الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثامن عشرالرجوع إلى "الرسالة"

حول الاشعاع النفسى

Share

قرأت بأعجاب هذا المقال الممتع الذى دبجه يراع أستاذنا  الكبير أحمد أمين عن النفوس واشعاعاتها الغامضة المعقدة التى تشعر  بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، والتى تختلف باختلاف النفوس  وتتعدد بتعدد نواحيها وطبائعها، فملك على هذا البحث مشاعرى  وألقى بى فى ذلك العالم الروحى الذى يقوم وراء هذا الحجاب  الكثيف من المادة، حتى خلت نفسى أسبح فى عالم من الأرواح  أو أن حجرتى كما يقول الأستاذ "ملايين وأكثر من الملايين  من إشعاعات نفسية تشع من السماء ومن الأرض ومن النفوس  البشرية ومما لا يعلمه الا الله"

على أننى ما كدت أعود الى هذا العالم المادى وأقرأ المقال  بعين الناقد المتدبر وأتحلل من هذا التأثر العميق بشخصية الأستاذ  الكبير حتى أدركت السبب الحقيقى لهذا الأثر النفسانى الذى  يعزوه الأستاذ إلى أشعة تنبعث من النفوس والعقول "لا تقل  جمالا عن "إشعاعات النجوم والكواكب" وتختلف فى القوة، أشد  من اختلاف المصابيح الكهربائية، يقول الأستاذ: "إن هذا  الأشعاع هو السر فى أنك تلقى عظيما فيملؤك أثرا ويملؤك قوة بهيئته،  بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته، بإشاراته، بهزة رأسه، بحركة  يديه، فكأن فى كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا  كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا، قد لا يحدثك طويلا وقد لا يكون  لكلامه فى الواقع قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيى روحك  وتبقى رنات كلماته فى الأذن الأيام والليالى تعمل عملها فى هدوء  حينا وعنف حينا" - كلام بديع يستهوى اللب ويخلب العقل  ولكنك اذا أعملت فيه الروية والعقل وباعدت بين نفسك وبين  أسلوب الأستاذ الأخاذ وشخصيته الجذابة أدركت غير ما يدرك،  ووقفت على سبب آخر لهذا الأثر النفسى الذى يسميه الأستاذ  أشعاعا ونسميه نحن: "شعورا بالعجز والضعة" ، وذلك إن الانسان  لا يتأثر بعظمة عظيم، ولا خطابة خطيب، ولا حديث محدث، الا لسبب  واحد لا ثانى له، وهو شعور بعجز نفسه وانحطاطها عن مستوى  هذا العظيم، وهذا الخطيب وهذا المحدث، قد يكون عاجزا أو ضعيفا،  وقد يكون قويا أو رفيعا، ولكن شعوره بعجزه وضعته هو على كل  حال السبب الوحيد فى اكباره للعظيم وتقديسه للخطيب وأنصاته  للمحدث وتأثره بغيرهم من الناس.

قد تكون درة عمر أهيب من سيف الحجاج لدى الناس، ولكن  السبب فى ذلك لا يرجع الى أن أشعة قد انبعثت من نفس عمر فغمرت  الناس بموجة من الجلال والعظمة. وأن أشعة من نفس الحجاج  قد غمرت أجسام الناس بالخوف والرهبة، ولكن السبب هو أن  الناس كانوا يشعرون بشيء من الاستكانة أمام بطش عمر وجبروته،  فاذا ما ذهبوا يحاولون النيل منه وتلمس سيئاته لم يستطيعوا الى ذلك  سبيلا، لأنهم يجدون فيه الرجل المتمسك بالشريعة الذى لا تصدر  أفعاله عن هوى، وإزاء هذا الشعور بالعجز المضاعف أمام هذه  الشخصية يحس الناس بشىء من الخشية المشوبة بكثير من التعظيم  والأجلال. أما الحجاج فكان الناس يشعرون بكثير من الخوف  والهلع أمام سيفه نتيجة لشعورهم بالعجز عن مجاراته فى أسباب  بطشه للسلطة المخولة له عليهم، ولكنهم من جهة أخرى كانوا يستطيعون  إحصاء ما كان يقترفه من السيآت والمنكرات، وما كان يقدم عليه  من الأجرام والظلم، وهكذا كانوا يخافونه ويرهبوا جانبه لشعورهم  بالعجز عن مقاومته، ولكنهم كانوا فى الوقت نفسه يكرهونه ويشتد  مقتهم له لاعتقادهم بأنه متخلف عنهم فى الرحمة والعدل والأنسانية،  وبالجملة فإن عمر والحجاج لم تنبعث من نفسيهما أشعة تؤثر فى  الناس، ولكن الناس هم الذين خلقوا هذا التأثير بهذا الشعور السلبى  الذى استولى على نفوسهم، ولو أن حياتهم الاجتماعية والسياسية  كانت تصبغهم بغير هذه الصبغة، ولو أن شعورا بالقوة والعظمة  والرفعة استولى على نفوسهم لما ملأت نفوسهم عظمة عمر وجلاله،  ولما ضربت عليهم الذلة والمسكنة وانكمشت قلوبهم خوفا ورعبا  من الحجاج وسيفه وصولته.

قال الأستاذ: "وحدثنى من أثق به أن الأستاذ جمال الدين  الأفغانى كان يرتطن عجمة ولم يكن فصيح اللسان، ولا سلس القول،  ولكن تجلس فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ،  لأنها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضىء أحيانا،  ويدفع للحركة أحيانا" - وهذا أيضا - ينضوى تحت لواء ما قلناه،  فقد كان المصريون فى أيام الأستاذ جمال الدين بعيدين عن هذه  الحرية الفكرية الغربية، وان كان بعضهم يطمح اليها ولا يجد فى  هذا الجو المصرى الخانق الرجعى مسعفا له على بلوغ مأربه، فلما  حط الاستاذ رحاله فى هذا البلد، هرع اليه بعض من هذه الفئة  العطشى، ولشعورهم بالعجز فى مضمار الفلسفة وما اليها مما كان  يلقيه عليهم الأستاذ جمال الدين، ولموقفهم منه موقف الطلبة من  أستاذهم كانوا يشعرون برهبة ورغبة فى مجلسه، وتبدو لأعينهم  وقلوبهم هذه التعاليم الجديدة التى يتلقونها نارا تلهب النفس وتشعلها

وتتأجج فى جوانبها حتى لتدفع بها الى الثورة، ولو كان فيهم رجل  يأنس من نفسه قوة تدفعه الى الوقوف مع الأستاذ موقف الند للند،  لا الطالب أمام معلمه لتغيرت الحال وأحجم الأستاذ أحمد أمين عن  أن يضرب هذا المثل للتدليل على وجود هذا الأشعاع النفسى  موضوع مقاله.

وان اختلاف تأثير الخطيب باختلاف السامعين والممثلين باختلاف  النظارة، لينهض دليلا على ما نزعمه من أن تأثير الاشخاص فى  بعضهم ليس مرجعه الى قوة نفسية تشع من نفس الى أخرى فتؤثر  فيها تأثيرا قويا أو ضعيفا، حسنا أو سيئا، ولكن هذا يرجع الى شعور  النفس المؤثر فيها بتخلفها "بحكم طبيعتها أو العوامل المحيطة بها" -  عن النفس التى أثرت فيها فى الخطابة أو الكتابة أو ما شاكل ذلك.

من هذا كله نستطيع أن نقول اننا لا نتأثر بعظيم فنرهبه ونرتعد  من الخوف بين يديه، أو خطيب فنصفق له ونحمله على الأعناق، أو  محدث فنرهف آذاننا له ونعجب به، الا لأننا قابلنا العظيم وفى قرارة  نفوسنا من شعور بسموه عنا، وسمعنا الخطيب ونحن نشعر بأننا  عاجزون عن الوقوف مثل موقفه، والتعبير بمثل تعبيره، وأنصتنا  الى المحدث وقد غمرنا شعور بالقصور عن لباقته، أو مجاراته فى  حججه، أو الإتيان بمثل حديثه الذى يحمل بين طياته من المذاهب  الجديدة والعلوم الحديثة ما نجهل. وليس هذا الأثر ناتجا من صدور  أشعة من نفس العظيم أو الخطيب أو المحدث الى نفوس الناس.

وخلاصة القول اننا لا نقول بحدوث تأثير المؤثر من قوة إيجابية  تنبعث، ولكنه يكون بشعور سلبى أو قوة سلبية يحس بها المؤثر  فيه حتى ليتوهم أنها آتية اليه من خارج نفسه، والحقيقة أنها تصدر  عن نفسه وتنبع منها.

الاسكندرية

اشترك في نشرتنا البريدية