استضافني صديق حميم يسكن منزلا ظريفا في ضاحية جميلة من ضواحي القاهرة. فلبيت الدعوة الكريمة، وقضيت في ضيافة صديقي ثلاثة أيام أهنا ما أكون ببشره وترحابه، وظرف منزله، وجمال موقعه الذي يشبه أن يكون روضة من رياض الجنة.
ولو ذهبت أعدد ما أبقت تلك الأيام الثلاثة في نفس من حميد الأثر لطال بي القول؛ ولكني أكتفي بأن أقص على القارئ نبأ حادث طريف شهدته واستخرجت منه مغزى طريفا.
صحوت من نومي صبيحة يوم من تلك الآيام على أزيز طائرة من الطائرات، فلم ألق أول الأمر بالا إلى ما سمعت، إلا أن الأزيز أخذ بشتد ويشتد حتى استحال دويا يسك السمع ويهيج الخاطر، وأحسست كأن جناحي الطائرة يوشكان أن يمسا شرفة المنزل الذي أنزله. هنالك وجدتني بدافع من حب الاستطلاع قد وثبت من الغرفة إلى الشرفة كما يفعل الأطفال في مثل تلك الحال. فإذا طائرة أمرها عجيب! تارة تعلو في الجو حتى تصير في جرم الحمامة، وأخري تهوي هويا، فكأنها التنين المعروف في الأساطير بهول منظره وفظاعة شكله، وفيما بين الصعود والهبوط تأتي بأفانين من الحركة من تحرف ودوران وانقلاب في الجو. ولكني رأيتها -برغم سبحها في الهواء - لا تكاد تعدو محيط بيت معين من بيوت الحي. ولمحت فوق سطح هذا البيت المعين معصما وكفا تلوح بمنديل،
وكلما خفق المنديل جن جنون الطائرة، فهي صاعدة، هابطة، محلقة، محومة، متقلبة في الجو أحيانا، وكل ذلك على نحو آثار عجي وإشفاقي معا!.
قلت لصديقي : إن لهذه الطائرة وهذا المنديل لشأنا. فقال وهو يبتسم: إن الأمر لكذلك. أما الطائرة فلفتى يعمل في سلاح الطيران، وأما الكف والمعصم والمنديل فلفتاة في الحي، خطبها إلي أهلها الفتى الطيار. وكلما خرج الفتى بطائرته للتدريب والمران، راغ إلى هذا الحي فحيا خطيبته وحيته على النحو الذي رأيت.
وأطرقت قليلا ثم قلت في نفسي: لا بأس. ولعل الله جلت قدرته قد تأذن بانقضاء ذلك الزمن الذي كان هم الشبان فيه متى أرادوا الخطبة والتماس الحظوة لدي الجنس اللطيف ، مجرد التأنق في الملبس والزينة، واصطناع الوجاهة وادعاء الغني. ولعلنا قد أخذنا في زمن آخر يقدم فيه الشبان بين يدي خطبتهم النساء مظاهر البسالة وأدلة الرجولة الكاملة، وذلك بفضل السفور وتيسير سبل الجندية، وبث الروح الرياضي في نفوسهم. ولعل الفتاة الحديثة أصبحت من ناحيتها تقدر فيمن يطلب يدها أن يكون شجاعا مقداما، وتضع ذلك فوق مظاهر الجاه والغنى التي طالما خلبت قلوب كثير من أمهاتهن، وسحرت ألبابهن، ثم رأيتها آخر الأمر سرابا لامعا، وبرقا خلبا.
وعاودني طبع المؤرخ الذي يعتبر الحاضر بالماضي، ويقيس الأمور بأشباهها ونظائرها، فذكرت كيف كان شجعان العرب يستمدون العون من ذكر سواحيهم، وهم في مواطن القتال ومواقف النزال، فيخلطون حماسة بغزل وفخرا بنسيب، فيقول عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ويقول آخر والموت منه قاب قوسين أو أدنى:
قد علمت ذات القرون الميل
والكف والأنامل الطفول
أنى أروع أول الرعيل
بغارة مثل قطا الشليل
أبي أروع أول الرعيل
فيتبري له قرنه وهو يرتجز:
قد علمت جارية عطبول لها وشاح ولها جديل
أنى بنصل السيف خنشليل
وذكرت قول نسوة قريش وهن يحرضن رجالهن قبيل الواقعة على الإقدام ويحذرنهم عواقب الإحجام:
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق
وقول أبي فراس الحمداني حاكيا حوارا بين نسوة:
ما أنس قولتهن يوم لقينني
أزرى الحسام بوجه هذا البائس
قالت لهن وأنكرت ما قلن لي
أجميعكن علي هواه منافسي؟
إني ليعجبني إذا عاينته
أثر السنان بصحن خد الفارس.
ولقد حاول الشعراء من شجعان العرب أن يعبروا عن أنهم يؤثرون الشرف ومعالي الأمور على منى النفس وهوي القلب، فحاموا حول المعنى ولم يقموا عليه وقوعا. وقد وفن إلى التعبير عنه بأبسط صورة الشاعر الإنجليزي "لفليس" وكان قد خرج للحرب فبعث إلي محبوبته "لو كستا" بمقطوعة من الشعر الرقيق ختمها ببيت ضمنه
المعنى المذكور، وتمكن ترجمته على هذا النحو:
ولست أحبك حبا كثيرا إذا لم أحب العلى أكثرا
فليكن هذا الشعر شعارا لشبابنا الناهض، وفتياننا الأمجاد.
وكتب الله لصاحبنا الطيار ولمن يحب السلامة والسعادة.

