١ - تمهيد
لئن كان حجر رشيد وثيقة تاريخية خطيرة الشأن أدت إلى فك رموز الكتابة الهيرغليفية، وفتحت ما استغلق من المدنية المصرية القديمة وأوضحت ما أشكل فيها، فان حجر بهشتون يعتبر ولا مراء وثيقة هامة جداً موازية لرفيقتها في المكانة، لكونها أدت إلى فك رموز الكتابة المسمارية، وأنارت السبيل أمام العلماء والباحثين للتطلع إلى الماضي البعيد والتعرف بالمدنيات الآشورية والبابلية. . . . .
على الطريق الرئيسية الموصلة بين بغداد وطهران، يقع هذا الأثر المدهش الذي هو من أعظم الآثار التاريخية في آسيا. ويبعد عن همدان بمسافة ٦٥ ميلاً، وعن كرمنشاه باثنين وعشرين ميلاً وعُرف هذا الصخر قديماً باسم جبل باغستان البالغ ارتفاعه ٣٨٠٠ قدم. وقد اطلقت هذه التسمية على هذا الأثر نظراً لوجود تلك القرية الصغيرة المسماة بهشتون عند أسفل الصخر، وأصبحت هذه التسمية هي المتعارفة بين علماء الآثار والتاريخ من الأجانب. وكان السر هنري رولنصن قد استعار هذه التسمية من ياقوت الحموي الذي أتى في معجمه الجغرافي على ذكر هذه القرية وينبوعها فقال: (. . . . قرية بين همذان وحُلوان. . . وجبل بهستون عال مرتفع ممتنع لا يرتقى إلى ذُروته. . . ووجهه من أعلاه إلى أسفله أملس كأنه منحوت، ومقدار قامات كثيرة من الأرض قد نحت وجهه ومُلس، فزعم بعض الناس أن بعض الأكاسرة أراد أن يتخذ حول هذا الجبل
موضع سوقٍ ليدل به على عزته وسلطانه، وعلى ظهر الجبل بقرب الطريق مكان يشبه الغار وفيه عين ماء جارٍ. . .) ولم يكن ياقوت أول من استعمل هذه التسمية في معجمه، بل سبقه إلى ذلك ديودورس الصقلي المؤرخ كما سيجيء ذكره
٢ - وصف الصخر والينبوع المقدس:
إن لواجهة هذا الصخر وضعاً عجيباً من حيث البروز والانتصاب، فكان ليد الإنسان نصيب وافر في تهذيبها وصقلها وجعلها واقفة الانحدار كالجدار القائم، فبات النحت والكتابة عليها أمراً ميسوراً. وفي أسفل هذه الواجهة ينبوع ذو ماءٍ نقي جداً. فهنا كانت القوافل منذ الأزمان الغابرة تلقي عصا الترحال لتستريح من وعثاء السفر، وتروي غلتها من هذا المنهل العذب؛ كما أن معظم الجيوش التي سارت من أرض الفرس إلى شمالي بابل قد شربت من هذا الينبوع الشهير. ولقد أكتسب هذا الموقع مسحة تقديسية، كما يقول ديودوروس، لوجوده عند هذا النبع المتفجر
إن لهذا الصخر مزايا، منها اعتباره موقعاً مقدساً، فضلاً غن شموخه وانتصابه، ووقوعه على طريق رئيسية من طرق العالم القديم، ووجود المياه عند سفحه. فكل هذه أسباب وجيهة دواعٍ مهمة أهابت بداريوش الكبير (٥٢١ - ٤٨٥ ق. م) إلى أن يختار هذه الواجهة الجبلية القائمة ليجعل منها سجلاً خالداً على كر العصور، فنحت عليها الصور والكتابات الكثيرة التي كان يرمي من وراء صُنعها إذاعة فتوحاته وانتصاراته على جميع الشعوب المعروفة وقتئذٍ
٣ - المنحوتات:
تمثلُ هذه المنحوتات الملكَ داريوش، وبمعيته اثنان من قواده يحمل أحدهما قوساً والآخر رمحاً. والملك هنا واقف يتقبل شعائر الخضوع والإذعان من قادة العصاة ورؤسائهم المتمردين
الذين ثاروا في وجهه خلال السنين الأولى من حكمه، وعصوا أوامره في أنحاء شتى من إمبراطوريته المترامية الأطراف. وقد داس الملك برجله اليسرى جسم رجل مطروح على ظهره، رافعٍ كلتا يديه مستعطفاً ومستغفراً. وأمسك داريوش بيده اليسرى قوساً، أما يده اليمنى فقد رفعها متجهاً بها نحو الإله (أورامزدا) الذي يظهر في وسط أشعة من الأنوار والبروق؛ وانتصب أمام الملك تسعة من هؤلاء القواد والرؤساء الذين شقوا عليه عصا الطاعة، وقد شُدوا من أعناقهم بعضهم إلى بعض بحبل واحد، وشد وثاق أيديهم وراء ظهورهم
ويبلغ طول واجهة المنحوتات نحو ١٠ أقدام وعرضها ١٨ قدماً؛ أما ارتفاع شكل داريوش فخمس أقدام وثماني عقد، وارتفاع كل سجين ثلاث أقدام وعشر عقد، أما ارتفاع أورامزدا من أعلى رأسه إلى منتهى أشعته فثلاث أقدام وتسع عقد، وارتفاع كل من تابعيه أربع أقدام وعشر عقد، ومنتهى عرضه أربع أقدام وعقدتان
٤ - النصوص:
وتحت لوحة المنحوتات كتابة عظيمة تتشكل من خمسة أعمدة (حقول) متجاورة، يبلغ ارتفاع كل منها نحو ١٢ قدماً بعرض ٦ أقدام، أما عدد أسطرها فتشتمل على الترتيب ٩٦ + ٩٨ + ٩٢ + ٩٢ + ٣٦ والمجوع ٤١٤ سطراً. وهي باللغة الفارسية القديمة، لكنها مكتوبة بالأحرف المسمارية الجديدة المتألفة من ٣٩ حرفاً، والتي ابتكرها الفرس. وقد دُون على هذه الأعمدة نسب داريوش وغزواته وانتصاراته على جميع أعدائه وإخماده الثورات المتعددة التي أعقبت تتويجه، واقتحامه شعوباً متعددة، وغيرها من الأعمال التي قام بها خلال حكمه
وعن يسار الكتابة الفارسية ثلاثة أعمدة أخرى وضعت باللغة السوسيانية وكُتبت بالأحرف المسمارية السوسيانية (العيلامية) ، وهي تشتمل على ترجمة الأعمدة الأربعة الأولى من النص الفارسي. وعدد أسطرها هو على الترتيب ٨١ +
٨٥ + ٩٤ + ٣ (ملحق) والمجموع ٢٦٣ سطراً. وتتراوح أبعادها ما بين ١٠ - ١١ قدماً طولاً و ٧ أقدام عرضاً وهناك عن يسار المنحوتات واجهتان أخريان من الصخر عليهما كتابة باللغة البابلية، وكُتبت بالأحرف المسمارية البابلية المتألفة من بضع مئات. . . . . . . . . وتبلغ أسطرهما معاً نحو ١١٢، ويتراوح ارتفاعهما بين ١٠ - ١٤ قدماً؛ أما عرضهما معاً فبين ١١ - ١٥ قدماً
ويوجد عن يمين المنحوتات أربعة أعمدة تكميلية بالخط المسماري، وربما تتعلق هذه الأعمدة التكميلية بالحوادث المسرودة على العمود الخامس من النص الفارسي. إلا أن العوامل الجوية قد أثرت في هذه التكملة تأثيراً سيئاً، فأصابها الوان من الخدش والمحو، حتى أن أمر قراءتها أصبح متعذراً في الوقت الحاضر، إلا بعض كلمات من العمود الأول المكتوب باللغة السوسيانية. أما عدد أسطر هذا القسم فقد ضاعت معالمه ولم يعد في وسعنا معرفتها بالضبط. فجموع الكتابات المقروءة إذا تبلغ ٨٠٠ سطر تقريباً
وقد كُتب على لوحة المنحوتات فقرات صغيرة تبين أسماء أولئك المتمردين التسعة، ويبلغ مجموع هذه الفقرات ٣٢ فقرة، منها ١١ بالفارسية و١٢ بالسوسيانية و٩ بالبابلية
٥ - بهشتون في نظر الأقدمين:
إن أقدم مصدر تاريخي نقع فيه على ذكر حجر بهشتون هو تاريخ ديودورس الصقلي، الذي نشأ في القرن الأول الميلادي فذهب إلى أن هذه المنحوتات قد أحدثتها (الملكة سميراميس) لتكون على طريقها ما بين بابل وأكبتانا. وحسبما يرتأي هذا المؤرخ، أن هذه الملكة العظيمة قد ضربت معسكرها عند الينبوع الواقع في أسفل الصخر، وقد غرست بستاناً هناك. . . أما وصفه للمنحوتات فليس بمضبوط، إذ زعم أن الشكل الذي لداريوش إنما هو لسميراميس، وذهب إلى أن الاثني عشر رجلاً المحيطين بالملك إنما هم مائة من حَمَلة الرماح، شخصوا حول ملكتهم!!. . . .
أما الكتابة فيقول إنها (بالأحرف السريانية) . ثم قال بأن سميراميس قد تمكنت ان تصعد إلى أعلى الصخر بتكديس
احمال وسروج حيواناتها شيئاً فوق شيء. إلا أن هذه الآراء بعيدة كل البعد عن الحقيقة وعارية عن الصحة ككل ما يُنسب إلى هذه الملكة الوهمية. وذكر ديودورس في موضع آخر من كتابه أن الاسكندر الكبير زار هذا الصخر لي سيره من سوسا إلى أكبتانا
ولقد عرف كثير من جغرافيي العرب كابن حوقل والأصطخري (في القرن العاشر الميلادي) وياقوت (في القرن الثالث عشر) هذه المنحوتات والكتابات في بهشتون، ولكن أحداً منهم لم يهتم بأمر الكتابات اهتمامه بالمنحوتات، كما يظهر لنا مما أوردوه عنها، هذا فضلاً عن أنهم لم يذكروا نوع الحروف التي كتبت بها
٦ - بهشتون في نظر السياح الأوربيين القدماء:
من أقدم السياح الأوربيين الذين زاروا بهشتون في العصور المتأخرة أمبرجيو بمبو (١٦٥٢ - ١٧٠٥) وهو تاجر إيطالي من أهالي البندقية رحل إلى بلاد الفرس خلال الربع الأخير من القرن السابع عشر، وأعطانا - بالنسبة إلى حالة زمنه - وصفاً دقيقاً لهذه المنحوتات
وبعد ستين سنة تابعه في هذا المضمار المستشرق السويدي أوتر (١٧٠٧ - ١٧٤٨) الذي ساح في بلاد الفرس وفحص المنحوتات، ولكن ملاحظاته عنها قليلة الخطر، وقد اعتبر شكل الإله أورامزدا (نذيراً للخير)
وبعد انقضاء ستين سنة أخرى زار أولفيير (١٧٥٦ - ١٨١٤) العالم الطبيعي الفرنسي بلاد الفرس، وفحص المنحوتات في بهشتون، ورسم لها صورة طبعها بعد ذلك في كتاب رحلته. أما هذه الصورة فخاطئة جداً، لأنها تمثل داريوش جالساً على عرش، ورجلاه مستندتان على كرسي صغير؛ كما ان استنساخه لبقية أشكال المنحوتات ليس بمضبوط ألبتة
ومن الغريب أننا نجد هوك في كتابه: ١٨١٨) يطرح جانباً أحاديث (بمبو) وآراءه التي يُركن إليها ويوثق بصحتها إلى درجة غير قليلة، ويعول بالدرجة الرئيسية على ما أتي به أو لفيير من المعلومات التي لا تتفق مع الحقيقة دائماً
٧ - إيضاحات وتعليلات وهمية للمنحوتات:
وكان الصخر قد وصف ثانية جاردان (١٧٦٥ - ١٨٢٢) الذي افترض أن اورامزدا وأشعته النورية إنما هو صليب، وزعم أن الأشكال التي تحته تمثل الاثني عشر رسولاً!.
وبعد مضي سنين قلائل، قام كينير (١٧٨٢ - ١٨٣٠) بعدة رحلات في بلاد الفرس، وكان أول من ذهب إلى أن المحنحوتات في بهشتون تعود إلى نفس العصر الذي نشأت فيه آثار برسبوليس
وقد شاركه في هذا الرأي كبل (١٧٩٩ - ١٨٩١) الذي أسهب في وصف هذه المنحوتات في كتاب رحلته
وفي عام ١٨٢٢ طبع بورتر أبحاثاً قيمة عن رحلاته التي قام بها في جورجيا وفارس وأرمينيا وبابل خلال ١٨١٧ - ١٨٢٠، واليه نحن مدينون بوصف مسهب لمنحوتات بهشتون. وفي هذا الكتاب رسم للمنحوتات يصح أن يُعتبر أحسن ما رُسم لهذا الأثر حتى صدور الكتاب. وقد لاحظ عموماً قدم هذه المنحوتات الغابرة، ولكنه لم يفهم مآلها، فقد ذهب إلى أن هذه المنحوتات البارزة الشهيرة إنما عملها شلمناصر (ملك أشور وميديا) ليخلد بها اكتساحه لبني إسرائيل. وزعم أن الأسرى الواقفين أمام دواريوش إنما هم من الأسباط العشرة، واعتبر أن شكل داريوش لشلمناصر، إلى غير
. . .ذلك من التعليلات التي نستغربها الآن. . . . ومع هذا فإنها تطلعنا على وضع علم الآثار في ذلك العصر وتدلنا صريحاً على فهم الناس لبقايا السلف
٨ - صعوبة الوصول إلى الكتابة لدراستها
ومع أن منحوتات بهشتون كانت قد لوحظت ودرست من قِبَل عدد غير قليل من السياح خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فان أمر نقل الكتابات التي هنالك ظل نسياً منسياً. . . . ولهذا لم تقع تلك النصوص في حوزة من يريد فحصها أو تدقيقها ودرسها من طبقة المتعلمين. ولاشك أن لهذا التقصير سبباً: فالقيام باستنساخ النصوص أمر في منتهى الصعوبة، لأن الكتابة - كما قلنا سابقاً - نحتت على واجهة صخرية قائمة الانحدار، يبلغ ارتفاعها ٥٠٠ قدم فوق مستوى السهل . على أن من الممكن الوصول إلى ما علوه مائتا قدم فقط بتسلق كتل الصخر وجلاميده المتفككة والقلاع التي في سفح الجبل؛ أما بعد هذه الصخور المبعثرة، فالأمر يصبح عسيراً جداً، إذ ينتصب الصخر فجأة، فيكون التسلق عليه محفوفاُ بالمخاطر الجسيمة من كل جانب
٩ - السر هنري رولنصن يعمل في بهشتون:
وكان أول من تغلب على هذه الصعاب هو السر هنري رولنصن (١٨١٠ - ١٨٩٥) الذي أصبح حل الكتابة المسمارية مديناً لمجهوداته ومساعيه ومغامراته
ففي عام ١٨٣٣، عندما كان ضابطاً في الجيش الهندي اختير مع بضعة ضباط ليتوجهوا إلى إيران ليساعدوا الشاه على تدريب جيشه. وفي عام ١٨٣٥ كان قد أرسل إلى كرمنشاه باعتباره مستشاراً للحربية ومساعداً لحاكم تلك المقاطعة. وفي طريقه إلى هناك مر بهمدان (اكبتانا) وانتهز الفرصة فاستنسخ الكتابات المسمارية المنحوتة على واجهة الصخر في وادٍ بجبل الوند قريباً من تلك المدينة. وقد نجح في دراسته لهذه
الكتابات ووفق الحصول على (مفتاح) لمعرفة العلامات المستعملة في الكتابات المسمارية الفارسية القديمة. ولابد أن نذكر هنا أنه لولا دراسته اللغة الزندية القديمة والفهلوية لما تمكن من قراءة الكتابة البابلية، لأن هاتين اللغتين كانت مشابهتين لكتابة اللغة المسمارية الفارسية، وتمكن أخيراً أن يكون (هيكلاً) للقواعد الصرفية والنحوية وأن يتحقق من معاني كلمات متعددة
وكان خلال الفترة التي أقامها بكرمنشاه (أي من سنة ١٨٣٥ إلى ١٨٣٧) قد خصص أوقات فراغه لفحص الكتابات التي على حجر بهشتون. وفي ختام سنة ١٨٣٧ كان قد حصل على نسخ لما يقارب نصف الأعمدة للنص الفارسي. وفي نقله لهذه النصوص أثبت أنه قطع شوطاً بعيداً في التقدم على كل باحث في هذا الموضوع. ولاشك أن نجاحه في هذا العمل المضني شهادة صادقة على سعة ذكائه وعلو همته
إلا أن مهمته العسكرية اعترضت سبيل عمله وأقعدته عن إتمامه، فرأى المصلحة تقضي بأن يدع أعماله في بهشتون جانباً، ريثما يُعيد الكرة عليها عام ١٨٤٤
وفي صيف تلك السنة عاد إلى هنا مع المستر هستر والكابتن جونس فأمكنه بمساعدتهما أن ينتهي من استنساخه للنص الفارسي، وأن يعمل نسخة كاملة للترجمة السوسيانية. وعندما عمل في مبدأ الأمر نسخة للنص الفارسي، قارَنَ الفقرتين الأوليين مع الكتابات التي استنسخها سابقاً في (الوند) فزودته هذه المقارنة بمعرفة الإماء المحلية لكثير من الأعلام، فضلاً عن التوصل إلى معرفة عدد لا يستهان به من الكلمات الأخرى
وفي عام ١٨٤٧ طبع رولنصن ترجمة كاملة للنص الفارسي من كتابات بهشتون، مع ذيل صرفي نحوي واسع وأبجدية
أما الترجمة البابلية فقد نجح رولنصن هذا الوقت في عمل نسخ للكتابات التسع الصغيرة التي على لوحة المنحوتات، غير أن القسم الأساسي من النص البابلي قد ظل الوصول إليه أمنع من عقاب الجو؛ وما برحت الوضعية على هذه الصورة حتى كان خريف ١٨٤٧، حينما عاد رولنصن مرة أخرى إلى بهشتون، فباشر عمل التدابير السديدة للحصول على نسخة من الترجمة
. البابلية. واستعداداً لإنجاز هذه المهمة الشاقة زودَ نفسه بحبال وألواح خشبية وسلالم إلى غير ذلك من وسائل الصعود والتسلق، واصطحب معه بعض الأكراد الجبليين ليكونوا عوناً له في مهمته هذه.
وكانت خاتمة هذه الرواية أن توصل رولنصن إلى الغاية المبتغاة، بعد أن كان إدراك تلك الغاية ممتنعاً والتماسها وعراً. فاستنسخ الكتابة البابلية بأجمعها، وبهذا أزاح ستاراً آخر طالما كان مسدولاً أمام العلماء والباحثين. . .
ولا تزال بعض أوراق رولنصن ومنسوخاته معروضة إلى اليوم في القاعة البابلية في المتحف البريطاني، برغم ما أصابها من التلف أثناء عرضها قبلاً في قاعة المحاضرات لمختلف الجمعيات العلمية بلندن
ولابد من الإشارة هنا، إلى أن حل رموز الكتابة المسمارية كان قد اشتغل به نفر من العلماء البارزين، نخص بالذكر منهم:
جروتفند وأوبرت ونوريس وهنكس وغيرهم، إلا أن رولنصن فاقهم جميعاً، وحاز قصب السبق عليهم، فلا غرو إذا دُعِيَ بحق (أبا علم الآشوريات)
١٠ - مساعي العلماء بعد رولنص:
وكان بين السياح الذين رحلوا إلى بلاد الفرس منذ زمن رولنصن، وقاموا بمساع لإعادة فحص هذه الكتابة هو جاكسن الذي وفق عام ١٩٠٣ إلى الوصول إلى الحافة التي تحت النص الفارسي، والى عمل مقارنة ومقابلة بين العبارات المشكوك في صحة استنساخها سابقاً
ثم لما كان عام ١٩٠٤ أوفد المتحف البريطاني المستركنج (الذي كان وقتئذ قائماً بأعمال الحفر والتنقيب في بقايا نينوى) إلى بهشتون، ليقابل بين النصوص وليقيس الأبعاد وليأخذ الصور الفوتوغرافية. وقد رافقه المستر طومبسن ليساعده على أداء هذا العمل. وقد قام كنج وطومبسن بهذه المهمة خير قيام، وتمكنا من معرفة مقاسات
الأشكال والكتابات التي أتينا على ذكرها في محلها من هذا البحث. وقد وجدا بوجه الاجمال أن عرض الساحة المغطاة بالمنحوتات والكتابات معاً يبلغ ٦٠ قدماً، وارتفاعها ٢٣ قدماً
وفي سنة ١٩٠٧ تمكن هذان الباحثان أن ينشرا النصوص الكاملة للكتابات الفارسية والسوسيانية والبابلية في بهشتون، المبنية على مقارنات حديثة مع الأصول التي على الصخر. مع ترجمتها بأجمعها إلى الانكليزية، ومقدمة وتصدير وصور فوتوغرافية الخ
بعنوان: The Sculptures and Inscriptions of Darins the Great on the Rock of Behiston in Persia (Lxxix +223 pp, XVI plates)
ولا يزال هذا المؤلف أحسن كتاب للآن يمكن الرجوع إليه في التوسع في هذا البحث
١١ - صيانة مدوناته داريوش:
ويمكننا أن نعزو بقاء كتابات داريوش هنا، إلى أنها حفرت على واجهة صخرية قائمة الانحدار، بحيث أن التسلق إليها يُعد من الأمور المتعذرة. ولكيما يجعل مدونات بعيدة بقدر الإمكان عن أن تسطو عليها أيدي الأعداء وتنال منها مأرباً، فقد انتزع الزوائد الصخرية الكائنة تحت الكتابة، فتكون من جراء ذلك جدار صخري أملس، تعلوه الكتابات والصور. وهناك دلائل على أن الملك قد كون بعضاً من الطرق للصعود إلى هذا الصخر بحيث يُتاح للمارة أن يصعدوا ويتفرجوا على كتاباته ونقوشه. ولكن جميع تلك الطرق التي كانت مؤدية إلى الصخر قد انطمست معالمها الآن
وقد كان لتحفظ الملك وبُعد نظره التأثير الحسن في الابقاء على المنحوتات والمدونات، فنجت من التشويه والتلف الناجمين عن عبث يد الإنسان. ويمكننا القول بأن معظم التلف الذي أصابها إنما كان من تأثير العوامل الجوية، ومن رشح الماء خلال طبقات الصخور المكونة للجبل
ولم يقف عمل داريوش في إذاعة جبروته وعظمته في العالم عند هذه المنحوتات والمدونات، بل أراد أن يعمل غيرها من النسخ، لتصدر وتُذاع بين الشعوب البعيدة عن هذا الموقع، والداخلة في إمبراطوريته
فقد كشف الدكتور كولدواي في بابل عن قطعة من الترجمة البابلية. وإنا لنأمل في أن ما تم وما سيتم من الحفريات الأثرية في العراق وفارس يؤديان إلى اكتشاف نسخ أخرى تميط اللثام عن بعض المعميات التي تعتور النصوص الحالية
والخلاصة، أن هذا الملك العظيم، قد دون انتصاراته في اللغات الثلاث، التي كان لها أعظم الأهمية في العالم الشرقي وقتئذ، ولم يكتفِ بهذا بل جعله مطلاً على طريق رئيسية، وعلى قطعة ترتفع خمسمائة قدم فوق مستوى سطح تلك الطريق وبالقرب من الماء أيضاً، فلابد للمسافر من أن يستريح قليلاً هنا، فيتاح له عندئذٍ مشاهدة هذا الأثر ملياً والتساؤل عن ماهيته
(الموصل)

