الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الأولالرجوع إلى "الرسالة"

حلقة مفقودة

Share

فى مصر حلقة مفقودة لا تكاد نشعر بوجودها فى الهيئات العلية مع أنها ركن من أقوى الأركان التى نبنى عليها نهضتنا. وفقدانها سبب من أسباب فقرنا فى الانتاج القيم والغذاء الصالح

تلك الحلقة هى طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة العربية  الاسلامية العميقة وبين الثقافة الاوربية العلمية الدقيقة، وهؤلاء  يعوزنا الكثير منهم؛ ولا يتسنى لنا أن ننهض الا بهم، ولا نسلك  الطريق الا على ضوئهم.

أن أكثر من عندنا قوم تثقفوا ثقافة عربية اسلامية بحتة  وهم جاهلون كل الجهل بما يجرى فى العصر الحديث من آراء  ونظريات فى العلم والأدب والفلسفة لا يسمعون بكانت  وبرجسون، ولا بأدباء أوربا وشعرائها، ولا بعلمائها وابحاثهم.  اللهم الا أسماء تذكر فى المجلات والجرائد والكتب الخفيفة لا تغنى فتيلا  ولا تستوجب علما- وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة  يعرفون آخر ما وصلت اليه نظريات العلم فى الطبيعة والكيمياء  والرياضة ويتتبعون تطورات الأدب الأوروبى الحديث وما  أنتج من كتب وروايات وأشعار، ويعلمون نشوء الآراء الفلسفية  وارتقاءها الى عصرنا، ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الاسلامية  كل الجهل. فان حدثتهم عن جرير والفرزدق والاخطل أشاحوا  بوجوههم وأعرضوا عنك كأنك تتكلم فى عالم غير عالمنا؛ وان ذكرت الكندى والفارابى وابن سينا قالوا ان هى الا أسماء سميتموها  مالنا بها من علم، وماذا نحصل من هؤلاء إلا على جمل غامضة  ومعان عميقة لا تفيد علما ولا تبعث حياة - وبالأمس كنت  أتحدث مع طائفة من المتعلمين عن "البيرونى" العالم الاسلامى  الرياضى المتوفى سنة ٤٤٠ هـ وما كشف من نظريات رياضية  وفلكية وان المستشرق الألمانى "سخاو" يقرر أنه أكبر عقلية  عرفها التاريخ فى كل عصوره. وأنه يدعو الى تأليف جمعية لتمجيده  واحياء ذكره تسمى جمعية البيرونى. فحدثنى أكثرهم انه لم يسمع  بهذا الاسم ولم يصادفه فى جميع قراءاته وهو يعرف عن ديكارت  وبيكون وهيوم وجون ستوارت قل كثيرا، ولكنه لا يعرف شيئا  عن فلاسفة الاسلام. ومثل ذلك قل فى الأدب العربى والأوروبى والعلم العربى والأوروبى كل ثقافته العربية فى كتاب القواعد وأدب  اللغة للمدارس الثانوية أن كان قد بقى منها شىء فى ذاكرته

هاتان الطائفتان عندنا، يمثل الأولى خريجو الأزهر ودار  العلوم ومدرسة القضاء، ويمثل الأخرى نوابغ خريجى المدارس  العصرية والبعثات الأوربية. أما الذين حذقوا العربية والعلوم  الاسلامية ونالوا حظا وافرا من الثقافة الأجنبية فأولئك هم الحلقة  المفقودة فى مصر، وفقدانها سبب الركود فى الحياة العقلية والأدبية

ذلك أن الأولين اذا أنتجوا فعيب انتاجهم أنهم لم يستطيعوا  أن يفهموا روح العصر ولا لغة العصر ولا أسلوب العصر، وانما التزموا  التعبير القديم فى الكتابة، والنمط القديم فى التأليف، وتحجرت  أمثلتهم ومل الناس بلاغتهم، وعمادها رأيت أسدا فى الحمام وعضت  على العناب بالبرد، وعشرة أمثلة من هذا الطراز. ومل الناس نحوهم  ومداره ضرب زيد عمرا ورأيت زيدا حسنا وجهه، وسئم الناس  منطقهم، وكله الانسان حيوان وكل حيوان يموت فالانسان يموت  وهذا حجر وكل حجر جماد فهذا جماد - ضجوا بالشكوى لأن الناس  لا يسمعون منهم، وضج الناس بالشكوى لأنهم لا يأتون  بجديد ولا يضعون القديم فى شكل جذاب، ولا يلمسون الحياة  التى يحيونها ولا البيئة التى يعيشون فيها فانصرفوا عن الناس  وانصرف الناس عنهم ورضوا أن يعيشوا فى جوهم الخاص ورضى  الناس منهم بذلك وسلكوا سبيلا غير سبيلهم واتبعوا دليلا غير دليلهم

وأما الآخرون فضعفت ثقافتهم العربية الاسلامية، فلما أرادوا  أن يخرجوا شيئا لقومهم أمتهم أعجزهم الأسلوب والروح  الاسلامى. فلم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة وحاولوا ذلك  مرارا فلم يفهم الناس منهم ما يريدون وسبوا القراء ورموهم بالضعف  والانحطاط، وسبهم القراء ورموهم بالعى وانهم لا يفهمون ما  يكتبون فعاشوا فى أنفسهم ولأنفسهم ورضوا من الغنيمة بالاياب

كان من نتيجة ذلك أن الأدب العربى الاسلامى والعلم  العربى الاسلامى والفلسفة العربية الاسلامية على غناها ظلت دفينة  لا ينتفع بها، تنتظر جبلا جديدا يسيغها ويهضمها ويبرزها في شكل  تألفه الناس، وأن الأدب الغربى والعلم الغربى والفلسفة الغربية  حرم منها أكثر الشرقيين ولم يصل اليهم الا نوع خفيف ينشر  فى المجلات والجرائد وأمثالها يقرؤها الناس ليطردوا بها الضجر  أو يستعطفوا بها النوم، فأما أدب غزير وعلم عميق وكتب محترمة  ومجلات قيمة فقليل نادر

والذي جر الى فقدان هذه الحلقة أن التعليم عندنا سار فى خطين  متوازيين لم يلتقيا، فالتعليم العربى الاسلامى سار في خط، والتعليم  المدنى الحديث سار فى خط آخر، ولم تكن هناك محاولات جدية  لتلاقى الخطين أو ربط بعضهما ببعض

لا أمل فى اصلاح هذه الحال الابالعمل على ايجاد الحلقة المفقودة

وهى تذوق الثقافتين، والاغتراف من المنهلين، واخراج أدب وعلم  وفلسفة غذيت بما للعرب والاسلام من ثقافة، ولقحت بما للاوربيين  من ثقافة ومنهج، فيها اللغة العربية قوية رصينة وروح الاسلام قوية  متينة. وفيها ما للاوروبيين من عرض للمسائل جذاب "نهج" فى  الكتابة رشيق وفيها مقارنة شهية بين ما أنتجه الأولون والآخرون

لو تم ذلك لرأيت التاريخ الاسلامى يعرض على القراء فى شكل  محبوب يقرأونه ويستسيغونه، ورأيت الأدب العربى يقدم  الى الجمهور فى ثوبه الجديد فيألفونه ويحبونه ورأيت الفلسفة الاسلامية  يغاص عليها غوصا عميقا ثم تخرج من أصدافها وتجلى للقراء درة لامعة.

هذا هو السبب فى نجاح رفاعة باشا ومدرسته فأنتجت انتاجا  غذى عصرهم بل كان فوق كفايتهم؛ فقد أرسل رفاعة الى فرنسا بعد  أن درس فى الأزهر وتعمق فى العربية والعلوم الاسلامية فلما حصل  على الثقافة الفرنسية وضع يده على المنبعين فأخرج هو ومدرسته للناس  ما استساغوه وأحبوه ونهضوا به ولم يكن كذلك من لحق بهم  وخلف من بعدهم.

وقد كان أخواننا الهنود أسبق منا الى ايجاد هذه الحلقة والانتفاع  بها. أخرجوا التاريخ الاسلامى فى ثوب جديد على نمط ما يكتبه  الغربيون ولكن بروح اسلامى وكتبوا فى الدين الاسلامى والفقه  الاسلامى بلغة العصر وروح العصر ونظام العصر كما فعل السيد  أمير على والسيد محمد اقبال فقد تضلع هذان العالمان الجليلان من  الثقافة الاسلامية والأوروبية؛ وأشرب قلباهما حب الاسلام  فأخرجا كتبا يقرؤها الشباب المثقف فيحبها ويحب موضوعها  ويستزيد منها، ويقرؤها الشاب المتعلم المتخصص فى الطبيعة  والكيمياء فيجدها تتمشى مع العلم الذى ثقفه والنهج الذي ألفه- وتقرأ للسيد محمد اقبال فتجده يعرض لفلسفة (كانت) فاذا هو  فيها دارس عميق والغزالى فاذا هو باحث دقيق ويقارن بين النصرانية  والاسلام فيكشف عن باحث خبير فيما يكتب ويعرض لشعراء  الألمان كجوته فيحلله تحليلا يدعو الى الاعجاب ويتكلم فى المعتزلة  والصوفية فاذا هو قد تغلغل فى أعماقهم واستبطن دخائلهم ثم عرض  تعاليمهم كما يعرض الاوروبى فلسفة قومه شيقة عذبة لذيذة.

ولكن الهنود يعرضون واأسفاه ذلك باللغة الانجليزية  فلا يغذون جمهورنا ولا يسدون حاجة العالم العربى انما يتغذى الشرق  بهذا يوم توجد هذه الحلقة المفقودة فى العالم العربى كمصر والشام  فيحيي آثار الأولين بأسلوب الآخرين، ويوم يكسر هذا الحاجز  الذى يحجز بين علم الشرق وعلم الغرب، ويوم يلوى الخطان  المتوازيان فيلتقيان.

اشترك في نشرتنا البريدية