خاض بعض أفاضل الكتاب فى هذا الحديث فتظاهروا على أن الأدب لا يجدى فى مصر على أهله، وإن هو أجدى بعض الاحيان ففى شح وتقتير، إذ هو فى بلاد الغرب يعود بالغنى والثراء، وقد يعود بأوسع الغنى وأضخم الثراء. وراحوا يتشعبون مذاهب العلل والاسباب لهذه الحال: ومن بين هذه الاسباب قلة عدد المتعلمين فى البلاد، وفتور هؤلاء عن اقتناء كتب العلم والادب، وخاصة اذا استخرجت منهم أثمانها، وانتشار الادب الرخيص تنتضح به بعض المجلات الاسبوعية فيقبل عليه الشباب من المتعلمين ومن لا يزالون فى طريق التعلم مطاوعة للشهوة، ولانه لا يحتاج الى كد ولا مطاولة. وكذلك اضافوا الامر الى أثرة الناشرين واستغلالهم حاجة الادباء وضعف وسائل هؤلاء الى القيام بنشر آثارهم بأنفسهم. ثم الى عدم عناية القادرين، من أى صنف كانوا، بالادب الرفيع يذكونه بألوان المعونة والتشجيع.
وكل هذه الاسباب لا تعدو فى رأى الحق الواقع فى كثير ولا قليل. وعلى ذلك لم أدفع القلم اليوم لمناقشتها والتماس سواها، وإنما لأسرد تاريخا موجزا لصلة الادب بالمادة فى بلادنا ابتداء من الجيل الذى شهدنا طرفه الى غاية هذا الجيل الذى نعيش فيه.
كان الأدب من بضع وخمسين سنة مجرد حلية وزينة يتكلفه المتأدبون إما للفاكهة والتعابث والتظرف، وأما للزلفى طلبا للتمكين من المنصب أو الحظوة عند أولى الأمر، أو استخراجا للاحسان.
لم يكن الادب، فى الجملة، اذن يطلب غرضا ساميا سواء من امتاع النفس باطلاعها على ما فى الكون من فتنة وجمال، أو معالجة القضايا العامة وملابسة الأسباب الدائرة بين الناس. فكان الشعر فى الجملة أيضا، يدور فى المذاهب التى سلكها العرب الاقدمون من مدح وهجاء، وفخر وغزل ورثاء؛ على أنه، حتى فى هذه الاغراض الضئيلة لم يكن أكثره على شيء من الخطر سواء فى سمو المعافى أو فى قوة الأداء. بل كان نسلا ضعيفا متزايل الاجزاء. وكيف يشعر لا يزيد على أنه نقض دارس مما أزل شعراء العهد العثمانى: التماس المحسنات البديعية من جناس وتورية واستخدام، بالغة ما بلغت المعانى وواقعا ما وقع نظم الكلام.
أما النثر، وأعنى النثر الفنى بالضرورة، فكان أشد نسولة وأبلغ تزايلا؛ كلام لا يكاد يجرى لغرض أو يستشرف الى غاية؛ انما هو السجع يلتزم فيه كله فترى فيه السخن والبارد، والحلو والحامض.
لم يكن من شأن هذا المقال أن يعرض للاسباب التى بعثت هذا الادب القوى العالى الذى نذوقه اليوم، فذلك مبسوط فى كتب تاريخ الادب العربى. وانما عقدنا هذا الكلام لايراد موجز من تاريخ التكسب بالادب عندنا فى العصر الحديث كما ذكرنا فى صدر هذا المقال.
لقد كان التكسب بالشعر، فى الجملة، من طريق واحدة، هى ان طائفة ممن يتكلفون نظم الكلام كانت الحاجة تبعثهم الى أن يرتصدوا لحكام البلاد وأعيانها وموسريها حتى اذا دخلت على أحدهم نعمة من أى لون كانت أو مات له ولد أو نسيب بادروا بازجاء التهنئات يموهون حروفها بماء الذهب، أو المرائى يجللون رقاعها بالسواد، ولا يزالون يختلفون اليه فى طلب العطية. وقد لا يظفرون، فى الغاية الا بتسريح بغير احسان. ولقد أساء هؤلاء الى الادب اساءة بالغة، بحيث نشأت ناشئة الجيل الماضى وهى لا تكاد ترى فى الادب الا الكدية، ولا فى الاديب الا أنه شحاذ!
أما التكسب بالنثر فكان له طريق آخر أقبح من ذاك وأخزى. وذلك باصدار صحف صغيرة حقيرة قد تظهر مرة فى الاسبوع أو فى الشهر أو فى نصف العام. ومادة كسبها فى الواقع من تخويف ضعاف النفوس بتشهيرهم وطلب معايبهم والتدسس الى مكارههم إلا أن يشتروا أعراضهم، فان فعلوا والا فلامهم الهبل.
ولقد انتهى، والحمد لله، هذان الضربان من التكسب بالادب ولم يبق لهما فى بلادنا، على ما أرى، من أثر. ولعل ذلك راجع الى تغير فهم الناس لمعنى الادب، وأرتفاعهم به على ذلك الهوان، والى انتشار الثقافة بوجه عام، والى خشية سطوة القانون بوجه خاص.
وليس معنى هذا أنه لم يكن هناك لا أدب ولا أدباء، بل كان الشعراء وكان خيار الكتاب، الا أنه لم يكن يتكسب أحد من هؤلاء (ما عدا الصحفيين المحترفين) بصنعة القلم.
نعم كانت الصحافة بمعناها الصحيح، ولا زالت مهنة كريمة نبيلة تجدى على أصحابها وعلى المشتغلين بها ما يعودون به على شملهم، بل ما قد يغنيهم ويضيف اليهم الثروات الضخام. أما هواة البيان، على حد التعبير الحديث، فلم يكن لهم من هذه الجدوى نصيب.
ثم كانت (الجريدة) وقام على شأنها أستاذنا العلامة الكبير أحمد لطفى السيد بك، فرأى أن يدعو نفرا من كبار العلماء
والكتاب الى تغذية الجريدة من وقت لآخر بالمقالات المتخيرة المنتقاة فى مختلف أسباب الحياة، وأجتعل لهم ذلك الجعالات. ولعله فى ذلك كان متهديا سنة الصحافة فى بلاد الغرب.
على أنه لما اشتدت قوة الصحافة فى مصر وعظم انتشارها بحكم أطراد الحضارة وكثرة المتعلمين، وأزدياد تتبع الجمهرة للاسباب العامة وشدة اهتمامها بها - اضطرت - كبريات الصحف، بنوع خاص، الى العناية بتجويد تحريرها، واغزار مادتها، حتى لقد جردت بعض صفحاتها لطريف البحوث فى شتى العلوم والفنون، وفوق أنها أضعفت وظائف محرريها أضعافا. فقد جعلت كذلك تؤجر الكاتبين فيها من غير محرريها بما لم يكن يحلم به أحد من عشر سنوات خلت.
هذه حقيقة للأدباء أن يغتبطوا بها، واذا كان المدى بين حظوظهم وبين حظوظ رصفائهم فى الغرب لا يزال فسيحا، فلهم من الأمل فى القريب مزيد إن شاء الله.
بقى الحديث فى التكسب بالأدب من طريق نشر الكتب ودواوين الشعر. والذى شهدناه من أعقاب الجيل الماضى ولا نشهد غيره الى اليوم أن الكسب من هذه الطريق يكاد يكون مكسورا على جماعة الوراقين كما قال بحق بعض كبار الكاتبين على أننى أرجو منه أن يأذن لى فى استثناء أصحاب الكتب المقررة للتدريس، فاؤلئك وحدهم المجدودون، أو الذين كانوا مجدودين الى وقت قريب.
لقد كان الأدب عندنا، ولعله لا يزال عند الاكثرين الى الآن ينتظم فى سمط الكماليات، والكماليات عند أكثر الناس ليست حقيقة بأن يخف المرء اليها، اللهم إلا إذا واتته عفوا، أو بغير مشقة ولا جليل انفاق. فبأت بديها ألا تنفق كتب الأدب حتى تعود على أصحابها بنفقات طبعها بله الثروة وكرائم الأموال.
أما كتب العلم، فان العلم يطلب فى بلادنا على أن يفضى الى إحراز شهادة رسمية تقلد محرزها منصبا حكوميا، فاذا لم يكن الأمر على هذا فلا كان علم ولا كان تعليم!
هذه حقيقة واقعة أرى أن أنكارها ضرب من الغش والتدليس مشايعة لهوى الجمهور، والعياذ بالله! لعل واحدا فى كل ألف من الذين ختموا دروسهم فى بلادنا هم الذين يشقون كتابا علميا لا تدعوهم الى شقه حاجة المهنة. نعم لعل فى الألف من المتعلمين واحدا أو دون الواحد هم الذين يطلبون العلم ويراجعون مدوناته ليكملوا أنفسهم، وليتزيدوا من معارفهم، ويفسحوا فى ملكاتهم. العلم عسير الهضم، يكد الذهن ويجهد النفس، ففيم مكابدته وشدة المطاولة
فى تحصيله ما لم تقض بتحصيله ضرورة ملحة قاسية، من أرهاق الولى أو الحاح الحاجة، أو جموح الشهوة الى المنصب يعرض الجاه، ويعز فى الأهل والصحاب!. فكيف تريدون أن تنفق عندنا كتب العلم للعلم؟! ....
أما الكتب المقررة للتدريس فهى التى كانت الى وقت قريب، تدر على أصحابها الكثير بل الذى يستطيعون أن يكاثروا به أعلى مؤلفى الغرب قدرا وأبعدهم صوتا! ولا أحسب أن هذا الاجداء كله يرجع الى فضل المؤلفين وحده وعظم تجويدهم لما يخرجون من فنون الكتب، بل لعل شيئا من ذلك يعود الى أن هذه الكتب مفروضة فرضا على العديد الاكبر من تلاميذ المدارس تشتريه وزارة المعارف لهم أو تريدهم على شرائه، وإلا خذلوا فى الامتحان وأفلتتهم الاجازات، أو على الاصح فاتهم التأميل فى المناصب الحكومية، ولا حول ولا قوة الا بالله!
الواقع أن أكثر الكتب المقررة موف على الغاية من التجويد والاحسان، ولكنها غير مدينة فى رواجها الى هذا التجويد والاحسان. بل هى مدينة فى ذلك، مع الاسف الكثير، لأنها مفروضة على التلاميذ فرضا، ولو قد عدل عنها ما أخرجت المكتبات عشر ما تخرج منها على أسخى تقرير. وهذه الحقيقة المرة القاسية ترينا مبلغ حظ العلم والأدب فى هذه البلاد.
ومهما يكن من شيء فأن لنا ان تغتبط، ولو قليلا، اذا نحن قسنا حاضرنا بماضينا القريب، فبين مؤلفينا من يستردون من أثمان مؤلفاتهم ما أخرجوا لطبعها، وفيهم من تفضل عليهم من الربح الكثير أو القليل. وكل الذى نرجو أن تطرد همم الشباب فى تحصيل العلم الصحيح، وتتجرد عزائمهم فى طلب الأدب العالى، معرضين عن التماس هذا الأدب الهين الرخيص. هنالك تنبعث فى البلاد الحياة القوية العزيزة، وهناك يجازى العلماء والأدباء بما يكافئ الجهد العظيم ،
