الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 38الرجوع إلى "الرسالة"

بديع الزمان الهمذانى

Share

-١-

القرن الرابع الهجرى

سيطر على النصف الشرقى من العالم الإسلامي فى القرن الرابع  ثلاث دول كبيرة ودول أخرى صغيرة:

سيطر بنو بويه على غربى إيران وجنوبها وعلى العراق العربى  فسيطروا على الخلفاء العباسيين فى بغداد.

وكان ما وراء النهر وخراسان وسجستان فى سلطان السامانيين  ثم قامت الدولة الغزنوية فى أواخر هذا القرن فورثت ملك  السامانيين كله. وانتقصت ملك بنى بويه وزحزحتهم تلقاء المغرب  ثم أوغلت فى المشرق ففتحت الهند.

وكان فى طبرستان وجرجان الدولة الزيارية التى  أقامها فى أوائل  هذا القرن مرداويج بن زيار. وكان بنو باوند فى طبرستان أيضا.  وفى سجستان امراء من نسل يعقوب بن الليث الصفار ومنهم  الأمير خلف بن أحمد (٣٤٤ - ٣٩٩) .

عاش أحمد بن الحسين بديع الزمان الهمذانى فى عهد أربعة  الملوك الأخيرين من بنى سامان إحدى وثلاثين سنة. وفى عهد  جماعة من ملوك بنى بويه أعظمهم عضد الدولة (٣٦٧ - ٣٧٢)  ومؤيد الدولة وفخر الدولة (٣٦٦ - ٣٨٧) ومجد الدولة أبو طالب  رستم (٣٨٧ - ٤٢٠) وشمس الدولة أبو طاهر (٣٨٧ - ٤١٢) .  والذين كان لهم سلطان على همذان والبلاد التى أقام بها الهمذانى هم مؤيد الدولة وفخر الدولة وابناه مجد الدولة وشمس الدولة. ولمؤيد  الدولة وأخيه فخر الدولة وزر أبو الفضل بن العميد والصاحب  ابن عباد.

وعاش البديع فى عهد شمس المعالى قابوس بن وشمكير من  الزياريين وفى عهد سبكتكين وابنه محمود من الغزنوية، وخلف  ابن أحمد من الصفارية وثارت حروب كثيرة بين هؤلاء الملوك اضطربت  لها البلاد وشقى بها الناس.

وكانت هذه الدول تتنازع مجد العلم والأدب كما تتنازع السلطان  وكانت للادب فى النصف الثانى من القرن الرابع محافل: حول

ملوك السامانية فى بخارى وحول وزراء البويهيين فى الرى وأصفهان  وجرجان، وحول شمس المعالى قابوس بن وشمكير فى جرجان  وطبرستان وحول السلطان محمود الغزنوى فى غزنة وأخيه نصر  فى نيسابور، والمأمونية فى خوارزم.

ومما يؤثر من تنافس هذه الدول فى العلماء والأدباء أن نوح  ابن منصور السامانى كتب الى الصاحب بن عباد سرا يستدعيه ليستوزره  فاعتذر. وأن السلطان محمودا كتب إلى المأمون أمير خوارزم  ليرسل اليه ابن سينا والبيرونى وأبا سهل المسيحى الفيلسوف وأبا  الحسن الخمار الطبيب، وأبا نصر العراق الرياضى، فمنهم من رضى  بالمسير الى محمود ومنهم من فر. وكان الى جانب الملوك والوزراء  رؤساء وبيوت يؤمهم الأدباء ابتغاء الحظوة عندهم

واذا اتخذ الثعالبى والبيرونى مثلا لأدباء هذا العصر وعلمائه  عرفنا تولية الأدباء وجوههم شطر هذه الدول:

الثعالبى أهدى كتابه لطائف المعارف الى الصاحب بن عباد  والمبهج والتمثيل والمحاضرة الى شمس المعالى قابوس وسحر  البلاغة وفقة اللغة الى الأمير أبى الفضل الميكالى والنهاية فى الكتابة  ونثر النظم واللطائف، والظرائف الى مأمون بن مأمون أمير خوارزم:  وغرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم الى نصر أخى السلطان  محمود، والبيرونى أقام فى خوارزم عند المأمونية ثم سار الى شمس المعالى  وقدم اليه كتاب الآثار الباقية ثم قصد السلطان محمودا فلزمه وقدم  اليه كتابه عن الهند. وقدم كتاب التفهيم فى علم النجوم الذى ألفه  بالعربية والفارسية الى سيدة من خوارزم اسمها ريحانة ثم قدم  القانون المسعودى فى النجوم لمسعود بن محمود وكتابه فى المعادن  الى السلطان مودود بن مسعود.

-٢-

وقد نفقت سوق الآداب فى القرن الرابع ونبغ كثيرون من  أعلامه ولا سيما كتاب الرسائل

وحسبنا أن نذكر من الكتاب ابن العميد وابن عباد وأبا اسحاق  الصابى، وأبا الخوارزمى والعتبى وعبد العزيز الجرجانى وبنى  ميكال، وشمس المعالى قابوس وأبا هلال العسكرى، وابن نباتة  الخطيب، والحسن بن على التنوخى.

ومن الشعراء: المتنبى والمعرى والحمدانى والرضى ومهيار، وابن

نباته السعدى، وابو الفتح البستى، والببغا، والنامى، والناشى، والزاهى،  وغير هؤلاء من شعراء اليتيمة وكتابها.

همذان

مدينة فى ناصية الجبال يشرف عليها جبل أروند فى سهل خصب،  ويؤخذ من أخبار الكتب الفارسية والعربية أنه كان لها شأن عظيم  فى حقب مختلفة قبل الاسلام وفى العصر الاسلامى. .

وهى هكمتانه فى الآثار الفارسية القديمة، وأهيمتا فى التوراة،  واكبتانا عند كتاب اليونان والرومان.

واجمع الكتاب على وصفها بشدة البرد، وأكثر الشعراء فى هذا  قال ياقوت: "لما قدم عبد الله بن المبارك همذان أوقدت بين يديه  نار فكان إذا سخن باطن كفه أصاب ظاهرها البرد واذا سخن  ظاهرها أصاب باطنها البرد فقال:  

أقول لها ونحن على صلاء    أما للنار عندك حر نار؟

لئن خيرت فى البلدان يوما    فما همذان عندى بالخيار

ثم التفت الى ابن أبى سرح وقال يا أبا عبد الله وهذا والدك يقول

النار فى همذان يبرد حرها    والبرد فى همذان داء مسقم

والفقر يكتم فى بلاد غيرها    والفقر فى همذان مالا يكتم

وقال ياقوت: "ولا شك عند كل من شاهد همذان بأنها من  أحسن البلاد، وأنزهها وأطيبها وأرفهها، وما زالت محلا للملوك  ومعدنا لأهل الدين والفضل، إلا أن شتاءها مفرط البرد بحيث قد  أفردت فيه كتب، وذكر أمره بالشعر والخطب."

وأما أهلها فكأنهم عرفوا بالغلظة، وبديع الزمان يعتذر فى  بعض رسائله عن سوء فعله بأنه همذانى المولد. وينسب اليه فى ياقوت:  

همذان لى بلد أقول بفضله    لكنه من أقبح البلدان

صبيانه فى القبح مثل شيوخه    وشيوخه فى العقل كالصبيان

وفى مناظرة رواها ياقوت بين همذانى وعراقى يقول العراقى  للهمذانى: "ثم فيكم أخلاق الفرس، وجفاء العلوج، وبخل أهل  أصبهان، ووقاحة أهل الرى، وقذارة أهل نهاوند، وغلظ طبع أهل همذان. "

ويقول ابن فارس كما فى ابن خلكان:  

سقى همذان الغيث لست بقائل    سوى ذا وفى الأحشاء نار تضرم

وما لى لا أصفى الدعاء لبلدة    أفدت بها نسيان ما كنت أعلم

نسيت الذى أحسنته غير أننى    مدين وما فى جوف بيتى درهم

ومما يستأنس به هنا قوله فى مدح خلف بن أحمد:  

أبادية الأعراب أهلك اننى    ببادية الأتراك نيطت علائقى

وقوله فى القصيدة نفسها:  

اذا اقتضت منى خراسان لفظه    أماطت العرب در المخانق

وكذلك رسالته الى أبى عامر الضبى رئيس هراة فى عيد السدق  وهو ليلة الوقود عند المجوس، وفيها يبين فضل العرب على العجم  فى أسلوب تتجلى فيه العصبية

ويظهر أن أسرته كانت ذات مكانة فى همذان، فهو يقول فى  رسالة الى أبى بكر الخوارزمى حين لم يحسن لقاءه بنيسابور:  " فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت ان بوادينا ناغية صباح،  وراغية رواح، وناسا يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف.  

وفيهم مقامات حسان وجوههم    وأندية ينتابها القول والفعل

ولو طوحت بأبى بكر أيده الله طوائح الغربة، لوجد منال البشر  قريبا، ومحط الرحل رحيبا "وأجابه الخوارزمى  بقوله: " فاما  القوم الذين صدر سيدى عنهم فكما وصف، حسن عشرة، وسداد  طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد،  ونلت المراد،  

فان كنت قد فارقت نجدا وأهله    فما عهد نجد عندنا بذميم

وفى رسالة الى وزير الرى يقول (وورائى من أخوالى وأعمامى  من مواقف خدمة مشهورة، ومقامتهم مشكورة، وبهم حاجة الى  فضل عونه)

-٣-

فى النصف الثانى من هذا القرن عاش الهمذانى، فنبين سيرته  وأخلاقه ثم ننظر مكانته من أدب هذا العصر

أ - أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر  الصفار المعروف ببديع الزمان الهمذانى، ولد فى همذان ١٣  جمادى الثانية سنة ٣٥٨ من أسرة عربية:

ذلكم بأنه يقول فى رسالة الى الفضل بن أحمد وزير السلطان  محمود، "انى عبد الشيخ واسمى أحمد، وهمذان المولد، وتغلب  المورد، ومضر المحتد،" وكأنه يريد أن يقول إنه مضرى الأصل، ولكن

أسرته عاشت فى تغلب. وفى رسالة الى الشيخ أبى القاسم يعتذر  عن التخلف عن الحضور بالزكام، ويقول عن رجل أسمه أبو الحسن  يظهر أن اسمه سقط من الرسالة: "وما أشد استظهارى بخلافته  وإن لم يكن من ولد العباس والله يبقيه علما للفضل" فيقول أبو القاسم  فى الجواب. "والشيخ أبو الحسن فوق شروط الخلافة، فان كان  المستخلف تغلبيا، جاز أن يكون الخالف كسرويا"

فالتغلبى هو الهمذانى نفسه. ودليل آخر أنه كتب الى القاضى  أبا الحسين على بن على: "أنا أمت الى القاضى أطال الله بقاءه بقرابة،  أن لم يكن عربيا فأبي وأبوه اسماعيل، وعمى وعمه اسرائيل، الخ"

ب - ويؤخذ من رسائله بعض أخبار أسرته: يؤخذ منها أن أبويه  عاشا الى أن كبر وترك همذان، وأن أخاه أبا سعيد كان صغيرا حين بدأ هو أسفاره. ويؤخذ من معجم الأدباء أن أخاه أبا سعيد كان مفتى  همذان، ويؤخذ من رسائله أيضا أنه كان له ابن صغير اسمه أبو طالب،  وأن أحد أعمامه لحق به فى أسفاره، وعاش معه عشر سنين.

ويفهم من رسائل كثيرة أن أباه أرسل اليه أول الأمر مالا  وأمره أن يرجع الى همذان، ولامه على طول غيبته، وأنه هو أرسل  الى أبيه مالا من بعد وسأله أن يلحق به، وأن أباه وعده ذلك  ثم لم يفعل حتى غضب البديع، وكتب الى أخيه أبى سعيد دون أبيه.  ومن رسائله الى أبيه: "كتابى أطال الله بقاء سيدنا من بوشنج، لك أسوة بيعقوب فى ولده، اذ ظعن اليه من بلده. وليس العائق سور  الأعراف، ولا جبل قاف، فلم لا ينشط؟ والله لا يضيع بذلك المكان  درهما الا عوضه دينارا، ولا يعدم هناك دارا الا أفدته ديارا. . .  وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج  وأن يرتب له عمارة شتوية تسعه. فالشيخ الفاضل العم فليتفضلا،  وليقوما ويرحلا، ويستصحب الاخ أبا سعيد، وليأتنى بأهله  أجمعين، الخ. . ."

وفى رسالة أخرى يذكر أنه غاب عن أبيه احدى عشرة سنه ص (١٦٠)  وأما أمه فلا أجد ذكرها فى الرسائل، وفى الديوان له: "وله  يجيب والدته:

وعجوز كأنها قوس لام    خلقوها من نبعة شر خلق

كاتبتنى شوقا الى وقالت    أخذ الله يا بنى بحقى

قلت لا أستطيع ترك بلاد   قد وفى الله فى ثراها برزقى

وهى أبيات ان صحت فلا تشهد لبديع الزمان بالبر.

ويظهر من بعض رسائله أيضا أنه طلب الى صهره أن يرسل امرأته  وابنه أبا طالب. على أن فى الكلام غموضا. "وقد طالت مراجعات  الشيخ فى حديث أبى طالب الخ ص ١٩٩ الى آخر الرسالة" .

ج - نشأ أحمد بن الحسين فى هذه الأسرة. وكان كما يقول الثعالبى  مقبول الصورة، خفيف الروح، وكان أعجوبة فى الحفظ والبديهة  والارتجال، له أخبار فى هذا لا تكاد تصدق، وسنعود اليها عند الكلام  على أدبه، ويخبرنا الثعالبى أنه أخذ اللغة عن أحمد بن فارس، ونحن  نجد فى الرسائل رسالة الى أستاذه هذا جوابا عن رسالة ذم فيها  الزمان، وقد مدحه ببعض شعره. ويقول الهمذانى فى رسالة الى  أبيه عن أخيه أبى سعيد:

"وبلغنى انه ابتدأ بمجمل اللغة، فأين بلغ منه، والشيخ لا يحمل  عليه بعويص اللغة حتى يعلم سهلها، ولا يأخذه بما أخذنى به، فالعمر  لا يتسع للعلوم أجمع."

وقد درس الحديث، ويقول ياقوت فى معجم الادباء نقلا عن  شيرويه بن شهردار مؤرخ همذان: "وكان أحد الفضلاء والفصحاء  متعصبا لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان  من مفاخر بلدنا، روى عنه أخوه أبو سعيد، والقاضى أبو محمد عبد الله  ابن الحسين النيسابورى." ونجد عصبيته لأصحاب الحديث فى رسالة  كتبها الى أحد القضاة يقول فيها: "ماله ولأصحاب الحديث  الخ الرسالة" ص ١٠٥

سفره من همذان

فارق همذان سنة ٣٨٠ وهو ابن اثنتين وعشرين سنة: وورد  حضرة الصاحب فتزود من ثمارها وحسن آثارها، كما يقول الثعالبى.  وفى الديوان أنه قدم الى الصاحب وله ١٢ سنة، فهذا كان قبل  رحيله عن همذان، ويؤيده ما رواه الثعالبى عن الهمذان قال:  "لما أدخلنى والدى الى الصاحب ووصلت مجلسه، واصلت الخدمة  بتقبيل الأرض، فقال لى: يا بنى اقعد، الى كم تسجد، كأنك هدهد"  وفى إحدى قصائده ما يدل على أنه ذهب الى الصاحب اكثر  من مرة.

وتعجب لاختيارى ان رأتنى   أرى بحرا وأمتاح الركايا

سأنتاب الوزير فان أتيحت    زيارته وساعدت القضايا

أعاود ورده والعود خير  وأرجع ان للرجعى مزايا

ولا ندرى ما كان بينه وبين الصاحب, ولكنا نراه يذكر فى قصيدة أن الصاحب أوعده وهدده:

أكافى الكفاءة استبق منى ومن دمى    حشاشة مجد فى البلاد مشرد

أفى موجب الفضل الذى أنت أهله    توعد مثلى أم قضية سؤدد

أبعد مقاماتى لديك وهجرتى  اليك وانفاقى طريفى ومتلدى

وجوابة للافق فيك طردتها    غدت بين منثور وبين مقصد الخ

وأظنه أراد هجاء الصاحب فى قوله من قصيدة يمدح بها خلف  ابن أحمد:  

وليل كذكراه معناه كاسمه    كدين ابن عباد كادبار فائق

جرجان

يقول الثعالبى: "ثم قدم جرجان وأقام بها مدة على مداخلة  الاسماعيلية والتعيش فى أكنافهم، والاقتباس من أنوارهم،  واختص بأبى سعيد محمد بن منصور أيده الله تعالى، ونفقت بضائعه  لديه، وتوفر حظه من مادته المعروفة فى اسداء المعروف والافضال  على الأفاضل. .

فلما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته، وأزال  علله فى سفرته، فوافاها سنة ٣٨٢، ونحن نجد فى رسائله رسالة الى  أبى سعيد الاسماعيلى يذكر أن الاعراب قطعوا عليه الطريق الى  نيسابور وسلبوه كل ما معه.

(يتبع)

اشترك في نشرتنا البريدية