تتمة
ولا تكاد تفتح عين جديدة الا رأيت آثار الرومان فيها فيجددون حفرها. والعين ملك لمن جد فى البحث عنها وقام بتطهيرها، ويساهم كل فيها بنسبة ما بذل من مجهود ومال، وعلى هذه النسبة يستنبت جزءا مما جاورها من الارض، والحكومة لا تتقاضى الضرائب على مساحة الارض المنزرعة فالناس أحرار يزرعون ما أرادوا منها، لكن الضريبة تجبى على طاقة العين بغض النظر عما يزرع حولها. فأذا ما ظهرت عين جديدة تشكل لجنة حكومية ثم يسوى مكان عند منفذ العين توضع فى نهايته عارضة خشبية بعرض القناة فتعترض الماء الذى يطغى عليها ويتدفق فوقها ثم يقاس عمق هذا الماء فوقها
وبحسب غزارته تقدر قوة العين قيراطا أو بعض قيراط. والضريبة نصف جنيه عن كل قيراط، ومن العيون ما هو أقل من
قيراط ومنها ما يبلغ عشرات القراريط. وفى ناحية باريز أكبر عيون الواحات وقوتها من ٥٨ الى ٦٠ قيراطا، ويقال انها وحدها تستطيع رى مئات الفدادين، لكن أصحابها لا يستطيعون استغلالها كما يجب، لذلك تجمع من مائها الفائض مستنقع يمتد عشرات الكيلومترات كثر به البط والطير المائى، ولذلك يقصده الكثير وبخاصة الموظفين للهو والصيد
وتقسيم ماء العين بين الشركاء عجيب أيضا، فان كان الملاك ثلاثة قسموا القناة الخارجة من منفذ العين ثلاثة أقسام، يجب أن تكون متلاصقة خيفة تبدد الماء بالرشح فيجري نصيب كل مالك الى أرضه التى يشترط أن تكون مجاورة لارض باقى الشركاء، وألا تزيد مترا واحدا عنهم، ويجب أن يزرع الجميع نوعا واحدا من الغلات، واذا لم يسعف ذاك التقسيم كل حقل قسموا الرى بالساعات، ففلان يروى عددا من الساعات مناسبا لنصيبه، وبعد ذلك يجىء دور صاحبه، وهكذا واذا اقبل المساء واوقف الرى خيف على الماء الدافق من التبديد لذلك يرسل الماء الى مستودع فسيح يدخر فيه الى الصباح حين يروى الشركاء منه على النظام السالف الى أرضهم المنخفضة عن مستوى ذاك المستودع، والاراضى حول العيون مدرجة الانحدار كى يصبح الري ممكنا، وكثيرا ما كنت ارى المجارى المتقاطعه يسير فيها الماء بعضه فوق بعض مسافات طويلة كل يستمد من عين خاصة به
وكلما مضت السنون على العين ضعفت لكثرة ما يتجمع حولها من رمال فيعاد تطهيرها، وكثيرا ما تقارب العين النضوب او ينفذ ملؤها، والعادة انه كلما خرج نبع جديد أغاض ماء غيره أو انضبه
واهم الزراعات: الأرز عماد غذاء الاهلين وهو صغير الحب اسمر اللون لكنه ألذ طعما من رزنا، وهو فى الطبخ ينتفخ فيزيد حجمه كثيرا، ولعل اكبر مميزاته محصوله الوفير فمتوسط غلة الفدان بين ٢٠و٣٠ أردبا، وفى الارض الجيدة يغل أربعين، على أنه يمكث فى الأرض سبعة شهور، ولعل جودة ذاك المحصول العجيب راجعة الى كثرة الجهد الذى يعانيه القوم فى خدمته، فزراعته تتطلب عناء عظيما من ذلك: بل البذور بالماء الساخن وبذرها ونقل النبت وهو
صغير من بؤرة فى الاض اى غيرها وتلك العملية تتطلب المثابرة حتى يقارب النضج، أضف الى ذلك استئصال الطفيليات، وفى الشهر السابع يبدأ الحصاد وخلال كل أولئك ينشر الفلاح السماد على الأرض أولا من روث البهائم، وأخيرا من فضلات المراحيض، فتراهم جميعا يوالون رمى رماد (الفرن) فى مرحاض البيت كل يوم واذا ما انتهى العام جمع كل ذلك سمادا قويا يعاون على أنبات الأرز.
وكلما حسنت الخدمة زاد طول السنبلة فحوت بين ٩٠ و١١٠ حبة وضوعف المحصول وقد يبلغ الخمسين أردبا ولذلك يجرى على السنتهم جميعا المثل القائل: (قل زرعك وأكرمه). وبعد تمام رى الأرز ينصرف الماء الى المنخفضات لاستخدامه فى رى القمح وهو الغلة التى تزرع بعد الأرز فى الأرض الجيدة وحولها فى الأراضى الرديئة يزرع الشعير ومحصولهما دون محصول أرض الريف.
ولما كانت زراعة الأرز أساسية ومدته، طويلة وهو يتطلب ريا مستديما كثرت لذلك النقائع أغلب العام، فعاون ذلك على نشر البعوض وبخاصة فى أغسطس وهدد بالملاريا التى كثيرا ما تنتشر هناك، ولذلك حاولت الحكومة منع زراعته والاستعاضة عنه بالأرز السبعينى لقصر مدته، ولما جربه القوم أنكروه بتاتا وذلك لقلة محصوله.
وكم أعجبت بنزعة القوم الى التعاون فى جل أعمالهم! ففى الزراعة مثلا لا يلجأون الى إستئجار العمال خصوصا فى موسم الحصاد؛ بل ترى فريقا يتنقل بكامل عدده الى حقل الفريق الثانى وينجزون أعمال الحصاد متعاونين، وهؤلاء يقومون بدورهم فى معاونة الفريق الأول إذا حل ميعاد العمل فى منطقتهم، وتلك طريقة إقتصادية تبعث على العمل بنشاط وسرعة لا تتوافر فى المأجورين، والناس هناك هادئو الطباع معروفون بالأمانة حتى أن صاحب النزل كان يترك الفندق مفتوحا بغير حراس رغم وحشة الليل وبعد المكان عن المدينة لأنه واثق أن ليس بين الناس من يحاول السرقة
غذاؤهم ومشربهم: وعماد القوم فى الغذاء الأرز يأكلونه مسلوقا ويضع الفقير عليه الزيت والغنى المسلى وأحيانا يدق الزيتون كله ثم ينخل ويخلط سائله الزيتى الاسمر بالأرز فيكسبه لونا أسود وطعما لذيذا، وكثيرا ما يطبخ الارز باللبن والملح. والارز أساس وجبة الافطار فى الصباح والعشاء مساء- وهذه أهم الوجبات لديهم- يطهى فى أوان كبيرة من الفخار أو النحاس. أما الخبز فلطعام الغذاء وهى أقل الوجبات أهمية يتناولونها فى الحقول خارج بيوتهم.
ومن أشهر الاشياء لديهم الشاى والسكر والطباق، فهم يبتاعونها
بالغلال عند بدء حصدها، والتجار يختزنون تلك الغلال ليبيعوها للقوم ثانية اذا نضب معينها عندهم
ولقد أسرفوا فى تلك العادة حتى قيل أن الشاى أتلف كثيرا من صحتهم ومالهم لأنهم اذا شربوا عمدوا الى الماء المغلى فصبوه على الشاى الذى يشغل بين نصف القدر (الغلاية) وثلثيه لذلك يصبح منقوعه أسود غليظا ثقيلا ويتناوله حتى صغار الأطفال. وتتكرر تلك العملية فى مجلس الشاى ثلاث مرات، والناس يتناولون الشاى أربع مرات فى كل يوم: عقب الاكلات الثلاثة مباشرة، والمرة الرابعة عند الاصيل، ولا يروقهم الشاي الخفيف قط، لذلك ترى الواحد منهم يضع قطرة منه على ظفره ثم ينكسه فان سقطت نفر منه ولم يشربه فهو لا يستملحه الا اذا حاكى العسل الاسود، والعجيب أنهم يحلون ذلك بمقادير كبيرة من السكر. وأذكر انى أخذت صورة عجوز وناولتها قرشا فرجتنى أن اشترى لها به بعض الشاى والسكر
بدل النقود وأرسلت خلفى صبيها ليحمل ذلك اليها
وأجمل مناظر الواحة تتجلى فى بساتينها اليانعة تحيط بها أسوار وطيئة من الطين تحفها من اعلاها قحوف النخيل وتتخللها ابواب من الجريد صغيرة وبين تلك البساتين تمتد الطرق وتنساب قنوات الماء الدافق من العيون المجاورة، وأعظم غلات البساتين البلح والمشمش وكذلك البرتقال وهو من احسن الانواع حجما وطعما
ومن أخطر ما يعانيه القوم طغيان الرمال على البيوت والبساتين والينابيع، لذلك تراهم يحتالون لمقاومتها، فالعيون يقام حولها بناء اسطوانى، أو فى زاوية مدببة حتى لا يتجمع الرمل خلفها ويطمرها. ويغلب أن يزرعوا خلفها صفا من الشجر وبرغم ذلك يغلبهم الرمل، وكلما احاط بالشجر أو النخل استمر هذا فى نموه السريع وعلا حتى إذا ما بلغ نهاية نموه طمرته الرمال فاختفى وعندئذ يهاجر القوم الى ناحية أخرى، وكثيرا ما حدث ذلك فى ناحية (جناح) من بلدانهم، وقد يطغى الرمل على البيت فأن قارب نهاية علوه فتح صاحبه فى جداره بعض النوافذ فيتسرب الرمل الى داخل البيت ويسده ثم يبنى الرجل طابقا جديدا فوق الأول ليسكنه، وقد يتكرر ذلك الى الطابق الخامس والسادس. وقص على القوم أنه حدث مرة أن سيدة فى المكس من قرى باريز أنامت طفلتها داخل البيت ولما عادت وجدت الرمال قد تسربت من ثقب فوقها فطمرتها وماتت. وهناك بعض الكثبان الزاحفة على المدينة قاس الناس سرعة تقدمها فكانت مترا فى كل شهر
ومن الحشرات المخيفة هناك العقارب، فهى توجد بكثرة مروعة على أن ضررها قليل ويظهر أن سمها أخف من سم العقارب التى فى بلاد الصعيد، وفى بعض القرى هناك كالمكس لا تكاد ترفع قطعة من الطوب الا وترى أسفلها قد افترش بالعقارب، لذلك ترى
الاهلين جميعا اذا اقبل الليل خرجوا الى كثبان الرمل العالية وأمضوا ليلتهم فيها ولا يجرؤ احدهم ان يدخل الدار طيلة الليل خشية لدغاتها
ومما هو جدير بالذكر وبالاغتباط ما شاهدته من عناية محافظ الواحات بصوالح الناس، فهو دائما يفكر فى خدمتهم وزيارة مواردهم، وقد أنشأ قسما مستحدثا فى المدينة طرقه نظيفة مرصوفة تحفها الأشجار، وقد افتتح الطريق الى اسوان لاول مرة، عاون على فتح الطريق الى اسيوط فقطعته السيارة فى سبع ساعات وهناك طريق معبد الى الواحات الداخلة تقطعه السيارات فى ست ساعات، وآخر يسير شمالا إلى مرسى مطروح. والمحافظ جاد فى بناء مسجد فاخر فسيح الرحاب أحاطه بالمنتزهات
والمستمد العام لماء الشرب نبع احاطته الحكومة بالبناء تتخلله الانابيب والصنابير وذلك محافظة على نظافة الماء ان تلوثه الاوساخ وتعبث الأيدى، يملأ منه السقاءون قربهم والفتيات جرارهم وهى مستطيلة الشكل كى تحملها الفتيات تحت أذرعهن لا فوق رؤسهن. والاوانى من اخص صناعتها، وكذلك ضفر الأطباق والآنية من سعف النخيل يزينه نقش من الوبر والصوف الملون الجميل
ومجهود القسم الطبى هناك عظيم، يقوم الطبيب بالعلاج ويصرف الدواء مجانا ويعالج المرضى فى مستشفى كبير زود باحدث الوسائل وهو فى ناحية من المدينة بولغ فى تجميلها وتنسيق حدائقها
ذلك بعض ما شاهدته فى الواحات الخارجة التى ستظل ماثلة أمامى اذكرها بالخير دائما. ولقد أسفت لانى لم أستطع زيارة الواحات الداخلة التى يقول عنها جيرانها بأنها أعم خيرا وأفسح مدى، سكانها يناهزون ثمانية عشر الفا، أعنى ضعف سكان الخارجة وأنى لأرجو ان أوفق زيارتها فى يوم قريب.

