كاد الليل ينسلخ عن النهار، وبشرت بالصبح أنفاس الأسحار، والدجى مهود وسنان، سيفزعه عما قليل ذنب السرحان والناس هاجدون وكأنهم أيقاظ ينتظرون صلاة الصبح؛ وكأن آذانهم مصيخة تلقاء المسجد. تتحين دعاء المؤذن، وكأن قلوبهم إبر المغناطيس ترصد قطبها، وتتجه إلى إمامها، والأمام هاجد يرعاه ربه، تنام عيناه ولا ينام قلبه. وملء الأرض والسماء السكينة والسلام.
وسرى في أحشاء الليل كطيف الخيال، اتخذ من الليل جلباباً، وطوى من الصبح قلباً وجاباً، (آدم شديد الأدمة، نحيف طوال أجنأ، له شعر كثير، خفيف العارضين، به شمط كثير) تحمل جمته الشمطاء، تباشير الصباح الوضاء.
ويرتقي جدار المجلس، فيجلس مقلباً وجهه في السماء، ثم ينتفض قائماً، فيضع سبابتيه في أذنيه، فيبعث في حواشي الظلماء، صوتاً يجلجل في الأرجاء: الله أكبر الله أكبر - الله أكبر الله أكبر! أترى فلول الظلام مذءودة تلوذ بالباطل المنهزم، أم ترى الباطل مذعوراً يلتف في تلك الظلم؟ ذلك النور المنبثق من الأفق الشرقي بسمة الفجر الصادق لهذا الصوت الإلهي، بل ذلك النور الوضاء، استجابة النهار لهذا النداء. فما الفجر إلا صوت نوراني، يتلألأ بنغمات ذلك النور الصوتي؛ ليت شعري أيهما الصباح، وأيهما أذان بلال بن
رباح؟ ويمضي بلال يصدع قلب الظلام، بشهادتي الإسلام: أشهد أن لا أله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم يحيل بالصلاة والفلاح، ثم يعيد التكبير في تمديد، فيختم بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله!
ويحسب بلال أن صوته لم ينفذ إلى القلوب، فلم تتجاف عن مضاجعها الجنوب، فيثوب بالقوم: الصلاة خير من النوم. يتهلل وجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) لصوت الحق مدوياً في أعقاب الباطل، ويبتسم لصوت الحق عالياً طليقاً يملأ ما بين الأرض والسماء، والمشرق والمغرب. يبسم حين يسمع دعوة الحق في قلب الجزيرة العربية على لسان عبد حبشي. وهل في شرعة الإسلام عبد وحر؟ وهل في سنة محمد عربي وحبشي؟
وتنبعث في كل أذن من هذا الصوت نغمة، وفي كل قلب من هذا النور إشراق. فيهب الأصحاب من مراقدهم، تقشعر جلودهم، وتطمئن قلوبهم. فتستيقظ كل دار بأهبة الصلاة من الرجال والنساء والولدان والولائد. وينزل بلال فيقف بباب الحجرة النبوية قائلاً: (حي على الصلاة، حي على الفلاح. الصلاة يا رسول الله) .
ويسفر النهار وتنثال الجموع إلى المسجد فانظر من ترى: يخرج نفر إلى المسجد من خوخات في دورهم، فهذا الآدم الربعة عظيم العينين ذو البطن سيف الله الغالب علي بن أبي طالب، يخرج من حجرة فاطمة. وهذا الآدم الطويل الجسيم الأصلع عمر الفاورق، وهذا الأسمر الرقيق البشرة ضخم المنكبين كثير شعر الرأس عظيم اللحية عثمان ذو النورين، والصديق كان في السُّخْ هذه الليلة فيقدم مسرعاً فتراه أبيض نحيفاً معروق الوجه غائر العينين خفيف العارضين أجنأ. ويقبل من دور بني زهرة بجانب المسجد ثلاثة: أحدهم قصير دحداح ذو هامة عظيمة، شثن الأصابع، كثير الشعر يخضب بالسواد، هو سعد بن مالك بن أبي وقاص، والثاني آدم نحيف قصير له شعر يبلغ ترقوته، يلبس ثوباً ناصع البياض، تضوع منه ريح
الطيب، يمشي في وقار وسمت، هو عبد الله بن مسعود، والثالث ضخم طويل شديد الأدمة هو المقداد بن الاسود . ويقبل آخران الجسيم خالد بن الوليد، وهذا القصير الأبلج الأدعج عمرو بن العاص، وفي أثرها رجل جميل عظيم الهامة مكتحل يخطر في مشيته هو معاوية بن أبي سفيان، وبجانبه رجل نحيف طوال معروق الوجه خفيف اللحية اجنأ أثرم الثنيتين هو أبو عبيدة ابن الجراح. ويقبل من ناحية الحرة الشرقية رجلان: سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج؛ ويأتي رجل طويل نحيف كثير الشعر عليه سيما الحزن هو سليمان الفارسي، ووراءه رجل ربعة أحمر شديد الحمرة كثير شعر الرأس، يخضب بالحناء هو صهيب الرومي؛ وانظر بين الجمع طلحة والزبير وأبا موسى الأشعري وأبا أيوب الأنصاري. ويأتي بنو الصحابة، فهذا الغلام الطويل الأحمر عبد الله بن عمر، وهذا الغلام الطويل الأبيض المشرب بالصفرة الجسيم الوسيم الصبيح الوجه عبد الله ابن العباس، وهذا الصبي الذي يشبه أبا بكر عبد الله بن الزبير.
ويخرج رسول الله صلوات الله عليه، فيقيم بلال الصلاة: الله أكبر الله أكبر الخ، فيسوي الرسول الصفوف، ويسد الفرج فيها ويكبر فيكبرون. ويذهب هذا التكبير نغمة متسقة بين ضوضاء العالم وجلبته ، ودعوة للحق بين اكاذيبه واباطيله يذهب هذا التكبير في الأرجاء طمأنينة لقلوب، ورعدة لقلوب، ورجاء لقوم، وخوفاً لآخرين، يبشر الضعفاء والمظلومين بملكوت الله في الأرض، وينذر الجبارين والظالمين بالقصاص العادل. إنما مزق شمل الظالمين هذه الصفوف لا صفوف القتال، وإنما زلزل عروش الجبارين ذلك التكبير لا وقع النبال.
ويقرأ الرسول في الركعة الأولى آيات من سورة النور منها: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . ويقرأ في الركعة الثانية آيات من سورة الحج منها: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور. أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُّنا
الله، ولولا دفع الله الناسَ بعضَهم ببعض لهدّمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدٌ يذكر فيها اسمُ الله كثيراً. ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوّي عزيز. الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوُا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور).
هذه جماعة يمحصها الله ليورثها أرضه، ويعلمها لتقوم بين الناس بعدله. وهذا الصف من العُبّاد يجمع خلفاء الأرض وأمراءها وولاتها وقضاتها ومعلميها وقوادها وجندها، وتلك الشرذمة من الزهاد هم ورثة العروش والتيجان عما قليل، الذين يقسم الله رزقه بأيديهم، ويصرف حكمه في الأرض بألسنتهم. جماعة تضمهم جُدُر المسجد اليوم ولا يسعهم العالم غداً، جماعة في أرض فقيرة بين لابتين، سينشرون بين المشرقين والمغربين، وستجفُ الأرض بحملاتهم، وتقر بعدلهم، وتضيء بإيمانهم قضيت الصلاة وانتشر المصلون.
لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده. قد فتحت بهذه الجماعة الأقطار، وعمرت بهم الأمصار، هذا عمر في الشام قد أزال عنها سلطان الروم، ثم جاءها ليبرم العهود، ويتفقد الرعية؛ وهذا بلال في جيش المجاهدين غازياً؛ ينظر عمر إلى بلال يود أن يسمع آذانه، ويهاب أن يستمع لمؤذن رسول الله. ويقول الناس لعمر: لو أمرت بلالاً أن يؤذن! ويقترح عمر على بلال الآذان، فينهض الشيخ ابن السبعين تحت أعباء السنين، فيدوّي في الأرجاء: الله أكبر، الله أكبر. . . لقد كان آذان الشام تصديق آذان المدينة. . . . أجل أجل لقد صدق الله وعده!!
ولكن انظر إلى عمر، ألا تراه ينشج؟ ألا ترى دموعه تبلّ لحيته؟ ألا ترى القوم في بكاء ونحيب؟ ما دهاهم؟ ما أبكاهم؟ لقد نصرهم الله ومكن لهم في الأرض، وأغناهم وأعزهم. فما دهاهم وما أبكاهم؟ يبكون إذ رأوا المؤذن ولم يروا الإمام! يبكون إذ سمعوا مؤذن رسول الله، ثم نظروا فلم يجدوا رسول الله!

