-١- فى صباح يوم من تشرين الأول كان الضباب ضاربا بجرانه على شوارع (ليفربول) فلا تكاد العين أن تستبين السبيل الا عن كثب. . والمصابيح لم تزل موقدة كأنما حسبت أن الضباب بقية من الليل، وأن النهار لم يطلع بعد. . .
فى تلك الساعة الباكرة أخذ الشطر العامل من أهل المدينة يتحرك، وجعلت الأبواب تتثاءب، فى خرج منها العمال أفواجا، ينشدون عملهم ويجرون وراء خبزهم وزبدهم - لأن العامل فى مصر قد يقنع بالبحث عن الخبز؛ أما هناك فلا بد له من الخبز والزبد.
هذه الحركة الباكرة فى بعض أحياء المدينة قد تلاها سكون؛ لأن الشطر الثانى من المدينة لم يستيقظ بعد. . وكأنما كانت الحركة الأولى بمثابة الفجر الكاذب، أضاء لحظة، ثم ساد من بعده الظلام - ولكن سرعان ما انقضت ساعة الهدوء هذه، وأخذ ذلك الغطاء الكثيف من الضباب يرق شيئا فشيئا. وبدا فى أقصى الشرق على الأفق شىء غامق مبهم يدعونه فى تلك البلاد الشمس. . ولقد تستطيع العين المصرية - بشىء كثير من المران - أن ترى فيه من الشمس شبها، وأن له بها صلة.
وبعد لأى، تثاءبت الأبواب فى الأحياء الوسطى، وخرجت منها أفواج من الحضريين (البورجوا) الذين يشتغلون فى دور التجارة. فى عملون بها ساعات قلائل، ولكن أجرهم أعلى، ومقامهم فى المجتمع أسمى. وهم ايضا ينشدون الخبز والزبد. ولكنهما من صنف أرقى وأرفه من خبز العمال وزبدتهم.
وهكذا تحركت فى المدينة أحياؤها السفلى والوسطى، ولم يبق مغموسا فى عسل الرقاد سوى أحياء (العاطلين) ، الذين يعيشون من أموال تأتيهم من وراء البحار: من الهند ومن استراليا ومن سائر أنحاء الدولة التى لا تغرب الشمس عليها. . هؤلاء لا
يبحثون عن خبز ولا زبد، بل يأتيهما الخبز والزبد طائعين يجرران الذيول. . .
وليس يعنينا اليوم من أمر هؤلاء شيء، وانما تعنينا الآن تلك الأحياء الوسطى التى لم يكد أبناؤها وبناتها يخرجون ... كل الى عمله، حتى فتحت الأبواب مرة أخرى، وخرجت من كل باب امرأة نصف فى ثياب رثة زرية، وهي تحمل فى يمينها خرقة بالية، وفى يسارها سطلا فيه ماء دافئ.
هؤلاء النساء لسن بخادمات كما قد يتبادر الى الخاطر العجل، بل ان كلا منهن ربة دار، وصاحبة الأمر والنهى فيها. وهى تنتظر ريثما يخرج من بالدار من بنين وبنات، ثم تأخذ فى الجد والعمل، من غسل وطهي وخبز وعجن، ولا تكاد تهدأ ساعة من الصباح الى المساء، بادئة عملها حيث يجب أن تبدأه: من عتبة الدار ودهليز البيت. . . ولقد تجد الواحدة منهن فى غسل العتبة لذة خاصة، ولعله أحب الأعمال جميعا اليها . . لأنه يتيح لها فرصة قد تكون الوحيدة فى كل يوم لان تتحدث الى جارتها، وتقص عليها من كل شىء، بل ومن عدة أشياء أخرى ...
وفى هذا اليوم من تشرين الأول خرجت السيدة نلسن من المنزل رقم ١٥ فى ساعة باكرة، وأخذت تمسح عتبتها فى شىء كثير من النشاط، لكنه كان نشاطا يشوبه القلق والاضطراب، وكانت من آن لآن تنظر الى منزل جارتها السيدة هرفى صاحبة المنزل رقم ١٧، وكأنها تود بفارغ الصبر لو خرجت هذه السيدة لمسح عتبعها، كى تحدثها فى الامر الذى أهمها وأزعجها؛ والذى كانت ترتعد من أجله الخرقة التى بيمينها. والسيدة هرفى هذه أرملة ورثت عن زوجها منزلا يفضل عن حاجتها وحاجة أسرتها، فكانت تسعى فى تأجير شطر منه لقاء مال يسير تستعين به على تكاليف الحياة. ولم تكن جارتها ترى فى هذا بأسا، ما دام نزلاؤها رجالا ذوى فضل. لكنها لاحظت بالأمس من خلال النافذة رجلا أسود الوجه خارجا من المنزل رقم ١٧؛ فما شكت فى أنه النزيل الجديد، الذى تريد السيدة هرفى أن تؤويه فى دارها. . . . يا عجبا لهذه المرأة التى لا تتورع من الخروج على كل عرف، وانتهاك كل حرمة. والنزول بهذا الحي الراقى، وهذا الشارع الطاهر، الى الدرك الأسفل. . . ماذا يكون مصير هذا الحى يوم يرى سكانه هذا الأسود رائحا غاديا، بوجه المزعج وسحنته المنقلبة؟. . ان العاقبة
ستكون من غيب شك وخيمة والمصير أليما. فلن يلبث سادة الحى وأشرافه حتى يهجروه وينأوا عنه؛ لكى لا تقذى أبصارهم برؤية هذا الوجه الكريه. . . ان وجها واحدا من هذه الوجوه السود لكفيل بأن يلوث حيا بأسره، وأن ينغص على أهله صفاء الحياة وطيب الرقاد. . . . والويل لفتيات الحى ان صادفن هذا الوجه المنحوس فى ليلة حالكة الظلام، عند أوبتهن من المرقص أو المسرح: ان الرعب الذى يستحوذ عليهن فى تلك اللحظة لخليق بان يورثهن سقما يلازمهن مدى الحياة. . . كلا. . ان السيدة هرفى - مهما كان حبها للمال - يجب أن تعلم أن مثل هذا الشىء لا يجوز. . . ومن حسن الحظ أن الفتى لم يأت بأمتعته بعد. . . ولم يزل فى الوقت متسع لمنع هذه الكارثة من أن تلم بهذا الحى الآمن المطمئن، ولئن كانت السيدة هرفى قد نسيت ما عليها من واجب تلقاء الحى وأهله، فأحرى بجارتها مسز نلسن أن تريها الرشد من الغى، وأن تردها عما هى سائرة اليه من الوبال. . . .
ولم يطل بها الانتظار، بل فتح باب المنزل رقم ١٧ وخرجت السيدة هرفى، وهي فى نهاية العقد الخامس من العمر؛ وفى يمينها خرقة كبيرة وفى يسارها سطل كبير. ثم بدأت جارتها بالتحية.
- عمى صباحا، مسز نلسن، عمى صباحا. - نعم صباحك، مسز هرفى . - أن الهواء دافئ صحو، والشمس مشرقة فى السماء. أرجو أن تكونى بخير
- انك خرجت اليوم متأخرة على غير عادتك - أجل لقد كان لدى اليوم عمل كثير، وكان على أن أعد الحجرة السفلى، والغرفة الأمامية من أجل ضيفنا الجديد فانه سيأتى بأمتعته قبل الظهر بساعة وقد يبقى بالمنزل الى وقت الغذاء. - أتعنين إذن انك رضيت بذلك الزنجى الدموى نزيلا عندك؟ - هل أنبأك بأمره أحد؟
- رأيته أمس من خلال النافذة خارجا من باب بيتك، ففتحت عينى من الدهشة، وأنا لا أكاد أصدق ما أراه. وخشيت أن تكونى قبلت أن تسكنيه بيتك. والآن قد صدقت أسوأ ظنونى فبالله يا صديقتى، إلا تدبرت الأمر قليلا، قبل أن تنزلى بهذا الحى الآمن هذه النكبة الفادحة. - وأى نكبة فى هذا ؟ أن للفتى حجرته يجلس فيها، وغرفته
ليرقد فيها، ولن يكون له سبيل الى أحد من الحى، ولا لسكان الحى سبيل اليه. فهونى عليك فليس فى الأمر ما يدعو لكل هذا الاهتمام. .
- اللهم لطفا. .! إنك لا تبالين - إذا ظفرت بالمال الذى تبغين - أن يشقى الحي وأهله برؤية هذا الزنجى الكريه المنظر، - إنه ليس بزنجى، بل هو مصرى.
- وما الفرق بين هذا وذاك؟ أو ليسوا جميعا من أهل آسيا؟ - لست أدرى أية آسيا تعنين. . . غير أنى حادثت هذا الشاب، فرأيته يتكلم بلساننا كأحسن أبنائنا. ورأيت فى حركاته وسكناته ما ينم عن حسن الأدب وكرم المحتد.
- ذاك لعمرى العسل الذى يخفى السم الزعاف. وكأنما نسيت ذلك الهندى الزنيم الذى كان نازلا فى بيت مسز براون. لكم كانت تكرمه الأم وتجله، وتسمح له أن يصحب ابنتها دورا الى بيوت الرقص واللهو. فكان جزاؤها أن خان الأمانة وخفر الذمة، ثم اختفى من المدينة فلا يعرف له أحد مستقرا ولا مقاما.
- ما أحسب الناس أشرارا كلهم، وفى أبنائنا البيض من يرتكب ما هو شر مما ارتكبه الهندى. وعدا هذا فانى ليست لي ابنة فأخاف عليها، وقد زوجت بناتى جميعا، ولله الحمد.
- ونحن؟ أما تحسبين لنا ولبناتنا حسابا؟ انك من أجل بضعة الجنيهات التى سينقدك إياها لا تبالين بنا ولا بما قد يحل بنا ولا بالحى وما يدنسه ويحط من شأنه.
- لكنى قد وعدت هذا الشاب أن أسكنه الحجرة السفلى والغرفة الأمامية، ولا بد أن أبر بوعدى.
- يا لهذى السذاجة البديعة! كأنما يفهم هؤلاء السود ما الوعد وما الوفاء بالعهد!. . . ولقد كان ذلك بالهندى شديد الوفاء لدورا المسكينة يوم تركها فى تلك الحال الأليمة، واعتصم بالفرار!. . وفى هذه اللحظة خرجت الحارة الأخرى من المنزل رقم ١٩ وانضمت الى جارتيها وانتقل الحوار من الحديقة الى داخل المنزل وقد صحت نية الجارتين الا تتركا صاحبتهما حتى تذعن لرأيهما، وتنزل عند إرادتهما.
- ٢ - فى صباح ذلك اليوم من تشرين الأول استيقظ (حسن) من رقاد كان مملوءا بالأحلام. . . وكانت أحلامه عن مصر وعمن بمصر،
وعن منزله المطل على النيل، حيث خلف والدين آلمهما فراقه، وأحزنهما أن سيكون بينهما وبينه هذا البحر الفسيح وهذا البر العريض، وأن يهزهما اليه الشوق، فلا يستطيعان اليه سبيلا، ويحترق الصدر وجدا وهيهات الشفاء. . . فى هذه الليلة رأى حسن أخته فى المنام، ولقد غادرها فى مصر حليفة السقم. . أما اليوم فقد ابتسمت اليه - حين رآها، وطلبت منه أن يعود اليها رجلا عظيما. . . عجب كيف حالهم اليوم، وهل يختلف الجديدان عليهم بالسعادة والنعيم، أم بالشدة والشقاء؟. . . وهل اعتادت الأم فراق الابن الوحيد، الذى لم يفترق عنها منذ أن رزقته بعد يأس، فكان قرة العين، وشفاء ما بالصدور. . .
وها هو ذا قد اضطر لأن ينزح عن داره، وأن ينزل هذه المدينة الداوية الصاخبة، وقد التحق بجامعتها، وأخذ يجد فى طلب العلم ومضى عليه تحت هذه السماء الرمادية اللون أسبوعان، لم يكتسب فيهما صديقا جديدا، ولم يحاول أحد أن يتعرف به أو يتقرب اليه. . . كان كذبا ما زعمه المتشدقون من أصحابه فى مصر: أن الناس فى هذه البلاد يقبلون على الغريب، ويجدون فى إرضائه واكتساب صداقته. . لقد كان الناس يجيبون على سؤاله اذا سأل بجواب هادئ قصير، لا يحمله على المضى فى الحديث بل سرعان ما أشعر أن بينه وبينهم سورا غليظا وعرا، هيهات له أن يجتازه. ولم تطل به الحال حتى اعتاد أن يقابل البعد بالبعد والصد بالصد. . . وهكذا أمسى وأصبح وحيدا غريبا، وسط هذا المزدحم الزاخر من الناس.
واستيقظ فى صباح هذا اليوم ونهض من فراشه فى شىء من النشاط. . وكان ذاك آخر أيامه فى هذا (البنسيون) الذى قضى فيه هذين الأسبوعين، وكان عليه اليوم أن يبادر بإعداد حقائبه وجمع ما تناثر من أمتعه. وكان مغتبطا ناعم البال، لأنه وفق أخيرا الى هذا المسكن الجديد فى المنزل رقم ١٧. . فمنذ اليوم سيكون له حجرتان: حجرة يجلس فيها ويطالع أسفارها ويتناول طعامه. والأخرى لنومه وراحته، ولقد كان من حسن الطالع أن غرفة نومه تطل على تلك الحديقة الغناء، فيستطيع أن يطالع من نافذته ابتسام الربيع وقهقهة الصيف، وهدوء الخريف ووجوم الشتاء. . . أما هذا البنسيون فى (اكسفورد ستريت) فلم يكن له فيه سوى
غرفة صغيرة، ولم تكن إقامته فيه إلا ريثما يتحول عنه. . ومع هذا فان صاحبته اليهودية لم يرضها منه أن يغادر البنسيون، فلم تكن تلقاه - منذ علمت قرب انتقاله - الا عابسة غاضبة، فكان أنفها البارز المحدب ينتفض ويضطرب، وعيناها البراقتان يتطاير منهما الشرر، إذا طلب قليلا من الماء الساخن ليستعين به على حلق لحيته. . والويل له إن تخلف عن موعد الطعام قليلا: فانه كان يجد المائدة قد رفعت؛ فاذا نظر الى ما حوله ألفى وجوها عابسة تنذره بالشر المستطير إن هو حدثته نفسه بالحصول على شيء من القوت الذى فاته. . فكان يؤثر الصمت وينسل الى غرفته فى سكون وهدوء
ان هذا الاضطهاد العجيب كثيرا ما كان يضحكه؛ وكثيرا ما سأل نفسه أيمكن أن تقسو عليه هذه اليهودية كل هذه القسوة لا لسبب سوى أنه يؤثر أن يسكن فى ظاهر المدينة حيث الهواء الطلق والسكون الشامل؟ إن أحد الناس أخبره فى ما بعد أن هذه اليهودية لم تظلمه ولم تضطهده إلا لكى تثأر منه: لما جناه أجداده الفراعنة فى الزمن القديم على بنى إسرائيل، حيث كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم. . . وكثيرا ما أغرب حسن فى الضحك كلما خطر له هذا الرأى الظريف. . .
ومهما يكن من أمر، فان هذا اليوم من تشرين الأول هو آخر أيام الاضطهاد وأول أيام الحرية. فلن يطالبهم اليوم بالماء الساخن؛ واذا قدم اليه الشاى باردا والبيض فاسدا فى طعام الفطور، فانه لن ينبس بكلمة. . . ثم أخذ يعد أمتعته ويحزم حقائبه. وقبيل الظهر بساعة كان قد أعد العدة للرحيل. . .
ومشى على استحياء الى ربة المنزل، فحيته فى تكلف وفتور. أما هو فابتسم لها ابتسامة ظنها ابتسامة الظفر؛ وقدم لابنتها الصغيرة (ساره) صندوقا جميلا مفعما بالحلوى؛ ونفح الخادم بضعة شلنات أنطقتها بالشكر.
ثم انطلقت به السيارة وبأمتعته وحقائبه تلقاء ذلك المنزل، رقم ١٧ المطل على الحديقة الغناء؛ وصدره مملوء غبطة لم يحس مثلها منذ نزل على ضفاف (المرزى) وأخرج من جيبه مرآة صغيرة فأصلح الرباط الذى يحيط بعنقه، والذى تزعزع كثيرا أثناء نقله لحقائبه من الغرفة العليا الى التاكس. .
لم يكن حسن قبيح الصورة, ولكنه من غير شك كان أسمر
اللون. وقد أخذ يحس احساسا مبهما أن هذه السمرة قد تكون من جملة الأسباب التى أغلقت دونه أبواب القلوب. . . لكنه كان بعد فى شك من هذا الأمر. . . ولم يكن قد وقر فى نفسه بعد وأصبح عقيدة راسخة. . . فكان فى يومه هذا باسما مستبشرا.
ها هى ذى السيارة قد وقفت لدى لمنزل رقم ١٧ ! وقد أوشك أن يقلب صفحة جديدة من صفحات حياته. . . فلتنتظر السيارة قليلا ريثما ينزل ويستاذن أهل الدار فى الدخول. . ثم يأخذ فى دق الجرس. . . . عجبا ليس من مجيب. . . إن السيدة قد ذهبت - دون شك - الى بعض شأنها وليس بالدار أحد. . . فلينتظر قليلا. . . ولكن. . أى شىء هذا؟. . ان النافذة تفتح وهذه مسز هرفى نفسها. . ولكنها تنظر اليه بوجه عابس متجهم. . . إنها تبدى أسفها الشديد لأنها لا تستطيع أن تقبله فى منزلها. . . . أجل. . . ولا يهمها أن تكون قد سبقت كلمة منها اليه. . إنها لا تقدر أن تؤوى لديها أحدا من أهل آسيا، فليرجع بسلام. .
آسيا؟ ولكنه ليس من أهل آسيا. . . إنه من أهل مصر! سيان لديها، من أية الجهات مصدره، مادام أهل الحى لا يروقهم شكله ومنظره. . فليرجع الى أحد فنادق المدينة فانهم سيرحبون به هناك. أما منزلها هذا فليس إليه سبيل...
ويطأطئ حسن رأسه ويمشى الى سيارته مطرقا واجما. ويهمس فى أذن السائق اسم أحد الفنادق ويرتمى فى مقعده مجهدا متعبا. وتحين منه ألتفاته الى يديه وبشرته السمراء، فيدرك أن فى العالم بعد جريمة هائلة دونها كل أثم وكل جرم، وأنه - ويا للأسف - لا سبيل الى الخلاص منها، ولا الى الابتعاد عنها. . .
