الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 36الرجوع إلى "الرسالة"

حوادث النمسا

Share

النمسا الجمهورية فى خمسة عشر عاما

-1- فى الثانى عشر من فبراير المنصرم اضطرمت النمسا فجأة  بضرام حرب أهلية خطيرة، واتجهت أنظار العالم إلى هذا الحدث  الأوربى الجديد ترتقب آثاره فى سير الشئون الدولية. وكانت  المعركة عنيفة هائلة ولكن قصيرة المدى، لأنها لم تطل سوى ثلاثة  أيام وكانت حاسمة النتائج والآثار سواء فى الموقف الداخلى أو  فى سير السياسة الأوربية العامة.

ويرجع هذا الفصل السريع الحاسم الى عزم الرجال الذين  يشرفون اليوم على مصاير الجمهورية النمسوية، وعلى رأسهم الدكتور  انجلبرت دولفوس المستشار (رئيس الحكومة) الفنى. وقد تولى  الدكتور دولفوس الحكم منذ عامين (فى أواخر مايو سنة ١٩٣٢)  فى ظروف صعبة تزداد كل يوم حرجاً؛ وفوجئ غير بعيد بخطر  السياسة العنيفة التى اتخذتها الوطنية الاشتراكية الألمانية أو السياسة  الهتلرية إزاء النمسا، ومحاولتها أن تقضى على استقلالها وأن تجعل  منها ولاية ألمانية؛ وأنفق العام الماضى كله في قمع الاعتداءات  المنظمة التى يدبرها الوطنيون الاشتراكيون (النازى) النمسويون  بوحى ألمانيا وإرشادها؛ وأبدى حزماً وشجاعة نادرين فى الدفاع  عن استقلال النمسا، ومقاومة ضغط السياسة الهتلرية، واستطاع  حتى اليوم أن يقضى على كل مشاريعها ومحاولاتها. بيد أن هذا  الخطر ما يزال قائما داهما.

وكان ثمة خطر آخر تواجهه حكومة الدكتور دولفوس وتخشى  منه على النظم القائمة وعلى سلام البلاد ذلك هو قوة الديمقراطية  الاشتراكية النمسوية وتغلغلها فى مرافق البلاد. وكانت الديمقراطية  الاشتراكية تؤيد الحكومة فى نضالها ضد الخطر الهتلرى، ولم يك  ثمة خلاف فى جبهة السياسة النمسوية من هذه الناحية؛ ولكن  المعركة الخالدة بين الجبهة الاشتراكية والجبهة المحافظة كانت تجثم  دائماً وراء هذا التفاهم المؤقت على مقاومة الخطر المشترك؛ وتلك

هى المعركة التى انفجر بركانها فى الثانى عشر من فبراير لأسباب  وظروف ما تزال غامضة. وقد استطاعت الحكومة ومن ورائها  القوى المحافظة أن تخرج من هذا الصراع ظافرة، وأن تقضى  - مؤقتا عل الأقل - على الديمقراطية الاشتراكية النمسوية.  ولكن ماذا سيكون بعد هذا الظفر وبعد اختفاء الديمقراطية  الاشتراكية من ميدان كان لها فيه منذ قيام الجمهورية النمسوية أيما  شأن؟ لقد كانت الديمقراطية الاشتراكية سند حكومة الدكتور  دولفوس فى نضالها ضد الخطر الهتلرى، فالآن وقد حطمت هذه  القوة، فان مهمة الدكتور دولفوس تغدو أصعب وأشق. بيد أنه  يصعب علينا أن نقول اليوم كلمة حاسمة فى نتائج هذه المعركة.  وسنحاول فى هذا البحث أن نستعرض تاريخ الجمهورية النمسوية  منذ قيامها، وأن نشرح العوامل والظروف الداخلية والخارجية  التى تقلبت فيها، والقوى السياسية والاجتماعية التى تتجاذبها،  والاتجاهات المختلفة التى تسيرها فى ميدان السياسة الدولية.

قامت الجمهورية النمسوية فى الثانى عشر من نوفمبر سنة ١٩١٨،  على أنقاض البقية الباقية من امبراطورية النمسا والمجر القديمة،  وكانت امبراطورية النمسا والمجر تسير قبل ذلك بعامين أو ثلاثة  فى سبيل الانحلال والتفكك. وكان الامبراطور الشيخ فرانز  يوسف الذى سهر على وحدتها ومصايرها نحو سبعين عاما قد توفى  فى نوفمبر سنة ١٩١٦، والحرب الكبرى فى إبان اضطرامها  والإمبراطورية القديمة تواجه أخطار الهزيمة والتفكك؛ فخلفه  حفيد أخيه الأرشيدوق كارل؛ ولم تمض أشهر قلائل حتى أخذت  بوادر الإعياء والهزيمة تبدو قوية على الجيش الإمبراطورى.  وأخذت القوميات والأجناس القديمة التى تتألف منها الإمبراطورية  أعنى المجر والتشك والسلوفاك والبولونيين والصربيين والرومانيين،  تتحرك فى سبيل التحرر والاستقلال. وفى أكتوبر سنة ١٩١٨،  أعلنت تشيكوسلوفاكيا نفسها بمؤازرة الحلفاء جمهورية مستقلة برئاسة  الدكتور مازاريك؛ وفى نفس الوقت أعلن الصرب والكروات  خلع الإمبراطور كارل، ونادوا بأنفسهم مملكة مستقلة هى مملكة  الصرب والكروات والسلوفين، أو مملكة يوجوسلافيا وملكها  بطرس الأول ملك صربيا. وقامت خلال ذلك ثورة فى بودابست،  وأعلنت المجر انفصالها عن الامبراطورية وقيامها دولة حرة

مستقلة. وبذلك انتهت إمبراطورية آل هبسبرج القديمة. وفى  أوائل نوفمبر ثارت مدينة فينا بدورها وطالبت الجموع باقامة الحكم  الديمقراطى، فلم ير الامبراطور كارل سوى التنازل عن عرشه  والانسحاب؛ وأعلن قيام الجمهورية النمسوية فى ١٢ نوفمبر؛  واجتمعت فى الثالث عشر جمعية وطنية تولت مقاليد الحكم،  وانتدبت حكومة مؤقتة على رأسها الدكتور رنر الزعيم الاشتراكى،   ودخلت النمسا فى طور جديد من تاريخها.

ويقرر الدستور النمسوى الجديد الذى بدئ بتنفيذه فى نوفمبر  سنة ١٩٢٠ أن النمسا جمهورية اتحادية تتكون من ثمان ولايات  والعاصمة فينا. وهذه الولايات هى النمسا السفلى والنمسا العليا،  وسالتسبورج، وستريا، وكارنتيا، والتيرول، وفورا لبرج  وبور جنلند. ونظام الحكم نيابى ديمقراطى، قوامه جمعية وطنية هى  (الناسيونال رات) وتؤلف بالانتخاب العام، وتتولى التشريع؛  ومجلس الاتحاد (البند سرات) وينتخب من أعضاء المجالس الاتحادية،  وسلطاته أستشارية فقط، وينص الدستور على إلغاء جميع الامتيازات  والالقاب الخاصة وعلى ضمان الحرية الدينية، وعلى المساواة المطلقة  فى الحقوق والواجبات بين جميع السكان. وللجمهورية رئيس ينتخب  لمدة أربعة أعوام ولا يجدد انتخابه أكثر من مرة. ويبلغ سكان  النمسا نحو ستة ملايين ونصف

وقد حددت علائق الجمهورية الجديدة بدول الحلفاء، ومركزها  الدولى بمعاهدة سان جرمان التى عقدت فى سبتمبر سنة ١٩١٩.  وكانت النمسا تريد يومئذ بعد أن فصلت عن باقى أجزاء الإمبراطورية  القديمة أن تنضم إلى ألمانيا؛ ولكن الحلفاء عارضوا فى ذلك أشد  المعارضة. ونصت المعاهدة على اقتطاع جزء من التيرول النمسوى  وضمه الى إيطاليا، وعلى اقتطاع بوهيميا الالمانية وضمها الى  تشيكوسلوفاكيا ونصت على تنازل النمسا عن جميع حقوقها فى  مصر ومراكش والصين؛ وحددت عدد الجيش النمسوى بثلاثين  ألفا ووضعت قيودا شديدة على التسليح الجوى؛ ونصت على حماية  الأقليات، وعلى إلزام النمسا بنصيب من تعويضات الحرب

بدأت النمسا حياتها الجديدة فى غمار من الصعاب، وكانت النظم  الاجتماعية والاقتصادية القديمة قد انهارت وساد الانحلال واليأس  جميع الطبقات والافراد، فكان على النمسا الجمهورية أن تخلق لنفسها  حياة أجتماعية وأقتصادية جديدة، وأن تبرز من أنقاض الماضى

المجيد الى ميدان الكفاح الشاق. وكانت الكتلة الديموقراطية  الاشتراكية هي صاحبة الكلمة فى توجيه مصاير النمسا الجديدة،  فهى التى تولت الحكم على أثر انهيار الإمبراطورية وهى التى عقدت  معاهدة الصلح، وكانت أغلبية فى الجمعية الوطنية التى وضعت الدستور  (سنة ١٩١٩) حيث بلغ عدد النواب الديموقراطيين الاشتراكيين  ٧٠ والاشتراكيين المسيحيين ٦٤ والوطنيين الألمان وحزب  الفلاحين، وغيرهما ٣٠؛ وقد كان هذان الحزبان القويان  القديمان، أعنى الديموقراطيين الاشتراكيين، والاشتراكيين  المسيحيين، هما اللذان يتنازعان الحكم والسلطان فى الجمهورية  الجديدة، والحزب الأول يمثل طبقات العمال وأصحاب المهن  والحرف وله مثل اشتراكية قوية. والحزب الثانى يمثل  أصحاب الأملاك والأموال والفلاحين، ذوى المبادئ والآراء  المحافظة، وتغلب عليه نزعة دينية قوية. وقد لبث تيار الديموقراطية  الاشتراكية غالبا زهاء عامين، وتولى زعيمها الدكتور رنر رآسة  أول حكومة جمهورية فى سنة ١٩١٨، ولما أجريت الانتخابات العامة  للمرة الثانية خرج الديموقراطيون الاشتراكيون بأغلبية جديدة  حيث بلغت كراسيهم ثمانين مقابل ٦١ كرسيا للاشتراكيين المسيحيين  وعاد الدكتور رنر فتولى رئاسة الحكم على قاعدة الائتلاف مع  الاشتراكيين المسيحيين. وكان الائتلاف يومئذ ضرورة تمليها  الظروف العصيبة التى تجتازها النمسا، وكان فى كثير من الأحيان  ضرورة دستورية أيضا، لأن الأغلبية الحاسمة لم تكن لأحد الحزبين  وكان العمل التشريعى يتطلب التفاهم والمهادنة. وفقدت الديمقراطية  أغلبيتها سنة ١٩٢٠، وتولى الاشتراكيون المسيحيون الحكم على يد  زعيمهم المونسنيور أجناس سيبل، وهو حبر وعلامة فى القانون  الدولى، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين لبثوا أقلية قوية تناهض  الأغلبية وتملى عليها إرادتها فى كثير من الأحيان. وكان اكتساح  الحزبين القويين للميدان الانتخابى على هذا النحو يحرم الطبقات  الوسطى من أن تمثل تمثيلا قويا، ويجعل ميدان النفوذ والكفاح  قاصرا على معسكرين يمثل كل منهما ناحية متطرفة من المثل والمبادئ،  بيد أن الطبقة الوسطى كانت أكثر ميلا الى ناحية الديموقراطية منها  الى الناحية الأخرى.

وأنفقت الجمهورية النمسوية اعوامها الاول فى معالجة المشاكل  التى خلقتها الحرب وفروض الصلح، وشغلت حينا بمسألة النقد

وتدهوره. وكان المونسنيور سيبل رجل الموقف، فاستطاع  بكثير من البراعة والجلد أن يعالج مشكلة النقد بالالتجاء الى عصبة  الامم، واستقر النقد النمسوى منذ سنة ١٩٢٣، وأخذت  النمسا تسير فى طريق الانتعاش الاقتصادى، وعولجت عدة مشاكل  اقتصادية واجتماعية مثل: مسألة الأجور وتنظيمها، ومسألة المساكن  وحماية المستأجرين، ومسألة التأمينات والمعاشات، والتشريع  العملى والاجتماعى. وبذل المونسنيور سيبل لتنظيم النمسا الجديدة  جهودا تخلق بالإعجاب. وكان يعتمد فى سياسته أثناء هذه الأعوام  على جبهة موحدة من حزبه، أعنى الاشتراكيين المسيحيين والأحزاب  الصغيرة الأخرى، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كان لهم دائما  فى سير الشئون نفوذ قوى، بل كان هو الغالب فى معظم الأحيان،  وكانت جهودهم خلال هذه الأعوام تتجه إلى تقوية حقوق الطبقات  العاملة وتوطيدها، وإلى مقاومة اصحاب الاموال والصناعات  الكبرى والكتلة المحافظة من الملاك ورجال الدين. وكانت أهم  المسائل السياسية التى واجهتها الجمهورية خلال هذه الفترة مسألتان:  الأولى، مسألة التيرول الجنوبية، والثانية مسألة الاتحاد مع ألمانيا  (الانشلوس) ، فأما الأولى فترجع الى ان معاهدة سان جرمان  قضيت بفصل قسم كبير من أراضى التيرول الجنوبية عن  النمسا وضمها الى إيطاليا، وفيها نحو مائتى ألف نمسوى. وعبثا  حاولت النمسا أثناء مفاوضات الصلح أن تقنع الحلفاء بتعديل هذا  النص والإبقاء على حدود النمسا الطبيعية. وقد ازدادت هذه المسألة  أهمية وخطورة حينما اشتدت وطأة النظم الفاشستية على أهل التيرول  وأخذ السنيور موسولينى فى حرمانهم شيئا فشيئا من اخص حقوقهم  القومية والجنسية، وفرض عليهم اللغة الإيطالية فى المدارس والكنيسة  ولم يدخر وسيلة لسلخهم عن الكتلة الجرمانية وإدماجهم فى الكتلة  الإيطالية. عندئذ حاولت النمسا أن ترفع صوتها بالاحتجاج على  هذه السياسة، وقامت الصحف النمسوية والألمانية عامة بحملة  شديدة على ما تنزله الفاشستية بأهل التيرول من ضروب الظلم  والارغام؛ ولوح الرجال المسئولون فى النمسا وألمانيا بإمكان طرح  المسألة على عصبة الأمم تطبيقا لما تنص عليه معاهدات الصلح المختلفة  من حماية الأقليات القومية. ولكن السنيور موسولينى أنكر هذه  التهم، وسخر من تدخل العصبة ونوه بما تسبغه الحكومة الإيطالية  على رعاياها الجدد من ضروب الرعاية والمعاونة، وأكد أن التيرول

الجنوبية ضرورية لسلامة إيطاليا، وأن إيطاليا لن تنزل عنها قيد  ذرة. وانتقد الشعب النمسوي موقف المونسنيور سيبل في هذه  المسألة ورماه بالتردد والضعف، ولكن سيبل لم ير سبيلا للعمل  الإيجابي إزاء وعيد موسوليني: ولم تستطع النمسا أن تحمل إيطاليا  على تغير شيء من سياستها وخططها في التيرول، ولبثت المسألة مثاراً  لسوء التفاهم بين البلدين مدى حين، وما زالت على حالها لم يتخذ بشأنها  أي إجراء لإنصاف أهل التيرول.

وأما المسألة الثانية وهي مسألة اتحاد النمسا مع ألمانيا  Anschiuss فقد لبثت مدى أعوام ظاهرة بارزة في السياسة  النمسوية. وهي أمنية قديمة لدعاة الجامعة الجرمانية ترجع إلى أواخر  القرن الماضي، وكانت قبل الحرب من غايات السياسة الألمانية،  ولكنها لم تتخذ في النمسا الإمبراطورية أية أهمية، ولم يكن لها سوى  أنصار قلائل بين شبيبة هذا العصر، فلما انتهت الحرب بانهيار  الإمبراطورية القديمة وتمزيقها، وفصلت النمسا عن باقي وحداتها  وشعرت النمسابمخاطر ضعفها وعزلتها عن باقي الكتلة الجرمانية،  ورأت في اتحادها مع ألمانيا شقيقتها الكبرى خير سبيل لضمان مستقبلها  السياسي والاقتصادي وأعربت النمسا فعلا عن هذه الأمنية لدول الحلفاء  على يد مندوبيها في مؤتمر الصلح تطبيقا لمبدأ الرئيس ولسون في حرية تقرير  المصير، ولكن الحلفاء عارضوا في تلك الخطوة أشد المعارضة كما  قدمنا، لأن اتحاد الأمتين الجرمانيتين على هذا النحو يقوي ساعد  الكتلة الجرمانية في أواسط أوربا، ويجعلها اشد خطراً وأبعد نفوذاً،  ولما بدأت النمسا الجمهورية حياتها الجديدة، وآنست كل ما يعترضها  من الصعاب السياسية والاقتصادية المترتبة على فصلها وعزلتها وتمزيق  معاملاتها وعلائقها القديمة، عادت فكرة الاتحاد مع ألمانيا تبدو  لها كعلاج ناجع، وكان الفريق المتطرف من أنصار الفكرة يرى  أن يكون هذا الاتحاد تاما من جميع الوجوه السياسية والاقتصادية  أو بعبارة أخرى يكون نوعا من الاندماج العام، ويرى الفريق  المعتدل أن يكون هذا الاتحاد اقتصاديا قبل كل شيء يقرن بتوحيد  الخطط السياسية العامة، ولكن تبقى النمسا محتفظة بشخصيتها  واستقلالها الداخلي. بيد أن الفكرة كانت تلقى على وجه العموم  تأييداً كبيراً من الشعب النمسوي، وكان أنصار الجامعة الجرمانية  في البلدين يروجون لها بالدعاية الواسعة، وكانت تقام من أجلها  المظاهرات في العاصمة النمسوية من آن لآخر، وتشجعها الحكومات

النمسوية المختلفة. وكانت الديموقراطية الاشتراكية مع ذلك تشك  في قيمة هذا الاتحاد وتخشى منه على مستقبلها وحقوقها إذا ما انتهى  بالقضاء على استقلال النمسا بيد أنها لم تعارضه بطريقة إيجابية،  وكانت تؤيد جانبه الاقتصادي على الأقل، خصوصا وقد كانت  الديموقراطية الاشتراكية الألمانية يومئذ صاحبة النفوذ والسلطان  في ألمانيا. واتخذت أول خطوة عملية لتحقيق مشروع هذا الاتحاد في  سنة ١٩٣١ حيث عقدت النمسا مع ألمانيا اتحاد اقتصاديا جمركيا،  وكان المفهوم أنه أول مرحلة فقط، ولكن دول الحلفاء، ودول  الاتفاق الصغير، احتجت كلها على هذا الاتحاد بمنتهى الشدة. وانتهى  الأمر بسحبه وإلغائه، وأدركت النمسا مرة أخرى أنه لن يسمح  لها بالاندماج في الجامعة الجرمانية الكبرى.

وكانت فكرة الاتحاد النمسوي الألماني ما تزال قوية في النمسا  حينما تولى الوطنيون الاشتراكيون الحكم في ألمانيا في يناير سنة ١٩٣٣  وأخذوا يعملون لتحقيق برنامجهم، والمعروف أن العمل على تحقيق  وحدة الشعوب الجرمانية في مقدمة المبادئ التي يحتويها برنامج  الهر هتلر، وليس من ريب في أن ضم النمسا لألمانيا هو أهم عناصر  هذا المشروع، وكان المفهوم أن ظفر الوطنية الاشتراكية بالحكم  في ألمانيا يقرب أمد هذه الغاية، ولكن سرعان ما ظهرت الوطنية  الاشتراكية الألمانية في ثوبها الحقيقي، مسرفة في العنف والطغيان  وسرعان ما أخذت الحكومة الهتلرية تتدخل في شئون النمسا  وتعاملها بخشونة وغلظة كأنها ولاية تابعة لألمانيا. وهنا أدرك  الشعب النمسوي حقيقة لم يقدرها في البداية حق قدرها، وهو أن  أنصار الجامعة الجرمانية لا يفهمون من الاتحاد إلا أنه قضاء على  كيان النمسا كأمة مستقلة أو بعبارة أخرى ضم النمسا لألمانيا  كولاية ألمانية. وشهد الشعب النمسوي في دهشة وسخط كيف  تتجنى ألمانيا الوطنية الاشتراكية على النمسا، وكيف يحاول الدعاة  الهتلريون أن يضرموا في النمسا نار الحرب الأهلية لكي تقضي على  وجودها، وشهدت الديموقراطية النمسوية من جهة أخرى كيف  قضى الهتلريون على الديموقراطية الألمانية في غمر من العنف المثير:  عندئذ انهارت في الحال فكرة (الاتحاد) (الأنشلوس) ، وظهرت  للشعب النمسوي في روعة خطرها وخطئها، وقضت حكومة الدكتور  دولفوس ومن ورائها سواد الشعب ترد عدوان ألمانيا الهتلرية،  وتعمل لحماية الاستقلال النمسوي بكل ما وسعت من جهود.

للبحث بقية

اشترك في نشرتنا البريدية