(١) مالت الشمس الى المغيب , ولم يبق من أشعتها الذهبية إلا خيوط قليلة , تنفذ من بين قطع الغمام انتناثر حيال الأفق ... تلقى على العالم نظرة الوداع , وتقبل جبينه الخاشع قبلتها الأخيرة . ثم نجود بذمائها الباقى , وتلفظ نفسها الأخير - كما يلفظ نفسه هذا العام الراحل !
(٢) وكنت أطل من شرفة منزلى - ومنزلى فى شارع بغداد : على شاطئ الغوطة , مفتى الغاسنة , وجنة الدنيا , وملهمة الشعر شعراء العرب الاقدمين - اطل على بساتينها الفيحاء , وجناتها الواسعة , التى تحف به من جهاته الاربع , فارى الكون فى حزن وكابة , وارى على وجهه صفرة تبدو على أوراق الخريف الذاوية الهشيمة , وفى عينيه دمعة تترقرق , تلوح فى ظيات هذا المزن الرقراق , واسمع لقلبه وجيبا , يسبمع من هذه الأغصان التى يتلاعب بها النسيم . ثم انظر إلى نفسى , فأرى فيها عالما آخر ، ولكنه مفعم بالكابة والغم ، كذلك العالم !
(٣) اطلت التحديق فى هذه المشاهد - فلم تنفرج إلى شفتاها عن الابتسامة التي احن إليها وارقها .,, وكنت قد عزمت على المضى فى هذا التحديق , حتى أرى هذه الابتسامة , فأحتفظ
بها بين احناء ضلوعى , وفى مثوى الذكريات من نفسى ذكرى سارة , تخفف من لوعة الذكر الكثيرة المؤلمة لهذا العام الراحل ... ولكن عز يمتى قد ونت , وأيقنت أن قلى المحطم اليائس لا تشرق عليه أشعة الابتسامات
(٤) دنت قافلة الحياة السائرة فى بيداء الزمن من محطها فتباطأت فى سيرها , وقاربت خطو ها , فأمسيت أشعر بطول هذه الساعات الباقية فى عمر العام , ورحت ارقب عقارب الساعة المماثلة امامي , فلااراه يتحرك .. فضجرتوتالمت , واحست كان هذا الفلك يدور وهو عاتق ...
(٥).. بعد ساعة واحدةيتم الفلك دورة جديدة من دوراته التى لا تحصى . فلا يترك بعدها إلا انقاضا مهد مة , وأجساوا محطة , وقلوبا مهتمة , كأنما هو رحى تطحن الأمم والشعوب .. ثم يخرج منها النداء أن : لدوا وابنوا وأصلوا .. ولكن للموت والخراب واليأس !
بعد ساعة واحدة، ينقضي هذا العام، فتبتلعه هوة العدم، ويفتح الماضي ذراعيه، ليضمه إلى الأعوام الكثيرة التي مرت من قبله، ويؤلفها (رزمة) واحدة، ثم يلقيها في بحر الأبدية. . . ثم تفنى عند جلال الله الباقي
بعد ساعة واحدة , يدع هذا العام مكانه من الوجود للعام الجديد , ثم يذهب فيتبوا مكانه من عالم العدم !
(٦) بعد ساعة واحدة تختم من هذا العام صفحة كتبت مصر . أكثر سطورهابدموع المظلومين , لتفتح صفحة اخرى , لاندرى عنها شيئا ، ولكن فيها ألم وفيها سرور , وفيها أمل وفيها خيبة . وفيها ضحك وفيها بكاء .. والقدر يضحك آبدا من هذا الانسان , لأنه يراه الظالم وبراه هو المظلوم !
وما الانسان إلا عدو الانسان ..
يكتب القوى سيرة حياته , ويملأها بآيات التبجيل والثناء , ولكن مدادها دموع الأشقياء , ودماء الأبرياء ؛.. وينشئ القوى صرح مجده , ويرفع ذرى عظمته , ولكن أساسه جماجم المظلومين , وعظام الشهداء ؛ وعلأ القوى بالذهب خزائنه , ولكن دراهمها قد جمعت من أيدى اليتامى , وأفواه الفقراء
(٧) بعد ساعة واحدة، تحط القافلة رحالها، فتلتفت إلى الوراء فلا نرى إلا ظلاماً، يلمع في وسطه نجم من الذكرى،
وتبين فيه ( العلم المربع الألوان ) وهو يخفق على دمشق - فتخفق قلوبنا لجلال الذكرى , ومرارة الفقد ! فتحول ا بصارقا إلى الأمام فلا يرى إلا الظلام . ولكن .. ما هذا النور الذى ينبعث من الارص فيدهب صعدافى السماء , فبهدينا الطريق , ويتر ع نفوسنا قوة وأملا ؟لقد علمت : هذا بريق الدماء التي سقبنا مها صحراء ميلون , وجنان الغوطة , لقد علمت : لا يزيح ظلمة المستقبل ، إلا هذا النور .. الأحمر !
(٨) زين الناس وابسوا احبن ثيابهم , وراحو يهنئ بعضهم بعضا ، لقد امتلأت بهم الأسواق والشوارع , والبيوت والمجامع , لقد ناءت رسائلهم قطر البريد , حتى ما ترى حينما كنت إلا ثغورا تبسم , وما تسمع إلا مقالة تقال : كل عام وأنتم بخير . كل عام وأنتم بخير .
غير أني لا أفقه من هذا كله شيئا
(٩) فيم الهناء؟ وعلام السرور؟. . أيهنأون بتلك الأرواح التي دفعناها ثمن الحرية، فكان للبائع الثمن والبيع؟ أم بالنفوس الكبيرة التي أزهقها الأقوياء، أم بالمنازل التي خرجوا؛ أم بالدور التي أحرقوا، أم بالحق الذي غصبوا، أم بالحرمات التي انتهكوا؟. . . أم بالأزمة العامة، والتجارة الاسدة، والصناعة العاطلة، والزراعة البائرة، والأخلاق الضائعة، والرجولة المفقودة، والحدود المستباحة، والجهالة المنتشرة؟. . . .
أما إن أشد البلاء، ألا نشعر بالبلاء! وأكبر المصيبة أن نجهل أنها المصيبة! فما لهؤلاء الناس وماذا اعتراهم؟ أيفرحون بهذا كله؟. . . .
إني لا أفقه من هذا كله شيئا !
(١٠) عزفت عما فيه الناس، ورحت إلى شرفتي كئيباً، وكان الظلام قد ملأ الكون، كما ملأ جوانب نفسي، فغشيني ذهول عميق، وانطلق لساني يقول:
أيها الراحل المودع !
لقد كانت لنا آمال , صيبناها على قدميك يوم خرجنا لاستقبالك , وكنا كلا انقضى من عمرك يوم و لم تتحقق ارتقبنا بها يوما آخر , وهذا يوم لا آخر له , فأخبرنا عن آمالنا , ماذا صنعت بها , ادست عليها فقطمتها وقطعت طريقك على رفاتها ؟
أبها الراحل المودع
لقد أودع اسلافتا عند أسلافك أمانة , هى المجد العربى ، والعزة الاسلامية , فضاعت فىبيداء الزمن , وانطلقت الاعوام وانطلقنا وراء ها نفتش عنها ونشدها , ولن نى ما بقي فى الزمان عام , وبقي منا إنسان , فأخبرنا هل مررت عليها , وهل عرفت اى عام يحملها الينا ...؟
أيها الراحل المودع
إنك ستجتمع فى عالم الاندية بالاعوام التى سبقتك , ومرت بنا قبلك , فهل لك إذا اجتمعت بعام الدماء والدموع , عام الثورة ... ان تبلغه سلامنا وتحياتنا , هل بحمل الى تلك الأرواح الطاهرة شوق أبنائها وإخوانها .. آلافل لها تهدأ وتطمئن , فانا لن ننسى , ان ننسى .... إن ذكرى الدم المسفوح لا تنسى أبدا !
وبعد يا أيها الراحل المودع !
أنبئنا ماذا يحمل هذا القادم المسلم , هل يحمل الينا تحقيق الآمال وبلوغ الأماني ؟ أم يحمل الشقاء والخراب والفقر والآلام والدموع والدماء ، كاخوانه ال. . .خمسة عشر عاما ، التى مرت على سورية ؟
أنظر ماذا خلفت فينا، أنظر الى مدينتنا، لقد جعلتها - في ظل المتمدنين - أطلالاً وخرائب، لقد جعلت أهلها فقراء بائسين. . . انظر هذه هي خرائب الدرويشة والميدان؛ وهذه قلاع المزة وقاسيون. .
ولكن لا بأس أيها العام لابأس؛ إن أرضاً تسقة؛ (الماء الأحمر!) لابد أن تنبت (الحرية الحمراء) . . . وإننا لن نيأس أبداً
وأفقت من ذهولي، وكان وهن من الليل، وكانت اللحظة الاخيرة من العام الراحل، فأرسلت في فضاء الله الواسع زفرة طويلة، ثم رفت رأسي شطر السماء وقلت:
- سبحانك لا إله إلا أنت .. هذا قضاؤك يا الله !
وتبددت اللحظة الاخيرة من العالم، تبدد الحروف الاخيرة من مقالتي، ولم يبق في الوجود، إلا. . . . اسم الله باسم الله نستأنف العمل، والله المستعان!

