فبعد تخريب مقادير هامة من المحاصيل وحرق المداشر وتقتيل العرب ما كادت القوات القوات العسكرية تنسحب من ميدان القتال حتى وقع الهجوم على ءاخر فرقة من قواتنا المنسحبة يصحبها معين من الاهالي وذبحوهم عن ءاخرهم" . ثم يقول الضابط نفسه : " لقد عدت الى زيارة القرى التي حرقناها فلم الاحظ اى مجهود بذل لاعادة ما دمرناه ". والواقع ان الحرب الجزائرية كانت غزوا متكررا لا ينتهى الا ليبدأ من جديد ، ويقول الكولونيل "دى منتى" : " ترى ما هو المستقبل الذي يمكن ان تامله جالية تحتل مثل هذه المراكز وحيث يجب ان يعاد الغزو فيها فى كل ثلاث سنوات ؟ " ومن الطبيعي ان لا تثير هذه المقاومة عند الغزاة الا القيام باقسي انواع القمع الى حد ان اغلظ

الضباط اكبادا - مثل الكولونيل كانروبير- كانوا يشعرون بضيق حقيقى يثقل ضمائرهم من الاسراق الذى يذهب فيه جنودهم اثناء عمليات الاتلاف المنظمة فيقول : "سواء كنت ممارسا او متفرجا مضطرا على هذه المآسى المتكررة فان ذلك لم يزدنى الا علما بالكوارث الغريبة التى ترتكبها هذه الوحشية . لقد مرت بي كثير من الاحوال وجدت نفسى فيها اتنهد غما من السقوط المعنوي والاخلاقي العميق الذي يجعل الجندي يذبح ويسرق ويعتدي على حرمات النساء ويقاتل لحسابه الخاص . ويفعل كل ذلك امام ضباطه العاجزين عن منعه " .

ومع ذلك فقد كان هناك ضباط اخرون اقل حساسية لهذه الفواجع مثل الكولونيل " فوري " الذي قال في احد تقاريره : " لم ار قط ولم اكن اتوقع مثل هذه الكثرة من السكان ومن ضخامة المراكز التى تجمعهم كما رايت في جبال بنى بوعايش وبني بومالك . فهنا تجد المساكن المنعزلة كثيرة ولكنك تجد ايضا مداشر وقرى شبيهة بالتبى عندنا في فرنسا وفي احسن واجمل ما تكون من المواقع وكلها محاطة بالبساتين والجبال المشجرة العاتية العظيمة وبالزياتين . . لقد وقفنا كلنا مشدوهين ذاهلين لهذا الجمال الطبيعى الذى لا يكاد يحد . ولكن الاوامر هى الاوامر . وقد كان اعتقادي انى اقوم بواجبى كاكمل ما يكون عندما لا اترك قرية واحدة قائمة ولا شجرة واقفة على ساقها ولا حقلا عامرا . وان الشرور التى اقترفها جنودى كانت لا تعد ولا يحصر مداها . ولكن هل ذلك شر ؟ ام هو خير ؟ اننى اعتقد شخصيا ان ذلك كان هو الوسيلة الوحيدة لحمل السكان على الاستسلام وعلى الهجرة ... "

والنتيجة التي توصل اليها مع السكان الجائعين كانت في الاغلب تنعت من قبل بعض الضباط بانها انتصار حربى عظيم الاهمية" . كما شهد بذلك الكولونيل فيرى الذى استعمل هذه العبارة وقال : "ان الحصار الذى اقمناه والمجاعة والعطش هى التي حملت عددا كبيرا من السكان على الاستسلام . فكانت سلاحا عظيم الاهمية".

اما الجزائريون الذين لم يكونوا مسلحين وكانوا يستطيعون التحرك والتنقل فقد ظلوا مصممين على مواصلة القتال بالرغم من البؤس والفاقة ، ذلك

انهم - كما قال "بوجولا" سواء كانوا اصدقاء ام اعداء فان املاكهم معرضة دائما للضياع" وقال "كانروبير": "تجولنا طويلا لكى نحرق ونتلف ونسحق القبائل بين البليدة والشليف وفى ضواحي شرشال . وبالرغم من ان الرعب الذى نشرناه كان عظيما فان الهدف الذى كنا نريد تحقيقه وهو استسلامهم ظل بعيدا".

ان المقاومة لم يكن يسهل التغلب عليها . والثورات بقيت متتالية والناس لا يخضعون عن طواعية . واذن فما هو العمل الذي يحقق هذه الغاية ؟ هل يسحق كل حي فى هذه البلاد ؟  وهل ستستطيع الجالية الجديدة ان تحمى نفسها بنفسها ؟

يجيبنا "لا مورسيار" على ذلك بقوله : " لكى نحقق تلك الغاية يجب ان نستورد مزارعين اوربيين . لانه لا يمكننا ابدا ان نثق ثقة كافية بالاهالي الذين سوف لا يترددون فى القيام بثورة عند سماعهم لاول بادرة للحرب . فبين الغزو والاحتلال الحقيقي لا يكون استسلام العرب الا مرحلة لابد منها . ان السكان المسيحيين الفلاحين هم وحدهم الكفيلون بان يحققوا املنا فى امكان استقرارنا يوما من الايام فى الجزائر..." ثم يختم قوله بهذه الشدة : " يجب ان نفعل كل شي لنجلب اكبر عدد ممكن من المزارعين المعمرين ونشجعهم بان تقتطع لهم الأرض ونملكهم اياها كلما ازداد عددهم " . ولنلاحظ ان " لا مورسيار " عندما كتب هذه الرسالة - وكان ذلك فى جانفى سنة ١٨٤٦ كان يوجد في الجزائر - باقراره هو شخصيا مائة الف معمر اوربي . فقبله هو بشهر واحد كان حاكم عام اخر وهو اليوتنان كولونيل "مارتانبري " يكتب بصورة لا تقل شدة عن تلك قائلا : " ان الطمانينة يمكن ان تستتب لبعض الامد بفضل الكلل والبؤس عند السكان . ولكن يجب ان لا نعتمد ابدا على ذلك ، وان اسكان اناس جدد يأتون هنا بكثرة ويسيطرون على الاهالى هو الامل الوحيد فى سيطرتنا الحقيقية على هذه الأرض التى غزوناها . وهذا باختصار هو ما يسمى الاستعمار " .

وقد استطاع القارى ان يلاحظ دون شك ان الكلمات الرئيسية التى يرد ذكرها بكثرة فى هذه الشواهد هى كلمات الجوع والمجاعة والبؤس حتى لكأنها

هى الهدف وكانها خطة ومشروع . على ان الوطنية الفلاحية تتبع وتتلو هذا الضرب من الاستعمار . فالجنرال " دى كافييناك " يقول فى بعض كتاباته: "انه من المهم ان نعين بالضبط ما هى الظروف التى اصبح عليها العرب الى اليوم من جراء الحرب . إن العربى يتشبث بارضه اكثر مما يظن عادة . والممتلكات عنده اكثر استقرارا مما نتوهم . وإننا فى هذا الصدد مازلنا فى حاجة لان نتعلم الكثير . وإن من الخطا اذن الظن ان العرب باعتبارهم قليلي العدد بالقياس الى ارضهم الواسعة سوف لا يكترثون بتخرينا لارضهم لانهم سيجدون دائما ارضا يعتاضون بها عما سلبناه نحن منهم . ان قواتنا (العسكرية) اينما كانت فهى ممتلكات خاصة مباشرة . "

اضف الى ذلك ان ممتلكات الاغلبية الكبرى من الجزائريين كانت ذات طابع جماعى . فالاراضى التى تسمى "العروش" هى اساس هذا النوع من الاملك التى هى عبارة عن مساحات واسعة يستثمرها عدد كبير من الجماعات بتضامن . وهذا ما يجعلنا نعتقد ان مفاهيمهم الجماعية هذه - دون ان تكون دستورا مسطرا مكتوبا - هى التى دفعت الفلاحين الى الدفاع عن الارض والحقل والبلاد كلها باعتبارها ملكا مشاعا للجميع . فنرى هؤلاء الفلاحين يسعفون المدن ويحذرون سكانها من الخيانة او الانهزامية والاستسلام ، ومن ذلك ان اهالى منطقة متيجة الزارغية كانوا - كما يحدثنا المؤرخون - على ابواب العاصمة الجزائرية فكانت المواصلات مهددة والهجومات والمكامن متسلسلة.

وقد كتب عنهم الجنرال " شانقارنيي " يقول : " ان هؤلاء المتمردين فى وجه السيطرة الاجنبية هؤلاء الوطنيين الاشداء قد استطاعوا ان يقوموا باعمال بطولية يتشرف اشهر فرسان اوربا بأن يحققوها ".

وقال عنهم الدوق دورليان الذي كان نزيها فى احكامه واقواله : " ان هؤلاء الرجال ذوى الحمية والبأس قد اذاقوا الفرنسيين متاعب لم يعرفوها فى كامل حروبهم الامبراطورية . وساهموا اكثر من اي جيش نظامى ءاخر في تدمير الجيش الفرنسى . فقد كانوا يمنعون الجيش من ان يذوق للنوم طعما وانما يضطرونه للبقاء على قدم التحفز الذى لا يهدأ ، ومع ذلك فان موت فارس منهم وهو الشاعر بو ثلجة الذى لقى حتفه في احدى المعارك كان

خسارة لا تعوض بالنسبة للقضية العربية فى الجزائر . فقد كان بوثلجة امام ذلك الانتقاض العام الذي قام به شعب يجرى فى عروقه دم الشجاعة والبطولة- هو اكبر الشعراء استلهاما لوحي تلك البطولة . فقد كانت اشعاره الغنائية مفعمة باوجاع مؤثرة ووطنية شرسة جعلتها شعبية شائعة في الشباب العربي ولكن الشاعر فضل ان يكون بين صفوف المقاتلين وان يكون مجرد جندي بسيط . لقد كان مثل " كورنير " . مات مثله بيد فرنسى في كفاح من اجل وطن كان يحلم كل منهما بعظمته ولكنهما لم يعرفاه فى ايامهما الا تعسا جريحا .

ان الشهادات على هذه الوطنية كثرة لا تكاد تحصر. فمدينة عناية التي  سلمها الاتراك ظلت مدة طويلة محاصرة من قبل الفلاحين العرب والبربر، وعندما احتلت بلدة دلز فى بلاد القبائل الكبرى من قبل قوات الماريشال بيجو سنة ١٨٤٤ وجد من بين المدافعين عنها بعض سكان مدينة بجاية الذين جاؤوا من اماكن بعيدة لنصرة مواطنهم . ولكن المثلين العظيمين لهذا الضرب من التازر الوطني هو الذي جرى فى منطقة الزعاطشة وايشيريدان ، والزعاطشة واحة صغيرة فى حبهات بسكرة كانت ملتقى لتجمعات هائلة قدمت من جبال اوراس وجبال المناطق الوسطى لتحاول ما اصبح مستحيلا وهو مجابهة الجيش الفرنسي الذي كان حينذاك قد تخلص من جيش الامير عبد القادر . وظلت هذه الواحة تقاوم هجومات الجيش الفرنسي شهورا طويلة الى ان محيت تماما ، وكانت مهمة وحدات اخرى فرنسية -  تساهم هي ايضا فى ضرب الحصار على البلدة - ليست هي القتال ولكن انحصرت مدة طويلة فى صد النجدات المتكررة المسلحة التى كانت ترد من بعيد لشد ازر الزعاطشة فى فترة كانت فيها حرب الانصار قد قامت - على مدى واسع - مقام الحرب النظامية التي كان يضطلع بها جيش الامير عبد القادر.

اما عن ايشيريدان فقد بقيت هى المركز القائم في قمة المقاومة الجزائرية ببلاد القبائل . وكان هو ايضا ملتقى لتجمعات غفيرة من سكان الجبال جاؤوا ليبذلوا ءاخر جهودهم وليخوضوا المعركة الاخيرة من اجل استقلالهم . وقد قال عنهم "روسي" : انهم جعلوا من ايشيريدان حصن الاستقلال امام الاحتلال

على ان هذه الحركة الوطنية كانت تتسم بطابع جميع حركات المقاومة المعروفة

في العالم وخاصة في فرنسا اثناء الحرب العالمية الاخيرة . ومن بين تلك الاساليب اعدام الخونة والتخريب وحركات الارهاب . فنحن نجد مثلا فى مراسلات بعض الضباط الفرنسيين صيحات من الفزع فى هذا الصدد . قال "كانروبير": أعدم بو معزة (رئيس الانصار) اربعة رؤساء موالين للسلطات الفرنسية ، وهذا النوع من القضاء على الرؤساء الذين نعينهم والذين يدفعون حياتهم ثمنا لوفائهم لنا ستكون له عواقب خطيرة اذا دام واستمر " .

ومن اعمال الارهاب في المناطق الزراعية ان جرى فى ظرف اسبوع من سنة ١٨٤٥ في جهة وهران - ما يلى : قتل ملازم ورئيس فرنسى لمكتب الشؤون العربية هو وحرسه جميعا . واعتداء ضد ضابط ءاخر ورئيس اهلى نصبه الفرنسيون قتل هو واتباعه كلهم . واختطاف ضابط آخر وقتل حراسه وفقرار فرسان المخزن في "تيارات" والسطو على قافلة عسكرية وحرق مخزن تموين للجنود ومحاصرة "سيق" وقطع المواصلات بين وهران ومعسكر وسيدى بلعباس.

وكانت دولة الامير عبد القادر الناشئة ترمي الى غايات اخرى وتعمل بوسائل مغايرة وبرجال منتخبين . قال الجنرال شانقارنياى : " فى طيلة المدة التى ظلت فيها حكومة الامير عبد القادر قائمة كانت مراكز مواردها ومخازن تموينها ومجاري مياهها على نفس المستوى الستراتيجى المعروف فى اوربا " .

وعندما نودي بالامير عبد القادر الشاب اميرا - وكان عمره ٢٤ عاما - فى شهر نوفمبر سنة ١٨٣٢ وشرع في تنظيم البلاد انضم اليه من جميع نواحي القطر الجزائري شباب أقران له فى السن يحملون فى الغالب نفس مستواه من الثقافة والمفاهيم السياسية التى جعلت منه فى الوقت نفسه عدوا للاستعماريين الفرنسيين واتباعهم من الاتراك والاقطاعيين الاهالى . والانصار الذين كانوا - مثل الحجويين - يعملون يعيدا عنه بمسافة400 كيلو ميترا وضعوا انفسهم تحت قيادته وكأن اين زمون نفسه - الذى يمتد نفوذه الى جبال القبائل قد اعترف بامرته دون ان يقبل بان يكون له خليفة لفرط تواضعه . واتخذ الامير الشاب السيد ابن سالم احد ضباطه الكبار عملا باشارة ابن زمون .

وظل الفرنسيون يبحثون عبثا عن رجال ذوى قيمة من بين الشعب

الجزائري لاستخدامهم . ويقول المؤرخ "روسى" : " كان الامر العسير هو ان نعثر على رجال من خيرة الرؤساء . فقد استولى عليهم جميعا الامير عبد القادر بطرفة عين واصبحوا تحت قيادته " . والواقع ان هذا الاختيار تم بصورة عفوية تلقائية . اى انه كان فى جانب يقف الوطنيون ويقف فى الجانب الآخر الخونة والجبناء . فالتاريخ يحدثنا ان الجزائر مرت بها فترة من الخيانة التي كان يقوم بها افراد هزيلو الشخصية فى حين كانت الاغلبية الكبرى من الشعب تقوم بحرب العصابات او تعمل تحت لواء الامير عبد القادر . وقد بلغ هزال شخصيات الخونة الى حد جعل بعض الضباط الفرنسيين ينعتونهم بنعوت مخجلة كوصفهم لهم بانهم "حلفاء حقيرون". وامام هذه المظاهر من الوطنية الجزائرية التي هى قوة الراي العام ماذا كان يمكن ان يكون موقف الخونة وسادتهم من الاستعماريين الفرنسيين؟ لقد كان رد فعل هذا الفريق الاخير يشير الى ما يعانون من عذاب الضمير ومن عقد نفسية عجيبة وخاصة فى اوساطهم الشعبية . ومن مظاهرتلك الوطنية ان الاهالى المتطوعين فى الفرق العسكرية الفرنسية كانت تفر من الجيش الفرنسى بكثرة جعلت الماريشال بسالي يطلب من وزير الحربية في شهر جانفي سنة ١٨٣٨ طردهم من الجيش ، ويقول روسى : " ان الجيش الفرنسى اصبح بالنسبة اليهم معسكرا للتدريب والتكوين العسكرى والتسلح لكى ينضموا بعد ذلك الى جيش الامير عبد القادر النظامي" .

اما فرق الخيالة والرديف من الاهالي الذين دخلوا الجيش الفرنسي بمساعدة الاقطاعيين فقد كانوا يتصرفون فى صلب هذا الجيش تصرفا اثار دهشة ضباطهم الفرنسيين . فقد لاحظ مثلا القبطان "دوكرو" سنة ١٨٤٦ ما يلي :

"ان وجود الامير عبد القادر يؤثر باستمرار على خيالتنا من الاهالي . وهو تاثير من الصعب علينا جدا ان ننزعه من نفوسهم بحيث يستولي على القسم الاكبر من معنوياتهم وقيمتهم بالرغم من جميع الجهود التى نبذلها "

وهذا مثل اخر على هذه الروح الممزوجة بالندم والحسرة عند الجندي الاهلى الذى كان يعمل فى صفوف الجيش الفرنسى وكان يحتج لدى ضابطه على قلع الاشجار في منطقة ثائرة .

ومثل اخر يذكره " مونتانياك " عن فرين من الخيالة اوتي بهم لينفذوا الاعدام فى قائد من قواد الانصار المقاومين . فيقول : " ان موت هذا الرجل (واسمه زردود) قد صدم خيالتنا الى حد اننى لم اجد منهم رجلا واحدا يضع فرسه تحت تصرفنا لنحمل على ظهره الرجل المحكوم عليه الى حافة الكهف حيث كنت اريد ان اضرب عنقة امام جميع افراد الخيالة الحاضرين فاضطررت لترجيل احدهم عن جواده بالقوة . فكان يبكى كالغبى الاحمق . اما عندما تهيانا لتنفيذ الاعدام فقد حدثت حادثة اخرى اهم . فقد صممت على ان يكون اعدامه امام جميع الخيالة الذين نظموا حديثا وذلك حتى اورطهم نهائيا عند بقية العرب الاهالى فى البلاد . ولكنني ام اجد احد احدا من بين الاهالي يقبل ان يقوم باعدامه واخيرا كلفت شابا تركيا بتنفيذ العملية ، فلم يبق احد من افراد الخيالة الا هدده بالقتل " .

ومع هذا فان جميع هؤلاء الجنود الذين كانوا مجرد جنود محترفين ويبرهنون على شجاعة ووفاء نادر المثال لم يكونوا يمارسون جنديتهم عن طيب خاطر - من الناحية الاخلاقية - لان اغلبية الشعب كانت غاضبة عليهم . وهذا ما يسجله " كانروبير" ايضا بقوله : "إننا لا نجد الا العداء من السكان حيثما كنا .. اننا لا نملك اصدقاء من العرب . . . "

لقد حاولنا فيما تقدم ان نستعرض بعض وجوه الوطنية الاساسية عند صاحب الارض . ورأينا كيف انطلقت من الارض المستغلة لتنشر وتتسع فتشمل ارض الوطن كله . ومع هذا فان العقدة الاولى ظلت دائما هى الحقل والممتلكات الجماعية وكل شئ وصلت اليه يد الجالية الاستعمارية او هددة غزو الاستعمار . ان الارض عند الكثيرين لا تنفصل عن جوهر الحياة . ومما يدل على ذلك هذا الفلاح من اولاد الرشيش فى الاوراس الذي صاح باعلى صوته عندما طبق قانون سنة ١٨٧٣ الفاجع : " ان الفرنسيين قد تغلبوا علينا فى فيافى السبيخة وقتلوا شابنا وفرضوا علينا اداءات حربية . ولكن كل هذا هين ولا يعد شيئا . والجراح لا بولها ان تلتئم . ولكن انشاء الممتلكات الفردية الخاصة والترخيص الذي اعطى لكل احد ان يبيع الاراضى التى تكون من نصيبه بعد اقتسامها

(تفكيك النظام الجماعي بالقوة) معناه اصدار قانون باعدام القبيلة . فبعد عشرين عاما من بدء تنفيذ هذا القانون سيكون اولاد الرشيش قد انقرضوا عن ءاخرهم كانت ءالاف الجماعات المنظمة على هذا الطراز ترنو بانظارها عاجرة الى تنفيذ هذا القانون على اراضيها . وهو القانون الذي قال عنه المؤرخ اوغوستان برنارد : " بعد مضى بضعة اعوام على بدء تنفيذ هذا القانون كان لابد من ايقاقه خوفا من قيام ثورة من جانب اصحاب الارض . ونعت مؤرخون ءاخرون مثل "ريمون اينارد" هذا القانون بانه : " الحكم النهائى على املاك الاهالى " ثم قال عن قائمة الاراضى التى وقع الاستيلاء عليها من قبل الجالية الغازية :

" وفي النهاية افاد العنصر الفرنسى فائدة بعيدة المدى من مجهودنا الوطني . ولكن هل يمكن ان نقول هذا القول عن الاهلي ايضا ؟ " ثم يجيب على سؤاله هذا بقوله : " ان الجالية المستعمرة فى نظرى تبدو فى اول الامر انها حلت محل الاهالي فى امتلاك مليونين من هكتارات الاراضى . وهو ما يساوي خمس المساحة التي يمكن استغلالها فى التل والوسط " . والرقم الذى اتى به " اينار" متحفظ اكثر مما يبغى وابعد ما يكون عن الحقيقة . فالواقع التاريخي هو ان جمع املاك الجرائريين (الجبال المشجرة ومجاري المياه والمعادن والاراضي الجماعية الخ ..) وقعت كلها تحت يد الدولة وهو ما يرفع مقدار ما يقع عليه الاستيلاء الى ثمانية او تسعة ملايين هكتارا اقتطعت كلها بعد الثورة والتمرد . على ان هذا المؤرخ يعترف ان " الفرنسيين فى الجزائر لم يجدوا ارضها شاغرة " . وان "الاوربيين اذا كانوا قد افادوا بعض الاهالي بالاجرة التى يدفعونها اليهم عن عملهم اليومي فانهم فى مقابل ذلك قد انقصوا من موارد عيشهم عندما اخذوا منهم اراضيهم". وان "مواطنينا يدركون جيدا ما يجيش في نفوس الغزاة عادة ويأخذون من ذلك شعورا بالكبرياء . ان لهم شعورا واضحا بالقوة التى يملكونها في ارض وطنهم القديم " . ولكن ما يبدو لنا انه يمثل بادرة ثمينة عند هذا المؤلف الذي نشر كتابه سنة ١٩١٣ هو الكلمة التى يستعملها والتي تعطينا معلومات عن هذه " العقدة الارضية " التى اشرنا اليها سابقا والتى تتمثل فى

هذا السؤال الذي طرحه يوما معهم عربى عندما تسلم قانون التجنيس . وهو " متى يرجعون الينا ارضنا ؟ " والسؤال ضخم جبار حقا ولا اعرف ان هناك حزبا من احزابنا السياسية قد استطاع ان يطرحه بهذه الصورة عن طريق مؤسسة فلاحية لو قدر لهذه المؤسسة ان توجد فى سنة ١٩١٣ التى نشر فيها هذا الكتاب . ان هذا المعلم القروى يقودنا بسؤاله هذا الى تطور جديد فى المشكلة . فقد كتب "اينار" يقول : " ان هذا السؤال سيظل مترددا فى جميع الافواه بمجرد ما يستعيدون وعيهم . والجواب الذى يصلح له هو ان نوحد عمل الجميع حتى نتوصل بالجالية الى منزلة من الرضاء تمكننا من حل جميع المشاكل " . ( انيار : العمل الفرنسى في الجزائر ص : ٢٤٩-٢٥٠-٢٩٢) . .

ان المؤلف يقول لنا ان الذي طرح السؤال هو معلم تجنس بالجنسية الفرنسية . وهذه نقطة هامة لان الادماج " الاختيارى " المعمول به منذ اربعين عاما بالنسبة لنخبة من الناس الشواذ لم يمنع هذا المعلم المذكور من ان يطرح هذا السؤال الذى كان الشغل الشاغل للشعب الجزائرى منذ سنة ١٨٣٠ . فهل فهم هذا المعلم ان الادماج - فى مقابل ذلك - الممنوح من الاستعماريين لا يهدف الا الى امر واحد - لا اكثر ولا اقل - وهو زيادة الضمان - فى دائرة القانون الفرنسى - للاستغلال وتفقير الطبقات الفلاحية ؟ بل اننا - حتى فى بداية حملات الغزو - نجد تجار مرسيليا وروان وغيرهم يطالبون بالحاق الوطن الجزائرى المحتل الحاقا كاملا بفرنسا . ثم بعد ذلك الدوائر الاقتصادية بمختلف انواعها الصناعية والمالية وادارات الجبال تطالب كلها بهذا الادماج من ناحية واحدة . وعندما حذفت في الجزائر ادارات الشؤون العربية واقيم نظام مدنى على غرار ما هو موجود في فرنسا فهم حالا ان الاروبيين سيكونون هم وحدهم المستفيدين من هذه العملية . ولكن الادارة مع ذلك كانت حريصة على ازاحة كل غموض او التباس قد يقع فيه الاهالي عن هذه العملية اصدرت - باقصى ما يمكن من الشدة - قانونها المشهور "بالقانون الاهلي Code de I lindigenat " الذي يعتبره بعض المشرعين الفرنسيين قانونا تحكميا مثله مثل قوانين سادة القرون الوسطى التى يفرضونها على عبيدهم الارقاء و"اينار" - وهو هنا ليس الا صورة للافكار

المشتركة القائمة فى اذهان المستعمرين الآن والتى ستبقى في اذهانهم مدة اخرى طويلة - يقول ان الجواب الذي يمكن ان نرد به على سؤال المعلم هو " ان نوحد العمل لتحقيق رخاء الجالية .... " وهو نفسه فى تاليفة المذكور يلاحظ ان هناك " شيئا مقلقا يقوم بين العنصرين الفرنسي والجزائرى وهو سيطرة احد العنصرين على الآخر". ثم عندما يتحدث عن قضية هذا التوحيد فى الميدان الفلاحى يقول : " في بلاد محتلة لا يمكن ابدا ان يكون هناك تعاون ما الا فى صورة تشغيل بالاجرة . اي بان يصبح جزء من الاراضى بيد الوافدين الجدد ، وهذه هي النقطة التي تبرز العقدة " .

ان المؤلف يتحدث عن " انتعاش " وهو يعني بهذا ازدياد عدد الجزائريين الذين يتحصلون على الجنسية الفرنسية . واذا كان الانعاش الذى يهدفون اليه يختلط مع التجنيس . واذا كان "حل جميع المشاكل " وتصفية الحسابات بصورة سلمية لا يمكن ان يتم الا بعد فوات وقته - فان كلا من هذا الهدف وذاك هو من قبيل الخيال والضلال المبين

لذلك يرى كثير من الجزائريين ان اروع الانجازات والاصلاحات وضروب التجهيز العصرى تضيع قيمتها حتما وحتى مبرراتها نفسها عندما تحقق في مجتمع سلبت منه وسائل التطور .

ان فاعلية الرخاء الاجتماعي الذي يشمل الشعب كله لا يمكن ان تتحقق الا اذا استنفدت جميع الوسائل التى يملكها الشعب والتى هى اليوم موجودة عنده بالقوة وستكون غدا موجودة بالتطور . هذا فى حين ان الشعب الجزائري في هذه القضية بالضط لا وجود له كمجموع ، والمسؤولون لم يقوموا باى جهد لايجاده واقامته على اسسه القديمة.

فعندما يتحدث الشعب ويلهج بكلمات : الارض والحرية واللغة الوطنية والاعتراف بالشخصية الجزائرية - يأتيهم الجواب عليها بالكلمات الاخرى الآتية : طرقات وسدود ومستشفيات ، نعم ان كل هذا جميل فى الحدود التى يفيد منها الجميع . ولكن الامر الاساسي هنا هو المفقود . فالشعور السائد هو ان الاستعمار عقد العزم على اشاعة المجاعة حتى تتاح الفرصة لتوزيع الصدقات الدورية الملفتة

للانظار . وعلى ابقاء الامراض الناتجة عن البؤس والاهمال حتى يمكن المن بالمستشفيات . والا فانه لا يستطيع احد ان يفهم لماذا يلذ للسلطات المسؤولة بدلا من ان تعالج صميم المشكلة بالوسائل الجوهرية - تفضل ان تفتح ميادين غامضة للبطالة مما لو لم يكن للبؤس اسبابه العميقة التى لا يجهلها احد .

على ان ما يطبع السياسة الاستعمارية نحو الشعب الجزائرى هو عدم "اكتمالها" الدائم وبتر اعمالها بنفسها عن قصد وحساب دقيق حتى لا ينتهى اى شئ انتهاء طبيعيا . والادماج التشريعى والادارى ابرز طابع لهذه السياسة . ودستور الجزائر الذي لا يطبقونه هو طابع آخر لهذه السياسة . وكم هى الامثلة التى لا تعوزنا على وجود هذا الاتجاه المنحرف المنظم الانحراف .

ثم يجب ان نلاحظ ايضا ان اقلية وان كانت قليلة النشاط الا انها نشيطة فى الاضطراب هى التى تبسط يدها فى الجزائر على القسم الاعظم من مواردها الاقتصادية . وهذا يضعنا امام مشكلة اخرى ذات صلة بمشكلة الارض المستعمرة وهى مشكلة السكان ذوي الاصل الاروبى . وهى مشكلة قامت فى الهند وشمال افريقيا منذ بضعة اعوام عندما طرحت قضية الاعتراف للشعوب المستعبدة بسبادتها وحكمها الذاتى او بالحقوق الاولية التى تطمح اليها . وهؤلاء السكان هم اولا وقبل كل شئ المعمرون الذين يمثلون فرس حرب طروادة بحيث يوضعون فى امكنتهم لكى يكون وضعهم هذا فيما بعد واقعا قائما لا سبيل الى تغييره مانعا لكل حل من الحلول الوطنية وعرقلة فى طريق الاهالى نحو استقلالهم المشروع . واصبح كل شئ يجري فيما بعد او لا يجرى حسب مقياس وجود هذه الجالية الاجنبية التى لها عادة جنسيتان ان لم يكن ثلاث (مثل الايطاليين او المالطيين فى تونس قبيل الحرب العالمية الاخيرة) والتي تزاحم ابناء الوطن فى حق وجودهم ببلادهم قبل غيرهم بل تمنعهم حتى من ان يكونوا مساوين لها ، ولاسباب سياسية عليا اصبحت هذه الاقلية ذات الاهمية النسبية والتى يزداد شططها باستمرار - مستعملة كذريعة مستحبة فى مشاريع الدولة للفرار من تحقيق كل توسع او انتعاش للبلاد المحرومة من استقلالها . واخيرا ليست المتناقضات التى تجعل الاقلية ضد الاكثرية في جميع مراتب الحياة هى مبدأ الاستعمار وجوهره الحقيقي ؟

ان ما اوجد الثوار فى الجزائر او فى تونس هو الشعور بهذا المستقبل المختنق بالرغم من الحسابات الاستعمارية التى ترفع عاليا الارقام الجذابة لتغطي المشكلة الحقيقية . اما الجزائريون من ناحتهم فقد ادركوا انهم اضاعوا عند عام ١٧٣٠ وبسبب الاستعمار اعز شيء يملكونه وهو الارض والحرية والصحة الجسمية والمؤسسات الوطنية وتعلم لغتهم القومية . وهي اشياء تبدو فى جانبها جميع المستشفيات والسدود (التى بنيت واقيمت باموالهم وسواعدهم والتى حرموا من فوائدها) ضباب الحضارة وخيالها وليست هى الحضارة . وهذا هو القول ايضا في ميادين العمل التي فتحت للبطالين للعمل فيها مؤقتا بالقياس الى المشكلة الفلاحية . وفى المجلس الجزائرى بالنظر الى الديمو قراطية السليمة البسيطة ليست كلها الا اشباحا وهياكل ميتة مسخ بها التطور الاجتماعى والرقى السياسى

اشترك في نشرتنا البريدية