الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 44الرجوع إلى "الرسالة"

حبل الأبد فى الأدب

Share

فى كفة الغروب أمس، بعد ان مال ميزان النهار، وغشى  السواد الشفق، كنت أسألهم إلا يوقدوا المصباح فى  وجه الليل.  بل ندع العتمة تتساقط على مهل وتتلبد، حتى إذا غمر السواد  الجهات، غرق عبث الحياة فى  الليل، وسلم الأمر. . . هل مطلبى  من الحياة غير هذا ؟!

ثم أشرف من النافذة، فاذا المدينة قطعة واحدة فى جوف  الليل. خفى الشتات، وتألفت الدقائق، ومسح على الفضول.  فلست أرى ما يتعالى فى المشهد الأسود المنطرح إلا ذؤابات الأبنية  تشمخ، وكأن بعضها فى رأى العين يمشى إلى بعض، فتتلاقى  وتتساند بعد البياض الفانى، والعبث المولى !

وهذا قمر الليل، يقهقه بلا صوت. . . ولقد جنح الى المنحدر  الآخر، كأنما يزلق من هنالك، فتدفق الفضة دفقاً، غير العهد  بها فى  مقاطر الصحو الأزرق، حين تنقط ولا تبل الأرض!

والليل فهرس البياض المنطفئ، ترى فيه العناوين، وعفاء على  الحروف الضئال، والتنقيط المنمنم فى  كتاب النهار. فالعمود البعيد

القائم الساعة ناحية الجنوب، ولا أتبين ما حواليه، عنوان طويل  لبناية المسجد، ولقد خفيت المقالة وسلم العنوان...

وإننا فى الأدب على أعقاب جيل مال ميزانه، وطفقت العتمة  تتساقط عليه، فعما قليل تغمر نوافله، وتبتلع توافهه. ولا يسلم  منه فى الغرق الأعظم إلا العناوين الجديرة بالسلامة! ويسلم القمر  ذو القرص الباقى، والشعاع المجدد

كنا فى  (الباروك) (١) - فى  مطلع الصبى - نجول بالضاحية،  حيث كان (لامرتين) يهبط الخضرة والفىء على الينابيع. أو  نصعد فى  الهضبات حيث مر جواد (أبى الطيب). . . (وعقاب  لبنان وكيف بقطعها) فيقول وأحدنا للرفقة :

- ترى أى شئ من هذا الريف لفت صاحبنا ؟!!

وكنا بعد لم نتعلم التريث فى  الجواب، فتنطلق الاجوبة فى   الرفقة كما يهتاج العش! فالطاحون الذى  يهدر حتى آخر الأبد عند  الشجر، كأنما يهوم للجمال الاخضر فينعس وينام، وقد أفتتن به  (لامرتين) ولا ريب! وأفتتن بالبحيرات الصغيرة التى  يبسطها  النهر بين مرجين حين يتهمل - وهى لا تبرح إلى اليوم تنتظر  (صاحب البحيرة!) وبدرب النهر ساعة تحدر الفلاحات بالجرار  الحمراء فى  العشايا، ويسلن فوجا غب فوج، فيغدو الدرب نهراً  للاحاديث والغبطة يدفق من الضيعة إلى الوادى . . .

أما (أبو الطيب) وهو لم يعرج على الباروك فى  (وعقاب  لبنان وكيف بقطعها) فقد كان حسبنا منه، أن يلتفت فى  رأس  الجبل إلى خيمة الناطور التى  تتلاقى عليها عيون القرويين من كل  حقل. فيثنى رأس جواده، ويطل من شاهق - وهو الشتاء (٢)

- على البساط الابيض الذى  نقيم عليه أيام الثلج فى  (الباروك)! كذلك كنا فى  الصبى الأول، نحسب الدنيا تبتدئ. ويخيل  الينا أن (لامرتين) كان عندنا أول أمس، وكان (أبو الطيب)  أول من أمس. وأن خيمة الناطور تلك، وطاحون الوادى،  ودرب النهر، معالم ثابتة على الزمن، بذهابها ذهاب الباروك والينابيع

والربوات والشجر وهاتيك الدنيا الصغيرة!! فلما كبرنا عن  الصبى وكبرت الدنيا وصغرت (الباروك) - وكانت خيمة الناطور  قد سقطت وانهد الطاحون، وعفت الدروب على النهر - لم يذهب  من القرية شئ! بل ظلت لنا (الباروك) قرية بنهر وجبل  وضاحية، كما كان عهدنا بها أول العمر. ذهب النافل من ذلك  الجمال الباروكى فى  غرق الايام وعتمة السواد، وسلم ما ينبغى له.

فلو مر جواد (أبى الطيب) فى  رأس الجبل لثناه راكبه، وقف  يتلفت! ولو نزل (لامرتين) بين البحيرات والدروب لآنس نعيما  ظلا واخضراراً ! !

هكذا نقول لأصحابنا فى  مشادة العبث بين (القديم والجديد)،  فالزمن يمسح النافل، ويبقى على المحتم النافع. وليس فى  الادب  قديم ولا جديد، بل الأدب كد على الحق، ووله بالجمال. تسقط  عتمة الآباد ألف مرة على الصنيع الفنى الذى  غمس بألوان الوله  والكد وهو السالم الباقى لا يأخذ الليل منه حرفا!

فالحسن حسن على كل جيل. والتافه تافه أبداً. ما أخر القدم  قيد شبر، ولا قدمت الجدة قلامة ظفر

ولقد سبقنا إلى الدنيا، وجاءها اناس كلفوا بالجمال والحق.  وداروا على اللباب فى  الدروب. فآنسوا نارا ثم ألفوها ونزلوا  رماداً. فكيف يسوغ لنا، ونحن فى  الدرب من ورائهم، أن نقطع  ما بيننا وبينهم، ويقال أدب قديم وأدب جديد ؟؟!

ان الكدح القاسى فى  صعيد الفكر، والتضحية السمحة على  مذبح (فينيس)، والتنقيب فى  بياض الصحيفة عن الدنا المنحجبة،  كل هذه عرفها الرصيف القديم (بين الدخول فحومل. . .). .

فطلب البلاغ الحر، وقلب النسق فى  الصنيع الفنى، وابدال الوانه  وصبه على شكيلة الحياة القائمة كانت فى وكد الاساتذة السالفين  جيلا تلو جيل. وهكذا يقال فى  شيوع الخاطر من المستهل إلى  المقطع، وفى تماسك الحسن الذى  لا يبذل للنور نفسه، وفى الميسم  المطبوع والنفس الخاص، وفى المعنى الذى  يسكن المبنى ولا يمد  ساقيه على بحبوحة اللفظ - ذلك كله كان من أغراض الاساطير فيهم،  يوفقون إليه حينا وينكصون عنه حينا. فليس الأدب أبن يومه،  ما خطرت مطالب الحياة منه على بال أحد فى  الزمن لتقوم الضجة  علينا، ويتنادوا بالويل بعد أن اردنا الأدب حياة وقوة وخفق

جناح. . وأطفأنا الشمس بأكفنا !!!

وعندى أن الاساتذة الموتى الذين سلكوا السبيل قبلنا - وكأنهم  مضوا ليفسحوا لنا المواضع - من حقهم أن يطرقوا خواطرنا،  وأن يرشفوا قليلا من الحياة فى  الفاظنا. فهم، رحمهم الله، لم يبق  لهم من سبيل إلى الضياء إلا هذه الحروف التى  تشع فيها خواطرنا  هذا حبل الابد هيهات أن ينقطع. والأدب بشرى قبل كل  شئ، فليس فى أستطاعة أحد أن يقطع الحبل! والأدب أخو الحياة  لا قديم فيه ولا جديد، بل هو وله الجمال وكد على الحق،  وما عداهما فهراء !؟

لبنان

اشترك في نشرتنا البريدية