الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

بين اليأس والرجاء

Share

صوتان لابد أن يرتفعا فى كل أمة ويجب أن يتوازنا  حتى لا يطغى أحدهما على الآخر، صوت يبين عيوب الأمة  فى رفق وهوادة، ويستحث على التخلص منها والتحرر من  قيودها، وصوت يظهر محاسنها ويشجع على الاحتفاظ بها  والاستزادة منها. والصوتان معا اذا اعتدلا كونا موسيقى  جميلة منسقة تحدو الأمة الى السير الى الأمام دائما، هى  موسيقى الجيش تبعث الرجاء والأمل، وتمنى بالنصر والظفر،  فان بغى أحد الصوتين كانت موسيقى مضطربة تهوش النفس  وتدعو الى الفوضى والارتباك، وإذا كان (الدور) فى  الموسيقى يكون منسجما كله، ويشذ أحد أصواته لحظة فيكون  (نشازا) يخدش السمع ويجرح النفس، فما ظنك (بدور)  كله (نشاز)؟

مما يدعو الى الأسف أن صوتا فى الشرق علا كل صوت،  وهو ليس خير الأصوات وأحبها الى النفس، هو صوت  اليأس والتثبيط يتغنى به كل أصناف الدعاة، فخطيب المسجد  تدور خطبته دائما على أن من يخطبهم ليسوا مؤمنين  حقاً، فقد ارتكبوا من الأوزار، واجترموا من الآثام ما  أخرجهم عن الايمان الحق، وأبعدهم عن الدين الصحيح، ولو  آخذهم الله بأعمالهم لأمطرهم حجارة من السماء، أو خسف  بهم الأرض، ثم يصب هذا المعنى كل أسبوع فى قالب، وكل  القوالب تختلف أشكالها، ويتحد معناها، ويخرج السامع دائما  وقد ملأه اليأس، وانقطع به الرجاء، الا أن يتداركه الله  بعفو ليس جزاء على عمل.

ودعاة اللغة والأب يلحون فى أن اللغات الأجنبية خير  من اللغة العربية، وأن الأدب الأجنبى أدب الثقافة والفن  والعلم، ولا شيء من ذلك فى الأب العربي، وأن من شاء أن  يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبى ولغة أجنبية، والا ظل

أعمى، وموجز دعوتهم أن يتحول الشرق فى لغته وأدبه الى  الغرب فى لغته وأدبه، لا أن يختار من لغة الغرب وأدب الغرب  ما تلقح به لغة العرب وأدب العرب.

ودعاة الاجتماع أدهى وأمر، فليس فى الشرق كله ما يسر،  قد جرده الله من كل حسن، فلا طبيعة جميلة ولا مناظره  جذابة، ولا شيء فيه يأخذ باللب ويدعو الى الأعجاب، والقمر  فى الغرب أنور منه فى الشرق، والبحر الأبيض قد جمل منه  ما لامس الغرب، وقبح ما لام الشرق، وكل شىء فى عادات  الشرق وتقاليده تعافها النفس، وينفر منها الطبع، وعلى الجملة  فالله تعالى الواهب ما شاء لمن شاء قد جعل الحسن كله فى ناحية،  وقال له كن الغرب فكان، وجمع القبح كله فى ناحية وقال له كن  الشرق فكان، وهم اذا لم يقولوا ذلك كله جهارا آمنوا به  ايمانا، وصدرت عنه أفعالهم، واتجهت اليه حياتهم.

ودعاة العلم من هذا الطراز، فكتب العلم العربى انما تصلح  لدارس التاريخ أو طعمة للنار، وماذا فيها إلا تخريف أو  تحريف، قد كانت نتاج القرون الوسطى، ونحن نتاج العصر  الحديث (ومالى وللسياسة ودعاتها فلأهربن منها اتقاء لنارها-  ومجالسنا صدى لهذا الصوت، فاذا استثنيت عُشر معشارها  فكلها نقد للأخلاق وطعن فى حياة الشرق، وتهجم على حال  أمتهم، وتجهم لكل ما يصدر منهم، وقلّ أن تسمع صوتاً  ينطق بمدح أو يعجب ببطولة، أو يتغنى بعمل مجيد.

هذه نغمة مملولة كانت أجنى على الشرق من كل عيوبه،  ولن تفلح أمة من غير ذخيرة تعتز بها، ومجد طارف وتليد  تعتدٌ به، ونعرة قومية تدعوها الى الفخر والاعجاب، ولأمر  ما قال تعالى "كنتم خير أمة أُخرجت للناس" وليس عبثاً أن  يكون فى أناشيد الألمان "ألمانيا فوق الجميع" وأن يعتقد  بعض الأمم فى أنفسهم أنهم شعب الله المختار، ونحو هذا ممّا ينعش  الأمل، ويدعو الى العمل.

تلك ظاهرة نفسية لا مجال لانكارها، فاعتقد الغباوة فى  طفلك وكرّر عليه اعتقادك تقتل كل ما فيه من ذكاء، وأعلن  أنه ذكى وشجعه على ما يبدر منه من ضروب الذكاء تستخرج  أقصى ما عنده من عقل. وفى المثل الانكليزى "دعوا الكلب

عقورا فشنق" يعنون أنهم اعتقدوا فى كلب سوءاً وسمّوه  عقورا وظلوا يطلقون عليه هذا الاسم حتى صدر منه من  أفعال السوء ما أستوجب قتله. وفى أمثالنا العامية "قالوا  للفلاح يا حرامى شرشر منجله" ذلك أن الاتهام يحمل على  ارتكاب الجريمة من ناحيتين: من ناحية الايعاز، فمن  اتهمته فقد أوعزت اليه واقترحت عليه العمل وأظهرت له  الجريمة ماثلة أمام عينه حينا بعد حين- ومن ناحية أن  أكبر ما كان يمنعه من الشر خوفه أن يتهم بالشر، فاذا اتهمته  فقد كان ما يخشاه، وأقدم على ما كان يتحاماه، هذا الى ما يوحيه الاتهام الدائم من شعور باطنى يسيره نحو العمل وفق الاتهام،  وهذا هو السر فى أن بعض قوانين تسن لمعاقبة بعض أنواع  الاجرام فتكون سببا لكثرة الاجرام، ثم ترفع فيقل الاجرام،  لأن وجود القوانين كان موعزا بارتكابها، ولعل أنواعا  من الآثام زادت بكثرة الكلام فيها من جهلة الوعاظ ممن لم يحسنوا  دراسة النفوس وقوانينها.

إذا سقط الفتى فأريته أن سقطته قابلة للعلاج، وأخذت  بيده لانتشاله، كفر عن سقطته وعاد الى حاله، وان أنت أريته  أن سقطته لا تغتفر، وأنه لم يصبح انسانا استمر يسقط أبدا-  وكثير من الساقطين والساقطات لو أحسوا فى الناس  استعدادا لقبولهم، وشعروا أنهم يفسحون لهم فى صدورهم  لعدلوا عن سقطتهم، ونهضوا من عثرتهم.

وبعد فليس الشرق، بدعا من الخلق، إن اعتز أحد بماض  فليس أمجد من ماضيه، وان كان لكل أمة غريبة محاسن ومساو  فللشرق محاسنه ومساويه، وان كانت مساوئ الغرب لم تمنعه  من نهوضه فلم تمنع الشرق مساويه من نهوضه؟ ليس أعوق  للشرق من هذا الصوت الكريه يصدر من دعاته فيبعث اليأس  وينفث السم.

أيها الدعاة: كسروا قيثارتكم هذه التى لا توقع إلا نغمة  واحدة بغيضة، واستبدلوا بها قيثارة ذات الحان صنعها طب  بأدواء النفوس عليم، واكثروا من ألحان تبعث الأمل،  وتدعو الى العمل، وتزيد الحياة قوة، ولا تشهروا برذيلة الا  اذا أشدتم بفضيلة، ولا تسمعونا صوت المعاول، الا اذا  أريتمونا حجر البناء.

اشترك في نشرتنا البريدية