(ليس التاريخ العام في روحه ومغزاه - تاريخ ما أحدث الإنسان في هذا العالم - إلا تاريخ عظماء الرجال الذين ظهروا في هذه الدنيا، فقد كانوا أئمة، وكانوا مثلاً وكانوا قدوة لغيرهم، بل كانوا مبدعين لكل ما مارس الإنسان من أعمال، وكل ما حقق من أماني. إن كل ما نراه قائماً في هذا الوجود كاملاً متقناً إنما هو نتيجة مادية محسوسة، وتحقيق عملي مجسم لكل ما جال في رؤوس أولئك الرجال من أفكار، أولئك الرجال الذين هبطوا إلى هذا الوجود فكان تاريخهم بحق هو لحمة التاريخ وسداه) بهذه العبارة يفتتح كاريل كتابه (الأبطال وعبادة البطولة) فيلخص لنا نظريته في التاريخ. يرى كارليل أن الفرد هو كل
شيء، وأن قادة الشعوب هم خالقوها ومكيفوها، يؤثر الفرد في الجماعة ولا يتأثر بها. والبطولة في نظره تتقمص في فحول الرجال على صور شتى، فالرسول والشاعر والكاتب والمصلح والفيلسوف كل هؤلاء من طينة واحدة، ليس بينهم من خلاف، اللهم إلا في الهيئة التي يكتسون والأسلوب الذي ينتحون (ويصح لنا أن نعتبر أمثال هؤلاء الرجال من فصيلة فوق البشر، فصيلة غير آدمية، فكلهم رسول مبعوث إلينا برسالة خاصة من الأبدية المجهولة، من الحقائق الباطنة للأشياء، لا تحجبها عنه أباطيل الناس، وكيف ذلك والحقيقة تسطع على عينيه حتى يكاد ليعشى لنورها. . . الرجل العظيم مخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون، وهو جزء من الحقائق الأولية للأشياء) لا تعميه عن واجبه جهالة عصره أو نقص في نفسه؛ هو يرمي إلى الحقيقة الثابتة، إلى الحقيقة الحية. ومن هذا الحق يستمد قوته، والى هذا الحق تصغي الجماهير، رسالته أبدية مثمرة (وأعمال الرجال! خبئها تحت رواسي الجبال، أو في أعشاش البوم، فهي لا تموت ولن تموت)
ويرى كارليل أن الناس مسوقون بطبيعتهم الى عبادة البطولة " وأن الاعجاب بمن هم أعلى منا إدراكاً لأسمي شعور يتردد فى الصدور , وليس روح الوجود وحياة الشعوب و كيان الجماعة الانسانية إلا خضوعا للعظماء وعيادة لأفكار العظماء "
وهذا الشعور كامن فى الانسان فى كل زمان ومكان حتى فى هذا العصر الحديث الذي تحاول فيه الانسانية ان تتخلص من سلطة الزعماء وتقيم الديمقراطية مكان الديكتاتورية كلما اتسع المجال وأتيحت الفرص
لم يكن كارليل ميتدعا فى الرأى حين رفع البطولة الى هذا المقام وقدسها هذا التقديرس , فقد سيقه الى ذلك هيجل الفيلسوف الألمانى إذ كان يقول : إن وراء كل أمة أو عصر أو مدنية " فكرة " تسيرها . هذه الفكرة هى السمة الكبرى لذلك العصراوتلك المدنية , منها تتفرع واليها تنتهى جميع مناحي التفكير من فلسفة أو دين أو فن آو أخلاق . هذه "الفكرة " عند هيجل هى " روح البطولة " عند كارليل . ومن ثم نرى ان كاريل كان أشدوضوحا وأدق تعبيرا من صاحبه الألمانى ، وقد
أراد أن يزيد وضوحا ويتخلص من غموض " الفكرة " تماما ، فجسد " رو ح البطولة " فى شخص " البطل " فانتقل بذلك من المعقول الى المحسوس , ومن الفكرة المجردة الى الحقيقة الملموسة
ومع ذلك فإن كارليل لم يتخلص من تجريد الفكرة تماماً فإن هذا(البطل)، هذا(الكائن الحي)الذي تتجسد فيه الفكرة هو في ذاته معنى مجرد تتجمع فيه فروع الحياة الشتيتة. البطل في نظر كارليل يمثل المدنية التي يعيش فيها، ورأي البطل نبراس يهتدي به بنو عصره. فلو أردنا معرفة تاريخ عصر من العصور بحثنا عن زعيمه وقائده. ولا يريدنا كارليل في دراسة هذا الزعيم أن ندرس تاريخ حياته ومجراها وإنما واجبنا أن نحلل آراءه ومعتقداته حتى نستطيع أن نفهم مدنية العصر الذي نشأ فيه بمظاهرها المختلفة، لأن المدنية - كما كان يرى - كل لا يتجزأ لها مرمى واحد ومعنى واحد.
روح البطولة هى رائد التاريخ ومنشأ المدنيات , ومجددة الحياة الانسانية , وما دامت كذلك متبع كل حركة فلا ينبغي أن نفهم التاريخ إلا عن طريقهاويوساطئها . ليضع علماء الاجتماع ماشاءوا من القواعد والقوانين , وليضع رجال السياسة ما شاءوا من نظم ودساتير , وليفرض علينا المؤرخون ما شاءوا من اسباب تسير هذا العالم , فليس الانسان بكان جامد تكيفه قاعدة , ويعبر عنه بقانون , وإنما هو روح حى يفكر ويشعر ويتأثر , يخضع لافذاذ الرجال كلما ظهروا برغم كل قانون
وأحسن مثال يتمثل فيه بكل جلاء , نظر كارليل للتاريخ كتابه عن " كرومويل ." اراد كارليل ان يؤرخ البيورتيانية , فكتب عن كرومويل زعيمها الا كبر , وحامل لوائها تاريخا مفصلا تكاد حين تقرأه تسمع كلمات الرجل ونبرات صوته وتتخيل صورته ورسمه . يعرض عليك المؤلف صورة واضحة يضعها امام ناظريك لتبلغ من قرارة نفسك بقدر ما فيها من قوة وتأثير , ولا يفرض عليك رأيا بعينه ولا فكرة بذاتها , يعرض عليك الحقيقة مجردة من غير تعليق , فلا تري المؤلف ولا أثرا من نفسه ، كان البيورتان يتطلعون إلى إنشاء حكومة على دينهم ومبادئهم فوجدوا فى كرومويل الرجل الذى تتجد فيه ميولهم واهواؤهم , فوضعوه على رأس حكومتهم ورضوا به حاكما متبدا , ذلك لأن
كرومويل بطل تتمثل فيه آراء جيل كامل وأمة بأسرها كان كارليل يرى فى كرومويل مثلا للبطولة الحق , وينظر الى الثورة الانجليزية الى قام بها تظرة الاعجاب , لأنها كانت تقوم على أساس دينى متين , ولكنا نجده فى كتابه عن " الثورة الفرنسية" لا ينظر بعين الرضا الى هذه الثورة لأنها لم تخضع لزعيم واحد يمثلها ويسير بها الى الأمام ، كما أن فلسفتها كانت فى صميمها غير دينية ، اندفع فيها الفرنسيون وراء غرائزهم الوحشية وعملوا على إشباع شهواتهم الهيمية واحلال الفوضى محل النظام .
وظاهر أن كارليل لم يكن عادلا فى حكمه هذا . نعم كان فى الثورة الفرنسية كثير من الوحشية والهمجية , ولكننا لانستطيع ان تنكر ان فيها خيرا كثيرا , وانها وإن تكن ثورة غير دينية إلا أن الفلسفة التى كيفتها كانت تنطوي على كثير من المبادئ القديمة , وإذا كانت الثورةالانجليزية قد خدمت انجلترا فان الثورة الفرنسية قدمت العالم أجمع , وما تزال تخدمه إلى يومنا هذا
وكما انقلب كارليل على الثورة الفرنسية لخروجها عن الدين، فهو كذلك ثائر على إنجلترا الحديثة لإهمالها هذا الجانب الهام في حياتها العامة، ثائر على هذه الديمقراطية الواسعة التي تفسح المجال لكل من هب ودب ليكون ذا رأي محترم وقول مسموع، وليس من سبيل إلى خلاص البلاد إلا بعد أن تسلم زمام أمورها لزعمائها غير منازعين
وهنا تقف عند هذا الحد من بسط آراء كارليل فى البطولة وأثرها فى التاريخ ونسائل أنفسنا : هل كان كارليل مصيبا حينما رفع أفذاذ الرجال الى هذا الحد من القوة وهذه المكانة من التقديس ؟
إن من يتصفح تاريخ الحياة وتقدمها يرى ان الانسانية في كل عصورها تنقسم الى شطرين : رعية كبيرة وطائفة قليلة من الرعاة , تدق هذه الرعية أمامها , هؤلاء الرعاة هم أدوات التقدم الانساني وهم عظماء الرجال الذين يمثلون الآداب والآراء التى هى على اختلافها وتباين فتونها ومتازعها بمثابة ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية , أى إنها أكثر من آثارالجماعة والبيئة أكثر من أن تكون أثرا من آثار الفرد الذى رآها ونشرها بين الناس .
وإذا كان الأمر كذلك فليس من الحق فى شىء أن ننسى الجماعة التى هى المؤثر الأول فى ظهور الآداب والآراء والفلسفة , ونقصر عنايتنا على الفرد الذى كان مظهرا لهذه الآداب وتلك الآراء فنمحو الجماعة محوا ونهملها إهمالا , إذ الفرد لم ينشئ'نفسه وإنما الجماعة كلها متعاونة متضافرة على تنشيئه وتربية عقله وجسمه وشعوره , فهو صورة منها وظاهرة من ظواهرها . الفرد مدين بلغته ودينه وخلقه الى الجماعة , إذن فليس من البحث العلمى القيم فى شأن نقدس الأفرادكل هذا التقديس ونحتقر الجماعة كل هذا الاحتقار . وأنا لو صورنا لأنفسنا طائفة من أوساط الناس متوسطي الذكاء ليس لهم مواهب خاصة ولا عقلية ممتازة قد رحلوا الى جزيرة جرداء ليس فيها أكثر من آثار المدنية ولا عمل من أعمال الانسان أدركنا بسهولة كيف . يظهر سريعا من بينهم المخترع والفيلسوف والسياسى والقائد , ولا يلبثون أن يعيدوا فى خلال جيل أو جيلين تاريخ التقدم الانساني كله , ويصبح هؤلاء الاوساط صورة مصغرة من نيوتن ووطسن وكرومويل ونابليون وغيرهم ، لأنهم فى حياتهم الاولى كانت تعوزهم الفرصة
التى اتاحتها لهم الجزيرة الجرداء , فظهرت عبقرياتهم بعد ان كان مقضيا عليها بالموت والفناء
ويتبين لنا من هذا أن الانسانية لا تتقدم بظهور الرجال ، وإنما يظهر الرجال لانها تريد أن تتقدم , وفى علم الحياة نظرية ثابتة تقول ان الوظيفة تخلق العضو ولايخلق العضو الوظيفة , فالانسان لايمشى لأن له قدمين , وإنما له قدمان لأنه أراد أن يمشي , ولا ينظر لأن له عينين ولكنه ذو عينين لأنه أراد أن ينظر .
ومن يتدبر التاريخ يران الانسانية تعتريها فترات من الجمود تعقبها النهضات التى تظهر فيها الشخصيات البارزة , ولا تعلل هذه الظاهرة إلا بأن الظروف الاجتماعية والزمنية فى فترات الجمود تخالف مثيلاتها فى فترات النهضات , فالأولى لا تدعو إلى ظهور الرجال بينما الثانية تتطلب الرجال العاملين وتخلقهم خلقا . فإذا صح لنا أن تقول إن النهضة أوجدت أبطالا لا يصح أن نقول إن الأبطال أوجدوا.النهضة
ولكن كارليل أراد أن ينزههم عن البشرية ويرفعهم الى مصاف الآلهة

