الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 78الرجوع إلى "الرسالة"

تطور الحركة العقلية ، في شمال أفريقية

Share

نشرت مجلة " الاخبار الادبية "( النوقيل لترير ) فى عددها الاخير مقالا للكاتب المستشرق جاستون بوتول عن الحركة العقلية فى شمال أفريقية هذه ترجمته:

كلما أوغلتا فى التاريخ أدركنا أن تونس أو بعبارة أخرى أن تونس - قرطاجنة المعقدة كانت دائما عقل أفريقية الشمالية . وإنه لقدر غريب : قدر هذه المدينة , التى كانها سارية القارة , والتى هى الحد الفاصل بين شرق البحر الأبيض المتوسط وبينغربه ؛ ولقد كانت دايما طريق الفتوح العظيمة , كما كانت جميع الطرق التجارية الكبرى ؛ و أقصى بلد فى شمال أفريقيا وأقربها إلى أوروبا ، ولكنها أقر بها إلى المشرق أيضا ؛ ثم هى أعرقها فى الطابع الأفريقى , لأن السيول الصحراوية التى تفصلها عن البحر فى الجهات الأخرى حواجز عالية , تمتد بلا انقطاع إلى تونس : وأخيرا هى المدينة التى كانت تلتقي فيها النزعات العقلية وتمترج من جميع الأنحاء

كانت قرطاجنة في الوقت الذي كانت رومة تصارع فيه  ما حولها من الظلمات، قد قامت برسالة عظيمة في المدنية،  واكتشف غرب البحر الأبيض والبرتغال وساحل أفريقية  الغربي. ثم غدت قرطاجنة بعد الحروب البونيقية المدينة الثانية  في العالم الروماني؛ ولما أتمت مراحلها الثلاث أعني البونيقية،  والرومانية، ثم النصرانية، دخلت تونس في مرحلتها الإسلامية،  وسرعان ما تفوقت على القيروان وغدت مرة أخرى أهم مراكز  الحركة العقلية في المغرب. ولم يكسفها قط بهاء فاس المحدث، ولبثت  تونس هي المركز الذي تزدهر فيه العلوم والفلسفة العربية لآخر  مرة، وكان ابن خلدون، في فجر الأحياء، آخر ثمارها العظيمة أما اليوم فإن الموقف أكثر تعقداً؛ وعلى رغم ازدهار جامعة  الجزائر، ونجاح معهد الدراسات العالية المراكشي في رباط  وتقدمه نحو التحول إلى شبه جامعة، فإن تونس تبقى مركز  التفكير الإسلامي في شمال أفريقية. ويكفي لتوضيح خطر  هذا الدور أن نقول أن المسلمين يبلغون اليوم في المغرب أكثر  من اثني عشر مليوناً، ولكن لا توجد بقعة أخرى غير تونس  يزداد عددهم فيها نحو خمسين ألفاً كل عام

ويرجع هذا النفوذ الى عاملين : الاول أنه يوجد فى تونس أهم وأقدم جامعة عربية ، والثاني أنه يوجد بها أكبر عدد من صفوة المسلمين الذين تلقوا الثقافة الفرنسية . وصحف تونس العربية , والصحفيون التونسيون هم الذين يواجهون الحركات السياسية والعقلية فى الجزائر ومراكش . ومن تونس تخرج الأزياء , ويخرج القصص والغناء ، وفيها تتألف الفرق التمثيلية أو الموسيقية التى بجوس خلال المغرب

ويضاف الى نفوذ جامعة الزيتونة القديمة , التي تأخذ اليوم بأسباب التجديد , نفوذ " الخلدونية " وهى مركز للدراسات التاريخية والعلمية , وقد اسست منذ ثلاثين عاما على يد بعض التونسيين , وكلية الصادقى _, وهى معهد غريب تدرس فيه العلوم الحديثة واللغتان الفرنسية والعربية . وقد عقد فى اكتوبر الماضى مؤتمر من الطلبة المسلمين فى شمال افريقية

وفى ذلك ما يوضح الدور الهام الذي تؤديه تونس فى المسائل الاجتماعية التي تعرض فى شمال افريقية . ومن العسير ان نحدد

نزعات الأجيال الفتية فى هذه البلاد ؛ ويختلف عدد الشباب المثقف وتوزيعه كثيراً فى هذه المناطق ؛ وأظهر هذه النزعات وأشدها تعرضاً للخلافات الظاهرة هى الترعة السياسية , ولكن هذه الخلافات ترجع دائما الى ظروف السياسة المحلية , فهى مؤقتة فى الواقع , فمثلا كان التونسيون يشكون من إقصائهم عن بعض الادارات ، فلما نقرر منذ أشهر أن يسمح لهم بدخولها إنهت هذه الشكوى

اما النتائج الثابتة , فهى نتائج التطور العقلي ؛ وهى أهمها ايضا، لأنها تتعلق بالمستقبل , ولا تتقدم إلا يبطء , ولا يمكن تعديلها أو توجيهبها بقوانين المشرع . وقد يستطيع المشرع ان ينتهز بعض الفرص السامحة فى حرص وحذر , ولكن الاختيار النهائى يبقى لأصحاب الشأن أنفسهم

ويوجد في فاس ، كما يوجد فى الجزائر وقسطنطينة شباب يتلمس ويتساءل . وقد عفت التقاليد التي كانت تسمح للشباب اأن يندمجوا فى الحياة بسهولة ، وأوضحت لاتلائم الحياة الحديثة , وعرضت حاجات حديدة ومطالب جديدة فيولكن الشعارالجديد هو أن تبحث ونجد . ويتجه معظم الشباب على الأخص بانظارهم الي تونس ، لأنهم يعرفون أنهم هنالك يتكونون شيئا فشيئا بين الأمل والتثبيط

ولهذا , وعلى الرغم من أن تونس ليست إلا قطعة صغيرة من شمال افريقية , فانه يجب أن تتبع بمنتهى الاهتمام مايدور فى المجتمع . التونسى العقلي وهو اهتمام يجب أن يقرن بالعطف , لأن هذا المجتمع هو الذى يحمل أعباء التعقيد وأزمات الضمير , وما يترتب حتما على مثل هذا التطور النفسى الهام من أسباب الجزع والاضطراب , ومن هذا المجتمع وحده يمكن أن يأتي حل المسائل الاجتماعية الشائكة التى تعرض للبحث , وليس من ريب فى ان الموقف الذى يتخذه هذا المجتمع يكون ذا أثر قوى فى باقى انحاء البلاد

ونستطيع أن نتكهن بشيء من المستقبل؛ فقد أثبتت الطبقة  المتوسطة التونسية إمكان التطور المتناسق في ظل أفق فرنسي؛  وقد ظهر فيها مجموعة من الكتاب والمؤرخين والعلماء والصحفيين  الذي يكتبون بالفرنسية؛ ونجد حتى في ظروف الأسرة، وفي  الظروف الاجتماعية، ما يدل على تسرب الحياة الحديثة بقوة، وهي  حركة اختيارية لأنها تسير حرة دون ضغط ما، وبعد تأمل عميق

ونستطيع أيضاً أن نقرا فى أمثلة يقدمها لنا الماضى مبلغ التعاون بين المسلمين والنصارى , فعلى مقربة من تونس وقعت الحالة الاولى والوحيدة فى العصر الحديث للتعاون بين هؤلاء واولئك ؛ ومن الغريب أن ممثلى هذه التجربة العظيمة كانوا فرنسيين وتونسيين ؛ فى مملكة النورمان الصقلية التى يعمرها سلالة الفاتحين الأغالبة , ازدهرت أعظم حضارة فى العصر , واشترك فى إنشائها النورمان والمسلمون ، وكانت بالرم يومئذ هى اعظم مجمع بين الشرق والغرب ؛ وكان نجاح هذا التعاون الحر الذى تطاول زهاء قرن , اشنع فضيحة فى العصر , فى نظر المتعصبين من الجانبين

وقد استطاعت العبقرية الفرنسية أن تنسى فى العصور الوسطى مجمعا شديد التناقض من جضارتين خصيمتين فى كل مكان ! واليوم إذ لمتستعرض ذلك المركز الذى حفظته لنا تونس القديمة , مجد أمامنا جامعة الزيتونة الموقرة - وهي قديمة قدم السوريون - ذات الحنايا المرمى الجليلة , تخبط مها جوانيت الكتب والعطور ؛ ثم يجد مكتبة عظيمة فرنسية على الأخص , أقيمت فى قصر قديم ، ثم نجد بعد ذلك فوق مرتفع يشرف على المدينة كلية الصادقى الواسعة التي خرجت تخبة مختارة من المثقفين العرب , الذين استقوا أيضا من الثقافة الفرنسية . وعندئذ نتذكر تلك المقدمة التي يهدي فيها الشريف الادريسى اثره الجغرافى الخالد الى الملك رجار ( روجر ) الذى عاش الأدريسي في بلاطه، والتي تبدو فيها ألوان هذا التعاون الذي قام بينهما

هذه كلها أدلة مادية على قيام تعاون عقلي واضح تقوم الصفوة , وإنه ليقع على عاتق المفكرين والجامعة ان يخاقوا تلك البيئة التي تتطور فيها عادة الحيلة المشتركة , إلى رغبة فى الحياة المشتركة

اشترك في نشرتنا البريدية