الأصل فى الكلام إنه وسيلة تتوسل به الى الاعراب عما تريد أن يفهمه عنك غيرك، فهما واضحا جليا لا لبس فيه ولا غموض. والكلام كله يشترك فى هذا الأصل أو قل كان يشترك فى هذا الأصل سواء منه ما كان شعرا وما كان نثرا، وسواء منه ما تحدث الى العقل وما تحدث الى القلب والشعور. فاذا خرج الكلام عن أصل البيان والتبيين هذا فكان فيه غموض أو التواء فمصدر ذلك قصور فى المتكلم أو الكاتب أو قصور فى السامع أو القارئ، عجز ذاك فلم يحسن الاعراب عما يريد، أو عجز هذا فلم يحسن الفهم لما لقى اليه. وقد يكون الغموض مقصودا والالتواء متعمدا، لأن للكاتب أو الشاعر أو المتكلم غرضا يدفعه الى أن يتكلف الغموض ويتعمد الالتواء ولكن هذا الكلام الغامض الملتوى واجد على كل حال من يقرأه أو يسمعه فيفهمه فهما صحيحا مستقيما
هذا هو الأصل فى الكلام ولكن يظهر أن الترف الفنى الذى ترقى بنا الحضارة إليه، وتنتقل بنا فى درجاته المختلفة يأبى أن يقر الأشياء فى أصولها أو يدعها ميسرة لما خلقت له. فكما أن الأصل فى الطعام والشراب الغذاء والرى، ولكن الحضارة والترف قد خرجا بهما عن هذا الأصل الى ما يتجاوز الغذاء والرى، الى غيرهما من اللذات التى يجدها الطاعمون والشاربون فقد خرج الترف الفني فى هذه الأيام بالكلام عن أصله المألوف الى شىء آخر غير البيان والتبيين، ونشأت طائفة من الكتاب والشعراء لا تكتب النثر ولا تقرض الشعر لتقول شيئا واضحا جليا أو لتقول شيئا ينتهي بعد الجهد والبناء الى الوضوح
والجلاء. وانما تكتب وتنظم لتثير فى نفسك ألوانا من المعانى وضروبا من الخواطر، ولتهيج فى قلبك أشكالا من العواطف وفنونا من الشعور، تحسها فتلذ لها وتألم، وتبتهج لها وتضيق بها، وتفهمها حينا وتعجز عن فهمها أحيانا، وتذهب مذاهب متعددة غريبة متباينة فى فهم هذا الكلام الذى يلقى اليك وتأويله وتخريجه فتقر ما تنتهى اليه ثم يبدو لك فتعدل عنه، ثم تقرأ هذا الكلام مرة أخرى فاذا أنت تذهب فى فهمه وتأويله وتخريجه مذاهب لم تكن قد ذهبتها من قبل، ثم تتحدث الى من قرأ هذا الكلام نفسه فاذا هو يخالفك فى الفهم كل الخلاف أو يخالفك فى بعضه ويوافقك فى بعضه الآخر. ثم تتحدثان الى ثالث قد قرأ هذا الكلام فاذا له فيه رأى لم ترياه ولم يخطر لكما على بال ولعلكم إن سألتم الكاتب أو الشاعر الذى ألقى اليكم والى الناس هذا الكلام عما أراد به حين كتبه أو نظمه لم تجدوا منه جوابا مقنعا ولا ردا مريحا. أو وجدتم أجوبة مختلفة وردودا متباينة، لأنه هو لا يعرف بالضبط ماذا أراد حين كتب أو نظم أو كان يعرفه أثناء الكتابة والنظم ثم ذهب عنه بعد ذلك، أو كان يعرفه فلما أتم الكتابة والنظم وترك ما كتب ونظم حينا عاد اليه يقرأه فاذا هو يفهم منه غير ما أراد ويتبين منه غير ما كان قد قصد اليه
وقد يخطر لك أني أقصد بهذا النحو الكلام الى شىء من العبث أو الدعابة، فذد عن نفسك هذا الخاطر فلست بصاحب عبث ولا دعابة. وإنما أنا صاحب جد كل الجد وأنا أكتب هذا الكلام بعد أن فرغت من قراءة قصة لذيذة قيمة ممتعة للكاتب الفرنسي جورودو. صاغها فى صيغة القصص التمثيلى ووضع لها العنوان الذى وضعته أن لهذا الفصل، ونشرها فى عددين من مجلة باريس
وقد قلت إن هذه القصة لذيذة قيمة ممتعة وانا اريد ما
قول، ولعلى مقصر حين اكتفى بهذه الأوصاف وحسبك أنى قرأتها ثلاث مرات وسأقرؤها ان أذن بذلك الوقت وسمحت به الظروف. وقد وجدت فى كل قراءة لذة ومتاعا وأنا واثق بأنى سأجد فى القراءة الرابعة لذة ومتاعا. ولكنى على ذلك كله لم أفهم ما أراد الكاتب أو قل فهمت أشياء مختلفة وأغراضا متباينة، ما أظن أن الكاتب قد أراد إليها أو فكر فيها. وقد أسأت الظن بنفسى فأقرأت هذه القصة قوما آخرين وجدوا فيها لذات لم أجدها ومتاعا لم أشعر به. ولكنهم كانوا مثلى عاجزين عن أن يفهموا بالدقة أو بالتقريب ما أراد اليه الكاتب حين كتب قصته هذه البديعة الغريبة. ثم انتهى بنا الأمر الى أن اتفقنا على إن الكاتب لعله لم يرد شيئا أكثر من أن يثير فى نفوسنا وقلوبنا هذه الخواطر والعواطف وهذه الأهواء والميول. وعلى أن الكاتب لعله أراد أن يذهب بالكلام مذهب الموسيقيين بالموسيقى، فلا يقصد إلا الى أن يثير فى نفسك ضروبا من العواطف والأهواء حول فكرة خطرت له وأثرت فيه فصورها كما استطاع فى هذه الألحان التى قد تطابق ما فى نفسه وقد تقصر عنه وقد تتجاوزه وتربى عليه. ولكنها على كل حال قلما تنقل الى نفسك صورة صحيحة مطابقة لما كان فى نفسه، وقلما تثير فى النفوس المختلفة عواطف وأهواء مؤتلفة أو متقاربة تقاربا شديدا. انما قصاراها أن تدفع بك فى عالم من الخيال لا حد له. فأنت تتصور فيه ما تشاء. وأنت تحس فيه ضروبا متباينة من الاحساس وقد تسمع اللحن الموسيقى الآن فيثير فى نفسك لونا من الخواطر وتسمعه بعد ذلك فيثير فى نفسك لونا آخر. وكذلك يذهب أصحاب الكلام بالكلام حتى يجعلوه فنا من النغم وضربا من الموسيقى، وحتى يستطيعوا أن يلقوه اليك فاذا أنت لا تفهم منه شيئا دقيقا جليا كما تعودت أن تفهم من الكلام. ولكنك على ذلك لا ترغب عنه ولا تنفر منه بل تؤثره ولا تعدل به شيئا.
فى هذه القصة خداع غريب خطر لأنه يخيل اليك انك تفهم ما تقرأ على وجه من وجوه الفهم فتمضى بالقراءة متابعا فهمك هذا مطمئنا اليه، ولكنك لا تلبث أن تضل الطريق. واذا انت فى واد غير ذلك الوادى الذى كنت تمضى فيه. وما يزال كذلك
ينقلك من واد الى واد ويثب بك من مذهب فى الفهم الى مذهب آخر حتى تنتهى القصة. واذا انت تسأل نفسك ماذا فهمت انت منها وماذا أراد الكاتب بها اليه.
ولا بد لى من ان ألخص لك المقدار الذى يستوى الناس جميعا فى فهمه من هذه القصة حين يقرأونها وهو هذه الصورة الظاهرة التى يقسمها الكاتب الى مناظر وفصول. ولكنى أحب أن تفهم أن هذا التلخيص لا يعطى شيئا ولا يصور ما أراد الكاتب. وقد قرأت لجماعة من النقاد فما أرى انهم فطنوا لما قصد اليه فى دقة ووضوح.
كل شىء فى القصة مبهم قد تعمد الكاتب إبهامه، حتى الأماكن التى تقع فيها حوادث القصة، والأوقات التى اختارها الكاتب لوقوع هذه الحوادث. فأكثر ما يقصه عليك الكاتب يجرى فى مكان غير محدود ليس هو داخل المدنية وليس هو شديد البعد منها وكأنه فى طرف من أطرافها حيث تتصل عمارات المدن بالفضاء الواسع الطلق. وهو فى غابة أو فى شىء يشبه الغابة، تتبين فيه الأشجار ولكنك لا تضيق بها ولا تحس كثافتها والتفافها. والمكان واسع قد كسا أرضه العشب وانتثر فيه زهر كثير مختلف. ولا تقع حادثة من حوادث القصة فى أول النهار أو فى وسطه حين تستطيع العين أن تحيط بالأشياء وتحقق النظر فيها وحين تستطيع النفس أن تتابع العين فتفكر فى شىء بين محدود. وانما تقع الحوادث فى الأصيل حين يختلط آخر النهار بأول الليل، وحين يضطرب على الأشياء رداء رقيق جدا من الضوء، وحين تتفرق النفس كأنها تريد أن تتابع الشمس فى مسراها من وراء الظلمة الكثيفة المقبلة.
واذا اختار الكاتب هذا المكان المبهم، وهذا الوقت المبهم لم يكن من العسير عليه أن يختار اشخاصا ان ظهرت صورهم المادية ظهورا واضحا فى بعض الأحيان، فان صورهم النفسية وما يصدر عنها من الأحاديث والخواطر مبهمة شديدة الابهام ملائمة أشد الملائمة لما يحيط بها من زمان ومكان. ولعل أحسن مظهر لبراعة الكاتب انما هو انشاء هذه البيئة الغامضة الواضحة المبهمة الجلية التى هى بين بين.
موضوع القصة نفسه يقتضى هذا الموقف المتوسط بين الوضوح والغموض، فنحن فى مدينة صغيرة من مدن فرنسا كانت هادئة مطمئنة تجري حياة أهلها فى اضطراد لا نتوء فيه كأنه السهل المنبسط. ثم يضطرب امرها فجأة وتحدث فيها حوادث غير مألوفة كأن شيطانا ماكرا قد أشرف على امورها فقلبها رأسا على عقب. تعودت أن تجيل بين أهلها فى كل عام طائفة من أوراق "النصيب" . فاذا جاء موعد القرعة فقد تعودت المدينة أن تخرج القرعة لأغنى أهلها إلا فى هذه السنة فقد خرجت لرجل فقير. تعودت ان تؤدى عملية الإحصاء من حين الى حين
كما تؤديها غيرها من المدن فاذا سألت الأسر عن عددها ردت بأجوبة تلائم العرف والقانون الا فى هذا العام، فالعمدة يستحى ان يقدم الى المركز أوراق الاحصاء لأن الناس قد احصوا انفسهم، وكلابهم، وماشيتهم. ولأن الرجال لم يضعوا زوجاتهم فى اجوبة الاحصاء، وانما وضعوا خليلاتهم. تعودوا ان ينهر الرجل صبيه فلا يثور الصبى، وان يزجر كلبه فلا يثور الكلب،
أما فى هذا العام فالصبيان ثائرون بآبائهم وأمهاتهم، والكلاب ثائرة بأصحابها وسادتها. وعلى هذا النحو أضطرب فى المدينة كل شئ. ومصدر الاضطراب فيما يظهر ان اشاعة ملأت المدينة بأن شبحا يظهر لبعض أهلها اذا تولى النهار وأقبل الليل. وقد صدق الناس هذه الاشاعة واطمأنوا اليها فكلهم يلتمس الشبح وكلهم يراه، وكلهم يخافه، ويحتاط للقائه. وانتهى أمر هذا الاضطراب الى باريس فأرسلت الحكومة المركزية مفتشا الى هذه المدينة يبحث ويستقصي، وأمرته بان يحسم الداء اذا انتهى الى أصله. وفكرة الحكومة أن هذا عارض من الضعف العقلى ومن الشعوذة قد ألم بهذه الدينة، فيجب ان يرد عنها وأن يبسط عليها سلطان العلم والعقل، ويقبل هذا المفتش ممتلئا بهذه الفكرة
فلا يكاد يتحدث الى العمدة والصيدلى ومراقب المكاييل والموازين حتى يروعه تصديق المدينة لهذه الخرافات، وحتى يشتد عزمه على ان يشمر فى الحرب لهذا السخف حتى يقضى عليه. وهو ينكر وجود الأشباح والأرواح، وهو يتحدى الأشباح والأرواح ويطلب اليها أن تقلق طائرا ولو يسيرا عن غصن من هذه الأغصان وهو يحصى ثلاثة فلا يتم الاحصاء حتى تسقط قلنسوته عن رأسه! فيقول: ما أشد الريح أو يجيبه أصحابه: ليس فى الجو أثر للنسيم!
وهو يعود الى التحدى فى لفظ غليظ بشع ويطلب الى الأرواح والأشباح أن تمسه بأذى ولو ضئيل. ويحصى ثلاثة فلا يكاد يفرغ من الاحصاء حتى تزل قدمه به فيهوى! فاذا نهض قال ما أشد الرطوبة! فيجيبه أصحابه، إن عهدنا بالمطر لبعيد! وبهذا يتحقق الخلاف بين ممثل الحكومة المركزية وأهل المدينة. هو صاحب علم وعقل وهم أصحاب خيال وإيمان بالخرافات.
ولكن علم المفتش أولى وعقله محدود. فهو يؤمن بما فى الكتب ويسلم به مقلدا فيه وهو يرى الايمان به والتعصب له سياسة تلائم الديمقراطية وتوافق نظم السياسة الحديثة. وسذاجة أصحابه الذين يحاورهم ظريفة طلقة ليس فيها غلظ ولا ضيق، وانما هى سذاجة ذات أجنحة تسمو بأصحابها حتى تتجاوز بهم حدود المألوف المعقول وكأنها قد اتخذت أجنحتها من الخيال وأصبحت شعرا كلها، فالحوار اذا انما هو بين الحقائق الواقعة المقيدة التى لم تبرأ من الجمود ولم تسلم من القصور، وبين الخيال المطلق الحر الذى أخذ بحظ عظيم من الرقى والصفاء والتهذيب. الحوار اذا بين الحياة اليومية المألوفة يمثلها شخص المفتش وبين الشعر يمثله هؤلاء الناس. بل يمثله معهم أكثر أهل المدينة وتمثله معهم بنوع خاص إيزابيل هذه الفتاة التى تقوم على تعليم البنات مكان المعلمة المريضة والتى تذهب فى تعليم الفتيات مذهبا غريبا ملائما كل الملاءمة للطبيعة الحرة والشعر الطلق. فهى لا تضطرهن الى المدرسة
وإنما تتخذ من الغابات والحقول مدرسة تلقى عليهن فيها علما غريبا يضيق به المفتش الذى يمثل حياة كل يوم. وهى تلقى اليهن أسماء غريبة تدل بها على ألوان العلم فى الفلك والطبيعة والنبات والحيوان وهى لا تتحرج فى أن تحملهن على أن يتشكلن بأشكال الحيوانات المختلفة ويتسمين بأسمائها ويسرن سيرتها، كل تعليمها يمتاز بأنه شعر، ويقوم على تحبيب الطبيعة الى التلاميذ. ولا يكاد المفتش يرى هذا ويتبينه حتى ينفر منه ويثور به ويرى أنه أصل هذا السخف الذى سيطر على المدينة ونشر فيها الفساد والاضطراب.
فيعزل الفتاة إيزابيل من منصب التعليم، ويأمر أن يجرى التعليم فى المدرسة على ما يجرى عليه فى المدارس الأخرى فى أضيق حدود التقاليد وقد أنبئ بأن مصدر هذه الاشاعة التى اضطربت لها المدينة انما هو هذه الفتاة المعلمة، فهى التى ترى الشبح وتناجيه اذا كان المساء! وقد ثبت له ذلك. فأرصد للفتاة وطائفها ومعه نفر مسلحون حتى اذا كان المساء أقبلت الفتاة وأقبل الطائف فتحدثت اليه وتحدث اليها. وهما فى حديثهما واذا نار تطلق فيهوى
الطائف الى الأرض كما يهوى القتيل. ويظهر المفتش وأصحابه وهم لا يشكون فى ان هذا الطائف ليس الا شابا أراد أن يغوى الفتاة فاتخذ صورة الطائف وشكل الخيال. ويحنو بعضهم على القتيل فلا يرى جثة وينظر القوم فاذا الطائف يرتفع فى الجو شيئا فشيئا حتى يسترد صورته الأولى ثم يقول: الى غد يا إيزابيل! الى غد فى غرفتك اذا كانت الساعة السادسة!
فاذا كان الغد أقبلت الفتاة الى غرفتها قرب الموعد المضروب وأقبل مراقب المكاييل والموازين فأخذ يتحدث اليها حديثا فيه حب، فتريد ان تصرفه عن نفسها فيأبى ويعرض عليها الزواج، وهما فى الحديث واذا الطائف قد أقبل وطلب اليه أن ينصرف ويدعه مع الفتاة. ولكن الرجل يأبى ويلح فى الاباء ويكون بينه وبين الطائف حوار عنيف دقيق أيهما يستأثر بالفتاة، والفتاة مترددة بين هذا الرجل الذى يمثل الحياة وهذا
الطائف الذى يمثل الموت ولكن ميلها الى الحياة ينتصر آخر الأمر فينصرف الطائف مهزوما وتهوى الفتاة فى غشية كأنها الموت. ويقبل المفتش والعمدة والصيدلى والتلميذات وبعض أهل المدينة وكلهم يريد أن يستنقذ الفتاة من هذا الاغماء. وكلهم يقترح لذلك دواء وطبا ولكن الصيدلى يتقدم اليهم جميعا فى أن ينسوا الفتاة وينصرفوا الى أنفسهم. ويستأنف كل منهم حياته فى هذه الغرفة
كما لو كان بعيدا عنها فهؤلاء يلعبون الورق وهؤلاء الفتيات يتحدثن فيما بينهن حديثا عاديا، وهاتان الفتاتان تتحدثان فى الأزياء، وهذا المفتش ينطق من حين الى حين بألفاظ تمس العلم والتعليم والديمقراطية وقد استحالت الغرفة صورة مصغرة للمدينة. واذا الفتاة المغمى عليها تفيق شيئا فشيئا حتى تشترك فى الحديث عن الأزياء ويأتى من يخبر بأن الأمور قد استقامت فخرجت قرعة النصيب للأغنياء دون الفقراء، ويعلن الصيدلى فى ألفاظ تذكر بقصة فوست أن قد انتهت هذه الحال التى كانت بين بين!
هذه صورة غليظة جدا لهذه القصة لا دقة فيها ولا تحديد ولا المام بشىء مما فيها من مواطن الشعر ومظاهر الجمال الفنى الرائع. ولا المام فيها أيضا بهذه المواقف الكثيرة التى يعرض فيها الكاتب للحياة اليومية على اختلاف فروعها بالنقد اللاذع المر، ولكنك تستطيع أن تسأل نفسك كما سألت نفسى وكما سأل غيرى
من القراء نفسه حين قرأ هذه القصة، ماذا أراد الكاتب أن يصور فيها؟ أتراه اكتفى بنقد ما نقد من ألوان الحياة الفرنسية ولم يرد غير ذلك! الا فان هذا النقد عارض فى القصة يكفى أن تنظر فيه لتعلم ان الكاتب لم يتخذه غرضا من أغراضه الاولى اتراه رمز بهذا الطائف الى شىء مما يعرض للناس فى حياتهم
وجعل الفتاة رمزا للناس جميعا أو لطائفة من الناس؟ ولكن ما عسى ان يكون هذا الشىء الذى أتخذ الطائف رمزا له أهو الحب؟ أهو الموت؟ أهو الأمل؟ أهو المثل الأعلى؟ أهو شىء غير هذا كله؟ اتراه إنما أراد ان يصور حالا من احوال الناس تعرض لهم فى طور من أطوار حياتهم حين يكونون بين النوم واليقظة، أو حين يكونون بين الصبا أو الشباب وبين الاكتهال واكتمال السن. أتراه اراد ان يصور لنا حياة فتاة مريضة بنوع من أنواع الأمراض العصبية تتأثر بالوهم وتتبعه حتى تمضى فى أثره الى أمد بعيد ثم لا ترد الى الحياة الواقعة إلا فى هدوء ورفق.
وإلا بأن تحيط بها الحياة الواقعة إحاطة متصلة لا تكلف فيها ولا جهد. كل ذلك ممكن، ولعل شيئا غير ذلك كله ممكن أيضا ولعل الكاتب (وقد هممت ان املى الشاعر) لم يرد كما قلت إلا ان يخلق حولك هذه البيئة الشعرية التى تطلقك من قيود الحياة الواقعة وتسلمك الى الخيال يمضى بك حيث يشاء ساعة من نهار أو ساعة من ليل. وقد ذهب الشعراء الى هذا النحو من الفن منذ عهد غير قصير، فمنهم من جعل الشعر موسيقى تلذ السمع أولا، وتثير فى النفس لذة النغم الموسيقى بعد ذلك وأعرض عن المعانى اعراضا شديدا أو هينا. ومنهم من أعرض عن هذه الموسيقى الظاهرة التى يتأثر بها السمع قبل كل شىء واتخذ الشعر مفتاحا يفتح لك به أبواب اللانهاية كما يقول الشعراء ووسيلة يخلق لك بها هذه البيئة الفنية العليا التى ترتفع بها وقتا ما عن الحياة والاحياء.
وأخذ الكتاب يذهبون بالنثر مذهب الشعراء بالشعر ولكن كاتبنا قد تجاوز مذهب الكتاب الذين يقلدون الشعر والشعراء فى النثر الذى يتجه الى القراء ليس غير، وسلك هذا المذهب الشعرى بالنثر التمثيلى وبالتمثيل نفسه. وأنت فى غير حاجة الى أن أبين لك الفرق بين النثر الذى يذهب فى صاحبه مذهب
الشعراء والموسيقيين والذى يتجه الى الناس جميعا ولكنهم يقرأونه متفرقين ويتأثرون به متفرقين، وبين النثر الذى يذهب به صاحبه هذا المذهب ويتجه به الى طبقات من الناس يجمعهم فى مكان واحد، هو الملعب وينتزعهم من الحياة الواقعة معا ويسمو بهم معا الى عالم الشعر والخيال ويتخذ لهذا سبيلا واحدة هو التمثيل. وأظنك توافقني على ان هذا النوع من الاقدام والابتكار جراءة فنية قيمة. ولكن قد رأينا الآثار التى تتركها قراءة هذه القصة فى نفس القراء ولم نحب ان نرى الآثار التى تتركها تمثيل هذه القصة فى نفس النظرة. ولكن أين نحن من هذا وأين هذا منا فى مصر الآن؟ وأنا أريد ان اعرض عليك منظر من مناظر هذه القصة لم أختره اختيارا وانما هو كغيره من المناظر التى تستحق كلها أن تترجم وأن تتخذ نموذجا ومثلا لهذه الفن التمثيلى الجديد. وهذا المنظر حوار بين إيزابيل وبين الطائف:
الطائف - أكنت تنتظريننى؟ إيزابيل - لا تعتذر! فلو كنت طائفا مثلك لوقفت عند هذا الشفق وعند هذه الأودية، حيث لم أستطع الى الآن أن أحمل الا جسما كثيفا. اذا لاستوقفتنى الغدران والنبات الملتف وكل ما أقف عنده الآن! اذا لما كنت هنا الآن لو أنى أستطيع مثلك ان أطوف بظلى كما لا أستطيع الا أن أمسه أو أراه! اذا لاتخذت لنفسى جسما من الأشياء كما أهوى عصفورا على الغصن مرة! أو طفلا مرة أخرى! أو انحرف مرة ثالثة فأتقمص عودا مزهرا من النسرين. انما الاحتواء هو القرب الصحيح. . . ولكنى ألومك لأنك أقبلت هذا المساء وحدك، وحدك دائما. لم تستطع ان تمس أحدا من ذويك ولا أن تحمله على صحبتك! الطائف: لم أستطع.
إيزابيل: لقد فكرنا أمس بعد كل هذا الاخفاق أن أقدر الأشياء على أن يهيجهم، ويؤثر فيهم، ويوقظ ما يمكن ان يكون أعصاب الطيف، قد يكون صيحة طويلة، وشكوى متصلة متشابهة، تتردد فى طول واتصال. كهذه الصيحة الحقيقية أو التى نحلم بها والتى تصدر عن القطار فتوقظنا أحيانا مع الفجر وتردنا الى الأحياء. أو كصيحة سفينة أثناء الليل فى الخلجان، تلك الصيحة التى تبلغ حتى الأسماك الرخوة فى القاع. أبعثت هذه الصيحة؟ أأنفقت يقظتك فى بعثها؟
الطائف: نعم! إيزابيل: أنت بنفسك؟ أنت وحدك؟ ولم تلحق بصوتك شيئا فشيئا ألاف من اصوات تشبهه. . الطائف: لقد اصطدمت بنوم الموتى. إيزابيل: اينامون؟
الطائف: أيكون هذا نوما؟ لقد تسود اكثر الأحيان حيث يجتمعون رعشة، ثم ينساب فيهم نشاط جديد، حتى لقد ينبعث منه شىء يشبه الصوت أو انعكاس الضوء فاذا أقبل عليهم الطارقون المحدثون انغمسوا فى اضطراب لذيذ تهدأ له بقية حياتهم يهزهم دائما ترجح الأرض الخفيفة. ولكن ربما اتصلت جماعتهم كلها، فكأنها قطعة من الثلج قد غمرها نوم الشتاء فاذا هبط اليها الموتى الوافدون غرقوا فيها مع شعاع يرافقهم، لان نوم الأحياء شمس وبهجة. إيزابيل: أكانوا كذلك أمس؟ أيفصل ذلك زمنا طويلا؟ الطائف: قرونا.. ثوانى إيزابيل: أليس من أمل فى المعونة الطائف: منهم، لا اظن.
إيزابيل: لا تقل هذا! ان بين الذين قضوا من حولى من أحسست انهم قد ذهبوا الى غير رجعة ومحيت أشخاصهم من كل حياة ومن كل موت. لقد أرسلتهم على العدم كما ارسل الحجر. ولكن بينهم من وجهتهم الى الموت كأنما وجهتهم فى مهمة، أو كأنما كلفتهم محاولة، يظهر الموت فيها وكأنه اقصى غايات الثقة. فكان يضطرب حول المقابر جو السفر والأماكن المجهولة. ولم اكن أميل الى ان أودعهم باللفظ بل بالاشارة. وكنت أحس أثناء المساء كله كأنهم يبحثون عن إقليم جديد وعن بيئة جديدة. وكانت الشمس مشرقة، وكنت أراهم هناك ينامون فى شمسهم الجديدة. وكان المطر يسقط وكانوا يتلقون القطرات الأولى من أمطار الجحيم. فلن تقنعنى بأن هؤلاء ايضا ينسون أو يسقطون متى انتهوا الى مستقرهم؟
الطائف: لم يصلوا لم أرهم. إيزابيل: ولكنك أنت نفسك تلقى السلاح؟ وتكتفى من الأمل والرغبة بأن تهيم طائفا فوق مدينة ضئيلة الطائف: المهمة خطيرة: ايزابيل: ومع ذلك فها أنت ذا.
الطائف : إن يين الموتى من ينام وكأنه يقظان . ايزابيل : إن هذا النائم استيقظ يستخفى مع الصبح وما زلت مقيما . الطائف : لقد جذبتنى . لقد اوقعنى فى الشراك. ايزابيل اى شراك ؟ الطائف : ان عندك لشركا يجذب اليه الموتى . ايزابيل : وانت ايضا ترانى ساحرة
الطائف: ان سحرك لطبيعي حتى لكأنك قد عرفت فيم يفكر الموتى فأنت لا تهيئين لهم ذكريات ولا صورا وانما تهيئين لهم الشعور بانعكاس الصور وأجزاء الضوء قد استقر على زاوية من الموقد، على أنف هر، أو على ورقة كانها الحطام الضئيل يطفو على الطوفان. . . . . اتريننى مصيبا؟ ايزابيل: واذا؟
الطائف: واذا فكل غرفتك فى الظاهر غرفة للاحياء، لفتاة حية من أهل الأقاليم، ولكن من يحقق فيها النظر يرى أن كل شىء قد قدر لتكون هذه العلامة من الضوء على الأشياء المألوفة على إناء من الصينى أو مقبض من المقابض قد استبقى دائما بالشمس أو النار فى النهار، وبالمصباح أو القمر فى الليل. هذه هى حبالتك وقد كان حقا على ان احتاط حين رأيتك فى نافذتك ذات مساء. لم يكن وجهك المشرق هو الخطر. ولكنى رأيت انعكاس اللهب على الحاجز أمام الموقد. ورأيت ضوء القمر على المنبه. ورأيت ماس الظلال. فأخذت! ايزابيل: اخذك الشرك فمن أبقاك؟
الطائف: صوتك قبل كل شىء احاديث صوتك هذه التى تجعل فى الشفق كل مساء شيئا تهيم به الظلال يشبه ما يرى الناس إن الطير تحبه من الشمس! وابقانى بنوع خاص هذه الثقة الكريمة التى تمنعك حتى من ان تفكري فى أني قد خدعتك وأنى حى ثم تطلق النار فيهوى الطيف!

