الشرق شرق وسيظل . . والغرب غرب وسيبقى هكذا الاثنان - في الفن على الأخص - مهما جد بينهما من تقارب . . هكذا قالت ريشة الفنان الهندي القديم ، وقالته ايضا ريشة الفنان الهندي المعاصر . . في آثار كل منهما وإن كان هذا القول الأخير تختقه أنغام من الغرب .
ماذا عند الشرق ؟
في حديث لي مع فنان مصري كان يعرض رسومه في أحد معارض القاهرة اتفقنا على رأي واحد هو أنه ينقصنا . . شئ هام . . في فتنتا الحديث . إنه سهم لاندري حقيقته على وجه التحديد ، ولكنه دون شك يختلف كل الاختلاف عن روح الفن الأوربي وطرائقه في التعبير ، تلك التى اقتبسناها وسرنا على هداها في نهضتنا الفنية الحديثة . .
وقلنا معا . . لماذا لا نرسل بعوثا فنية للشرق كما ترسلها إلي ممالك أوربا ؟ لماذا لا ترسل بعوثا إلي إيران والهند والصين واليابان ما دامت ليست لدينا الجرأة الكافية لنؤمن بفننا المصري الفرعوني ونتوافر علي دراسته ونبعثه من جديد ؟ ولقد جاء معرض الفن الهندي بالقاهرة منذ أشهر مؤيدا لهذا الرأي ، فلقد تبينا على ضوئه ذلك الشئ الهام الذي ينقصنا . . إنه روح الشرق ، أي الطابع الذي يعكس أو تنعكس عليه بيئة الشرق المنير على اللوحة حيث الخط هو سبيل التعبير والانتقال من لون إلى لون ، في حين أن الفن الأوربي يعني غالبا بالظلال ؛ والعجيب أن الفن المصري الفرعوني القديم . . كان يخلو من الظلال أيضا في أكثر عصوره ، متقفا في هذا مع الفن الإيراني والهندي والصيني القديم . ومما لا شك فيه أن ذلك ليس لعجز عن ممارسة الظلال ، بل لأن الشرق طابعه النور الفياض دائما والذى لا يحدده على اللوحة سوى الخط . . ومن العجيب أن أعلى مراتب الفن الأوربي في الرسم اليوم تتركز عند ) بيكاسو ( في الخط مع ملاحظة العارق في الحركة والاستدارة في
خطوط ) بيكاسو ( عنها في الفن الشرقي القديم المتميز بهندسته الدقيقة ؟ فهل هذا التطور نحو الخط طبيعي عند بيكاسو أم أنه انجذاب منه نحو البساطة الأسرة والتركيز الشديد الماثلين في خطوط الفن الشرقي . . وهل كان على الفن الأوربي أن يمر بكل أطواره المتعاقبة حتى يصل أخيرا إلى الخط ؟ . . سؤال ليس محل الإجابة عليه الآن .
ومما يدعو إلى الالتفات أن نرى في الفن الهندي لوحات بالفريسكو وهى التي اكتشفت حديثا بمغارات ) إجاثا ( والتي صور بها فنانو الهند منذ ألفين من السنين حياة بوذا العظيم ؛ ويأخذ تحديد الخط وتجسيم الشكل في الفريسكو الهندي أهمية ملحوظة فضلا عن اختيار اللون مما يميزه عن الفريسكو الإيطالي .
إنك إذا نظرت إلي لوحة من الفن الهندي من العهد القديم ) بعد غزو المغول ( لا تملك نفسك إلا أن تهتف : حقا أنه الشرق . . انه النور ثم النور . وتتفرس في اللوحة وانت مستريح النفس تستمتع بمهارة الفنان وقدرته على التنسيق وسيطرته على ريشته والدقة في استخدام المساحة وجرأته الإنشائية ، إذ يقسم اللوحة إلي أقسام غالبا تبلغ الثلاثة أو أكثر تكاد تكون محددة الفواصل ، ومع هذا تتناسق وتتألف في مجموعها غاية التناسق . لقد اختفت في لوحات الفن الشرقي تلك التعبيرات . اللون الدافيء Chande واللون البارد Froide وال Valeur وأمثالها من اصطلاحات الفن الأوربي ، إنك هنا أمام شيء جديد ، فاللون غالبا هو الحار واللوحة مساحة ملأها الضوء مع زخرفة دقيقة تزين المنظور داخل الفراغ الذي قد يكبر حتى يكاد يسيطر على اللوحة وقد يصغر حتى لا يتجاوز ركنا فيها ، وفي كلا الحالين يعرض الفنان مقدرته على التحكم في الخطوط الدقيقة وألوانه المتعددة في غير تناقض بل في انسجام عجيب ؛ ولا تبدو الطبيعة إلا في حلة موشاة من الزخرف الدقيق والألوان الزاهية . . إنه مهرجان النور
والألوان ، حتى القاتم منها مهمته أن يزيد بهجة المهرجان لا أن يطفئها .
كان هذا الطابع للفنان الشرقي القديم في حين كان يزين بآثاره قصور الملوك والأمراء وتحفهم النادرة . وكان هؤلاء ككل الشرقيين لا يحبون غالبا إلا المبهج السار ، ولقد بدأ ذلك العهد في الهند بغزو المغول بقيادة الملك ) بابر ( وإنشاء امبراطوريتهم ، وقد جاء مع المغول أعلام الفن الإيراني فدخلت معهم إلى الهند مدرسة الألوان الزاهية والزخرفة الهندسية في الرسم ، تلك التي أخذت تتأقلم في الهند شيئا فشيئا وبدأ الفن الهندي يستعيد وقاره .
ولما تدهور سلطان الإمبراطور المغولى في دلهي عاصمة الهند واستقل الأمراء في مقاطعاتهم لجأ الفنانون إلى قصور الأمراء في أنحاء الهند المختلفة ، فنشأت في الفن مدارس عدة منها مدرسة Bahaoi باهاوي وراجبوت وكانجرا وبازولى والتي لا تخطئ العين الفاحصة مميزات كل منها ؛ فمثلا مدرسة باهاواي في الشمال حيث المنطقة جبلية والأمراء يبنون قصورهم في الجبال كثيرا ما نري الفنان يعبر عن البيئة المحيطة به
باستخدام حيز في أعلى اللوحة يشير فيه إلى مناطق الجبال . ولكن جميع هذه المدارس على العموم يسري فيها روح واحد هو روح الهند الذي يستغرقه الدين والذي دمغ الفنون بطابعه سواء في الرسم أو العمارة ، فجاءت معابد الهند على قدر كبير من الضخامة تتفق واتساع رقعة الهند وبالتالي تستوعب أكبر عدد من الحجيج والمتعبدين .
ثم جاء الاحتلال البريطاني فقضي على المدارس الفنية القديمة وانتثر عقدها ، واستمر الحال قرنا من الزمان أو أكثر حتى جاء البعث الفني مع توثب الهند للحرية وهيئها للتخلص من المستعمر ، وقد قاد تلك النهضة الفنية في الهند الدكتور طاغور منذ ستين عاما وهو من أسرة الشاعر الكبير المسمى بهذا الاسم وانضم إلى لوائه عدد من تلاميذه المخلصين للنهضة وللفن ؛ ولكن الهند لم تعد هند المغول ولا أمرائها ، إنها الهند الحديثة مظهرا التي صبغتها أوربا بحضارتها ، وطاغور وتلاميذه ممن أشربوا تلك الحضارة الأوربية في بعثات أو زيارات لمعاهد الفن ومتاحفه فيها ؟ إذا فلا بد وأن يظهر أثر الفن
الغربي في إنتاج هذه المدرسة ، وهذا ما حدث بالفعل وما تنطق به آثار الفن الهندي المعاصر المنشور بعض منها ) شكل ١ و ٢ ( وهو ما يصح أن يطلق عليه ثورة على الفن الهندي .
وقد حاولت مدرسة الدكتور طاغور المزج بين الهند وأوربا ، ولكن أوربا تبدو سيدة الموقف . فكم من الزمن يا تري ستنتظر حتى يعيد فنانو الهند لروح الهند سيطرته . كما فعل اسلافهم حين غزاهم الفن الفارسي مع المغول ؟ لقد يكون مما يزيدنا تبصرة بحركة النهضة الفنية في الهند أن نرى انتاج فناني الباكستان أيضا ومفاهيم في التعبير عن احساسهم وبيئاتهم ، فإن ولايات الباكستان الشمالية كانت ذات طابع خاص منذ أقدم العصور حين كانت الهند كلها وحدة .
نعم لقد نجحت المدرسة الحديثة ) مدرسة الدكتور طاغور ( في بعث نهضة الفن في الهند ، ولكنها فشلت إلى الآن في إبلاء شخصيتها كاملة رغم مابدا من محاولات ناجحة في بعض الآثار لفنانيها ، أبدى فيها الفنان ابتكارا في استعمال اللون وتحررا من الظل والنور على الطريقة الأوربية ، وبدت بأناملهم تلك الحساسية للرهفة الموروثة عن أسلافهم .
وهنا قد يخطر لنا أن نتساءل : أليس من المحتمل أن طريقة الفنان الأوربي في التعبير هى الوسيلة اللائقة للفنان يعبر عن احساسه بحرية ؟ . . وهل الطريق الذي سلكه الفنان الشرقي القديم في الزخرفة الدقيقة وهندسة الخطوط كانت تقيده به رغبة الملوك والأمراء في إبداع فن تكون الزينة أهم عناصره ؟ . . ولما هل ودع الفن الشرقي ألوانه وخطوطه الدقيقة ونعومته وجوه الحافل بالغنى إلى الأبد ؟ . إذ كانت كلها طورا لعصر مضى وانقضى بانقضاء دواعيه ؟ ليكن الجواب ما يكون ؟ ولكنني أحن كل الحنين لرؤية النور والإشراق والألوان المتراقصة ، تلك التي توقع الحانا تسري عن النفس ، وتبدو الفكرة بينها وكأنها في مهرجان أو عرس .
فمثلا حين أراد الفنان القديم رسم لوحة الشاعر ، تخيله شيخا داخل حديقه على ركبتيه محتضنا كتابا والكتاب هنا يضيء أن الشخص من رجال الفكر . ولعله قد جثم على ركبتيه لتلقى الوحي أو الإحساس بخطورة ما يحمل بين
يديه من رسالة ، وإن الجلال البادي في ألوان ملابسه ليدل على أن وضعه في المجتمع أشبه بمعلم أما الحديقة الزاهية التي تتناغم فيها الزهور المبهجة اللون الدقيقة الشكل فإنها بلا شك تعبر عن مواكب الأماني العذاب في مخيلة الشاعر .
وهذه اللوحة لو أراد رسمها الفنان الأوربي لجعل الملامح في وجه الشاعر تعبر عن استغراق في التفكير ونظراته ساهمة حالمة ، وأعطى اللوحة جوا من الإبهام أما هنا فقد استعاض الفنان الشرقي عن كل هذا بالألوان والخطوط ليحدثنا بكل ما يريد دون أن يحمل الملامح ما يخرجها عن طابع البساطة أو ينحو بها إلى التكلف .
وعند ما تخيل الفنان القديم مولد الإله كرشنا رسم الفنان القديم الهندى أم الطفل وقد وضعته على يديها ببساطة وأمامها وعاء تغسله فيه ولعله ماء مقدس ، بينما الأسرة تبدو في جو منزلي وقد ملأ الفنان مساحات اللوحة بعد أن قسمها لعدة مجموعات ، ورغم التقسيم استطاع الفنان أن يبرز اللوحة وحدة كاملة ولم يعمد إلى تهويل أو مبالغة في رسم ملامح الأشخاص .
وحين رسم إحدى معجزات الإله كرشنا وهو يرفع الجبل بأصبعه تراه واقفا وقفة عادية والجبل فوق كفه وكأنه يحمل ريشة لاوزن لها . والعجيب أن الألوان قد استعملها الفنان كعامل مبسط يوحي باليسر حتى لا تحس أن الأمر طبيعي . وكأنها معجزة تافهة بالنسبة لمقدرة كرشنا العظيم الذي لم يحاول الفنان قط أن يظهر على ملامحه أي أثر من آثار المعجزة - إنها البساطة - وإنني لأتنبأ للفن الهندي المعاصر بأنه سوف يسرع نحو روحه الأصيل ويتخلص من الغرب وآثار الفنانين الأوربين ، فإن روح الهند التي طوت في أعماقها كل الفاتحين ستطوي أيضا اثر الفن الأوربي دون جدال . هذا بينما الفن الصيني والياباني سوف يتفقدان طابعهما التميز الفريد ويسرعان بالأنحراف نحو الفن الأوربي أكثر وأكثر ، نتيجة للهزات السياسية والاجتماعية التي اجتاحت في تلك البلاد بالفعل جذور ثفاقتها وتقاليدها المتوارثة .
