الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسع والعشرونالرجوع إلى "الرسالة"

بين الموسيقى الشرقية والغربية

Share

-١-

تقوم الآن حركة طيبة فى الأوساط الموسيقية، غايتها النهوض  بالموسيقى الشرقية إلى المستوى الذى يلق بها كفن له آدابه  وأوضاعه وأصوله. وكان طبيعيا أن تتشعب الآراء، وتنوع  الأفكار، والمدار هو الكيفية التى بها ترتفع الموسيقى الشرقية إلى  مكانتها. وسمعنا أثناء ذلك اسم الموسيقى الغربية تلوكه الألسن وتتجه  إليه الأفكار كأنه الغاية التى إليها نتجه، والمستوى الذى إليه نرتفع،  غير إن هناك ألسناً لم تنطق به وأنظاراً لم تتجه إليه، بل بقيت  رابضة فى وكرها لا تحيد عنه. وبين هذه وتلك  تقف الفكرة الأساسية مترددة محجمة، وان سارت ففى خطى  بطيئة متمهلة.

وقد رأيت أن أجمل فى نقط بسيطة غير مركبة، أهم الاختلافات  التى بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وذلك بأن أضع أمام  القراء صورة حقيقية للأصل الذى أتكلم عنه، وأن أقسم تلك  الفوارق التى بينهما تقسيما منظماً صحيحا لتكون أمام من يطلع عليها  صورة مرتبة غير مشوشة، مع اختصارى قدر ما أصل اليه.

فمن رأى هذه الكلمة خلوا من الإفاضة واشرح فليعذرنا  فلسنا نكتب كتاباً ليحفظ ويكون حجة ومرجعا، وإنما هو مقال  يجمع بين الفائدة والترويح، وعلينا العهد عندما نريد أن نكتب  كتابا أن نراعى الدقة جهدنا وأن نختصر فيه أو نجمل.

تنقسم الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية إلى  ناحيتين رئيسيتين، الناحية الأولى: وهى الناحية العامة، وفيها  تظهر روح كل موسيقى وترتيبها وموافقتها لأخيلة وأمزجة مؤلفيها،  ومناخ البلاد التى وضعت فيها وما لها من رقى وانحطاط، وهذه  الناحية قد يكتب فيها الأديب المطلع كما يكتب الموسيقى، ولعل  الأديب يكون أكثر توفيقاً فى الشرح والوصف. أما الناحية الثانية  فهى التى تتناول الناحية الفنية من بحث الأغراض التى يذهب إليها  التأليف إلى اختلاف الأنغام إلى طرق التلحين، ثم إلى شرح  الأوزان والمقاييس وما إلى ذلك من أقسام تتصل بالموسيقى من  ناحيتها الفنية. وهذه الناحية التى أرجو أن أقصر عليها عنايتى  وأن أستطيع توضيحها وتقريبها إلى الإفهام.

الموسيقى كأدب اللغة صورة ناطقة حية للعصر الذى وضعت  فيه، والأمة التى نشأت منها، وتكاد أغراض الموسيقى تشابه الأغراض  التى يذهب إليها أدب اللغة فى كثير من الحالات، (فالموسيقى الحماسية)  هى التى توضع إما لتعبر عن عاطفة قومية وطنية أو لتثير الحمية  والإقدام فى النفوس، وهى تكون تلحينا لأناشيد كنشيد المرسليين  الافرنسى ونشيد اسلمى يا مصر. المصرى ونشيد الجمهورية التركية،  أو تكون فى موسيقى صامتة Sans parole كما فى (مسير الحرب)

March Militaire لشوبرت أو  (مسرحية الحرية) لصوصة ولعل  هذا النوع من الموسيقى الصامتة فى الموسيقى الشرقية غث لا قيمة  له لا يكاد يبعث حماسة أو يوقد حمية إذا استثنينا بعض المسيرات  الحربية التركية. يلى هذا النوع من الموسيقى، موسيقى اللهو  والمراقص، وهى التى تعزف فى الحسانات ودور اللهو والتى  يرقص على أنغامها الراقصون والراقصات، وهذا النوع من الموسيقى  هو أساس الموسيقى الشرقية قديما وما زال متصلا بها إلى الآن  وإن كان التهذيب قد داخله فى كثير من نواحيه. أما فى الموسيقى  الغربية فالتطور عكسى فبعد أن كان هذا النوع فى بدء النهضة

الموسيقية راقيا فنيا من نوع الكلاسيك صار يتدهور حتى الحرب  العظمى فسقط سقوطا شنيعا وأصبح خلوا من أى شاعرية أو فن  والآن أتكلم عن الموسيقى الدينية فهى فى الموسيقى الغربية أساس باقى  الأنواع، فمن معابد روما وهياكلها انتشرت الموسيقى الدينية فى  العالم الغربى، وكان رجال الدين فى أول أمرهم يقاومون تسرب  موسيقاهم إلى الخارج بكل شدة، وكانوا يحافظون عليها كل المحافظة  ولكنها ذاعت وانتشرت رغم كل حيطة أو صد، وكل من حملوا  علم النهضة الموسيقية كانوا فى بدء اشتغالهم بالموسيقى يدخلون  الكنائس منتظمين فى سلك المنشدين أو لاعبى الارغن وبعد مضى

مدة على اشتغالهم وتمرينهم كانوا يخرجون فينشرون تلك الروح  التى تأثروا بها فى فجر حياتهم الفنية، واذكر من هؤلاء النوابغ شوبرت  مؤلف أوبرا فيرا براس، فقد كان أحد المنشدين بكنيسة ليتشتنتال  وهاندل مؤلف (نيرو) و (ألميرا) و (ورأد ميستر) كان عازفا  على الأرغن فى كنيسة جويرتزبرج ونشأ هايدن فى كنيسة القديس  اسطفان بقيينا. وكانوا جميعا عندما تنضج أرواحهم وتكمل فيهم  بوادر النبوغ، يتمردون على الكنيسة ويخرجون إلى العالم الحر  الطليق لتحلق أرواحهم فى فضائه متحررة من القيود التى فرضت

عليها فى المعابد. وأعظم القطع الدينية هى (الأوراتوريو) التى  منها نشأت (الأوبرا) . أما فى الموسيقى الشرقية فكيان الموسيقى  الدينية متهدم لا أساس له، هذا باستثناء الهند والصين فان لموسيقاهم  الدينية طابعا من الرهبة العميقة والتأثير ومن اكبر مؤلفيهم الموسيقيين  (تاجور) ، أما فى الإسلام فالموسيقى تكاد تكون بدعة لا تحليل  لها وان كان هناك شيع وطرق تقيمها فى أذكارها فهى منظور إليها  نظرة بغيضة، وان كنا لا نستطيع أن نغفل ذكر (المولوية)

ومركزهم الموسيقى بين موسيقى الأتراك القدماء. وأما الديانة القبطية  فللكنائس تراتيلها وأناشيدها ولكنها على حال من السذاجة الفطرية  لا تجعل لها أهمية من الوجهة العملية وإن لم تخل من خطرها  فى التاريخ الموسيقى فهى أصل موسيقى العالم أذا وصلنا موسيقى القبط  بموسيقى الفراعنة. ننتهى من الموسيقى الدينية لنتكلم عن الموسيقى  التمثيلية، فهى ركن هام من أركان الموسيقى لا يشتغل به إلا من أوتى قدرة واستعداداً خاصاً، فكثيرون من نوابغ الموسيقيين  الغربيين من أوتوا فى أنواع كثيرة من الموسيقى حظا وافراً ولكنهم  لما وصلوا إلى الموسيقى التمثيلية رأوا انهم لا يستطيعون أن  يضربوا فيها بسهم وخير مثل لنا هو (بتهوفن) الخالد فقد حاول محاولة واحدة فى الموسيقى التمثيلية هى (أوبرا فيدليو) رأى بعدها

انه ليس من رجالاتها فرجع إلى السينفوني والسونات  واعظم من وضع فى الموسيقى التمثيلية الغربية هو (فاجنر) إله  الأوبرا و (لوهنجرين) (ودانهوزر) ومقطوعاتهم تشهد لما نقول  أما فى الموسيقى الشرقية فلم يعرف هذا النوع إلا حديثا وما زال فى مهده  لم يشب عن الطوق. بقى أمامنا بعد ذلك آخر قسم وهو قسم  الموسيقى التصويرية وهو فى رأينا اجل الأقسام أخطرها ويكون  عادة موسيقى صامتة تصور وتشرح مختلف العواطف والمناظر  والمؤثرات ومن أوائل من بدأوا بعمل السيمفونى التصويرية  (هايدن) ثم (موزارت) ثم سيدهم أجمعين (بتهوفن) وفى الحق  يمكننا بوجه عام اعتبار كل أنواع الموسيقى تصويرية، إذ الموسيقى  كالشعر يعبر كل بيت منها أو قصيدة عن فكرة أو يصف موضوعا،

ويستثنى من ذلك (الدراسات) الخاصة وهى التى يطلقون عليها اسم  " Etude " فإنها تكون عادة لدراسة النغم فى دائرة قواعده وأصوله والموسيقى الشرقية خلو من الموسيقى التصويرية، وماجلها  إلا دراسات للانغام ولا يمكن اعتبار البشارف والسماعيات

والبستات إلا نوعا من الـ etude فلا تعبر عن فكرة أو تصف موضوعا  ولعل معترضا يقول، أو ليس ذلك الراعى الجالس على حافة  الغدير أو وسط المراعى ينقل أصابعه على مزماره وهو يرعى غنمه  فيبعث أنغاما هى السحر تأثيرا؛ أليس يصور بأنغامه ما يجيش بصدره  من عواطف وآمال وما يتلاعب بفؤاده من أميال وأفكار؛ واليس  يصور بانغام مزماره ذلك الغدير بعذوبته وتلك المراعى بخضرتها  ونضارتها، وما إلى ذلك من تصوير. هذا هو الحق ولكنه

تصوير ساذج ضعيف إلا أن جعلنا من مصوري القرية الذين يرسمون  صور عودة الحجاج وما شابه ذلك مصورين لهم خطرهم وأهميتهم  ولكن فى الموسيقى الشرقية الحديثة، هناك من قام بمحاولات فى هذا  النوع علها تسير إلى التقدم بعد فى مهدها.

والآن نتكلم عن الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى  الغربية من الوجهة العامة فأول ما نلاحظه هو تعدد  النواحى التى ذهبت إلى التعبير عنها الموسيقى الغربية واقتصار الموسيقى  الشرقية على نوع يكاد يكون واحدا، ويشبه ذلك شعر أمتين، تناول  فى الأولى كل ما تذهب إليه أغراض الشعر من وصف وغزل ومدح  وهجاء ورثاء... ، واقتصر الثانى على غرض واحد لا يتمداه من  تلك الأغراض.

كذلك الأمر فى الموسيقى الشرقية. لم تعد كونها موسيقى لهو  ومرقص وهى تكاد تقصر نفسها على هذا اللون فقط لا تبدله  ولا تنهض عنه بينما نجد أن للموسيقى العربية مذاهب وأغراضا متعددة  متلونة لا يكاد ينتهى منها الباحث. ولعل ذلك راجع كما أرى إلى إن  نشأة الموسيقى الشرقية لم تكن بالنشأة اللائقة بها كفن سام له آدابه،  فهي قد نشأت فى بلاد الفرس والعرب بين الموالى والقيان وفى  الحانات التى كان ارتيادها محرما على ذوى المكانة الأدبية. ومع أن  بعضا من الخلفاء قد اهتموا بأمر الموسيقى وعطفوا على المشتغلين  بها فان ذلك كان ليرفهوا عن أنفسهم فى مجلس شراب وانس  لا مجلس جد واحترام وظل الأمر كذلك حتى انتقلت الخلافة إلى  الأتراك فابتدأت الموسيقى ترفع رأسها لتحل محلها الذى كان ينبغى  لها إن تحله من قبل. وكان ذلك باشتغال سلاطين آل عثمان أنفسهم  بالموسيقى وما زال (سوزدلار بيشروي) - تأليف السلطان سليم -  خليفة المؤمنين آية من آيات الموسيقى الشرقية.

ومما يؤسف له حقا، ان التراث الفني للموسيقى العربية قديما  مفقود، إذ لم تكن الحروف الموسيقية (النوتة) متداولة، أو لعلها

كانت متداولة إلا ان ما وصل إلينا منها كالطلاسم لا حل له ولا بيان.  وكانت النتيجة إننا لم نرث عنهم سوى الناحية الأدبية وهى كما قلنا  لا تشرف فى قليل ولا كثير، بل لعلها قد أثرت أثرها السئ فى الأفهام.

بقيت الآن ملاحظة ثانية على الفروق بين موسيقى الشرق  وموسيقى الغرب، تلك هى ضعف الأولى وخلوها، وامتلاء الثانية  وقوتها، وهذا فيما أرى يرجع لسبب لا نملكه.

ينشأ الموسيقى الغربى بين جبال وصخور وبحار عظام تمثل قوة  الطبيعة وعظمتها وتهب عليه العواصف وتنقض الصواعق وترعد فى  سمائه الرعود فعندما تجول فى مخيلته الموسيقية فكرة نراه تأثر فيها  بتلك المؤثرات التى احاطت به والتى تكيفت بها عاقلته ومخيلته.  فنراها فى صوته الاجش القوى وفى موسيقاه الممتلئة الضخمة.

أما نشأة الموسيقى الشرقى فعلى ضفاف نهر عذب تسطع عليه  شمس صافية وتهب من حوله نسمات تتهافت فى الرقة واللطف،  وشد ما قاساه من قسوة الطبيعة وبطشها لفحة حر أو قرصة برد  لا تلبث حتى يصفو الجو ويعتدل النسيم

ذلك ما يحيط بالموسيقى الشرقى وذلك ما يوحى إليه بفكرة  موسيقاه وهذا ما ترتاح إلى سماع التعبير عنه أذنه وهذا سر  تلك الرقة التى نشاهدها فى موسيقاه وهى ليست منقصة أو عيبا  ولكن الضعف هو ضعف التعبير عن الفكرة كالبيت من الشعر يصف  البستان النظر والمنظر الجميل فى أسلوب ضعيف وفكرة غنة  وليس العيب فيها عيب الموصوف بل عيب القصور فى التعبير  وضعف شاعرية الشاعر

ورقة الموسيقى ليس معناها ضعفها من الناحية الفنية، بل لعلها  تكون قوية كل القوة وهى تسيل رقة ولطفا، ولعل من يسمع  Romance لبتهوفن يمكنه أن يفهم ما اعنيه تماما بقوة الموسيقى  ورقتها مجتمعين معا.

بقى الآن الحديث عن تركيب الأنغام فى كلتا الموسيقتين والأوزان  والتاليف فيهما، وارجو أن تتاح لى الفرصة قريبا للكلام عنهما  فى أعداد قادمة من (الرسالة) .

اشترك في نشرتنا البريدية