الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 702الرجوع إلى "الثقافة"

بائع البيض

Share

كان عاملا فى شركة للسجاير ، يتقاضى كل يوم ثلاثين . قرشا ، وكان معروفا بين زملائه بالسماحة والجود . فكان إذا ذهب إلى بائع الكازوزة ، تبعه بعض زملائه يشربون على حسابه ، وإذا ضاقت بزميل له ضائقة اقترض منه ، فكان مضرب المثل بين إخوانه . وقد تزوج ورزق أولادا سعد بهم وسعدوا به . ولكن الزمان الغدار لم يرحمه . فأصيبت عيناه من نثار الدخان . فذهب إلى الطبيب وعرض عليه عينيه ، فعمل له عملية أودت بهما ، وجعلته كفيفا ، فطرد من الشركة ، لأنها لا تأوى إلا الصحيح ، ومنحته جنيهات قليلة ضاعت فى شهر أو شهرين . فماذا يصنع لينفق على زوجته وأولاده . فكر طويلا : هل يفتح دكانا ؟ وأين رأس المال ؟ هل يستجدى ؟ ذلك عار له كل العار ، عار له ولزوجته ولأولاده .

ليس من شئ إلا أن يبيع بيضا ، فينادى فى الشوارع إذا ابتعد عن حارته ، يقوده أحد أولاده وأحيانا تقوده امرأته . . ناديناه مرة ، فوجدنا بيضه خيرا من بيض غيره . وسألته أثناء الحديث عن تاريخه فرواه كما ذكرته ، ثم سألته عن رأس ماله . فقال : أربعون قرشا . فأشفقت عليه ، ومنحته خمسين لتضم إلى رأس المال . ومنحه ابنى مرة ثلاثين . وفى كل مرة يبيعنا بيضاً نؤكله مما بقى من الطعام ، ويطلب أحيانا رغيفا لولده وأحيانا قليلا من الأرز ، ثم ملعقة سمن يطبخ الارز ، وأحيانا قميصا أو جلبابا له أو لأحد

أولاده . وعلى الجملة لا يبيع بيعة إلا ومعها مطلب . وفى كل مرة يغمرنا بالدعاء .

ومرة ذبحنا ديكا روميا فأقسم أولادى أن لا يأكلوه ، وأن نتصدق به على بائع البيض ، وصمموا على ذلك ، وأن يكتفوا بأكلة عدس ، فوافقت وزاد فى الدعاء لنا . وعد كأنه أحد أفراد عائلتنا . .

ومرة تعب من المناداة على البيض فطلب من زوجته أن تبيع بدلا منه فأبت لأنها بنت ناس ، فتزوج عليها غيرها ، وكانت امرأة أرملة ذات أولاد . فأصبح فى رقبته زوجتان وأولاده وأولاد زوجته . وكل هؤلاء يعيشون برأس المال الذى ذكرته . فغارت الزوجة الأولى ، ووعدته أنه إذا طلق  الثانية باعت له ، فطلقها ، فكانت تخرج مختفية ولا تنادى بأعلى صوتها ، إنما تقصد إلى البيوت التى يعرفها زوجها . وأحيانا تقوده إلى البيوت التى اعتادها ، وأكرمنا الزوجة كما أكرمنا الزوج .

وأخيرا جاءتنا هدية بيض ، فأسرفنا فى استخدامه ، وبقيت منها ثلاثون بيضة ، فعرضنا عليه أن يأخذها خوف فسادها ، ثم يرد إلينا مثلها مقسطة بعد أيام فقبل . وأخذها ثم اختفى اختفاء تاما كأنه فص ملح ذاب .

وأخيرا رأيته يمشى فى شارعنا حتى إذا وصل إلى بيتنا هرول مسرعا ولم يناد حتى لا نسمعه.

قال ابنى : ما رأيك فى بائع البيض هذا ؟ أليس هذا نكرانا للجميل ، وقصر نظر فى الحياة ؟ لقد خسر أكثر مما كسب قلت أسبغ رحمتك على الجميع ، مجرم وصالح ، ممتن للنعمة وجاحد لها . إن هذا الرجل معذور . فلولا فقره ما فعل فعلته ، ولو كنت مكانه - لا قدر الله - لسرت سيرته . وكم من الناس غيره فى غنى وثروة ، وعز وجاه ، وتصنع معهم الجميل ، فينكرونه كأنك أسأت إليهم .

وذاك أن الفحول البيض عاجزة

عن الجميل ، فسكيف الحصية السود ؟

اشترك في نشرتنا البريدية