الدنيا تتغير والظروف تتبدل وليس لها إلا أن تتغير وتتبدل لأن الكون لا ينبغي له أن يستقر على حال . هذه حقيقة بديهية تبدو تافهة لأن الجميع يعرفونها ويحسونها ولا حاجة بهم إلى من يذكرهم بها . ولكنها مع ذلك حقيقة خطيرة يجب علينا أن نجعلها دائما نصب أعيننا وأن نرددها لأنفسنا ويبثها بعضنا إلى بعض كلما أردنا أن نفكر في حاضرنا وفي مستقبلنا . الدنيا تتغير حقا سواء أردنا أو لم نرد وسواء رضينا أو سخطنا ، فإذا شئنا أن نستحق الحياة كان علينا أن نعرف حقيقة التغير الذي طرأ علينا وأن نهيئ أنفسنا لتغير آخر نستقبل به الأجيال الجديدة التى لا تتوقف عن الزحف لحظة واحدة .
كانت حياتنا منذ عهد غير بعيد يغلب عليها ما يمكن أن نسميه الاستقرار إذا أردنا أن نختار له وصفا حسنا ، كما يمكن أن نسميه الجمود والخمود إذا أردنا أن تختار له وصفا قبيحا . كانت تلك الحياة الماضية تعترف بعض القيم الثابتة
ولا تتسامح في شئ يهدد بالعبث بها ، ولا ترضى عن أحد يحاول أن يناقشها أو يراجع في أمر يتصل بها .
كان كل شئ في مستقره وكل وضع قائما على أساسه الرأسخ ، لا يظن أحد أن في الإمكان زحزحته عن موضعه قيد شعرة . كان للأسرة بناؤها الثابت والمرأة حدودها الراسخة وللشرف أصوله المعروفة .
وكان لفضائل الأخلاق معاناها الواضح : العفة ، الغيرة ، الكرم ، الشهامة ، الإيثار ، التواضع ، الأمانة ، الجميل ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التقوى ، وغير ذلك من المعاني . ولكن واأسفاه كانت كل هذه القيم لا تزيد على مثل عليا نجلها ونقدسها ونخشى أن ينالها السوء علنا ، كأنها آلهة جبارة نعبدها ونرهبها ونصلي لها لأننا نخشى عقوبتها . ثم تعاقبت عليها السنوات وتبدلت الظروف وتغيرت الدنيا ، وأخذ الناس يضيقون بالحدود والقيود ، وبدأ المتمردون من أهل الفكر يجادلون ويناقشون ، وجهر بعضهم بما في نفسه
من الشكوك ، وحسب الناس أن هذه المجادلة قد تؤدي آخر الأمر إلى إزالة الرهبة وإحلال المحبة في مكانها ، وظن المتفائلون أن القيم المستقرة تستعبد الضمائر ولا تسمو بها وأن مناقشتها تؤدي إلى نفض الغبار عنها وإزالة النفاق عن الضمائر ، فتصبح بعد حين أكثر إدراكا لحقائقها ، وأصدق إيمانا بها ، ولكن واأسفاء مرة أخرى ! فما هو إلا أن تجرأ التمردون من أهل الفكر على تلك القيم الثابتة ، وما هو إلا أن نادوا بالنحرر والانطلاق حتى تدفق الشك إلى كل ما كان الناس يؤمنون به ويخشون المجادلة فيه ، ولم تلبث القلوب أن كفرت بكل القيم التى ظلت مسيطرة عنها قرونا طويلة . وبدأت تتهمها بأنها السبب في تأخرنا والقعود بناء عن مسايرة الأمم الأخرى . وانتهى بنا الأمر إلى أن هدمنا كل المثل التي كنا نتمسك بها كما يهدم الوثني إلهه في ساعة من ساعات الحنق إذا لم يجده قد استجاب لدعائه .
هدمنا ما ورثناه عن أجدادنا ولكنا لم نقم في مكانه بناء جديدا يصلح لحياتنا الجديدة ، وأصبحنا في العراء لا يجد ملجأ قديما ولا حديثا .
هذا ما آل إليه أمرنا بعد طول المجادلة والناقشة في مثلنا القديمة وفي تراثنا وتقاليدنا المستقرة ، وصرنا معلقين في الفضاء لا نجد شيئا نطمئن عليه بأقدامنا . هذا هو مبعث القلق الذي نحسه من حولنا أنى اتجهنا ، وهذا هو سر ما نسمية اليوم انحلالا وتقهقرا ويشيع الأسى والغم في نفوسنا .
وهكذا نجحنا في التحرر من القيود القديمة وانطلقنا وراء الحدود المحترمة ، ولكنا لم نجد أمامنا غاية مقصودة ولم نعرف لحياتنا معنى . فما هى الغاية التي نحيا لها ، وما هى المعاني التي لا نجد للحياة قيمة بدونها ؛ أصبحت الأنانية هى الغاية وهى المعنى : المتعه والسلطان واحتيال الفرصة وانتزاع الخيرات من بين الأيدي المتزاحمة ، والاصطدام والصراع . لا ينظر الناس إلا إلى ما تحت أقدامهم ليلتقطوا من الأرض قطعة من ذهب ، فإذا رفعوا رؤوسهم عن الأرض لم يبحثوا إلا عن وجه يجدون فيه متعة للجسد . وما كان هذا هو
الذي قصد إليه المفكرون المتمردون عند ما بدأوا يناقشون القيم القديمة ويجادلون في الحدود المستقرة .
ولكن الدنيا تتغير والظروف تتبدل . وليس في هذا السكون ما ينبغي له أن يبقى ثابتا أبدا ؛ وإذا كانت المثل القديمة الثابتة قد تزعزعت حتى انهزمت وتحطمت أو كادت ، فإن هذا الاضطراب الذي صرنا إليه لا يمكن أن يبقى . بل لقد أخذ المفكرون التمردون من الأدباء مرة أخرى يتناولون هذه الحالة التي صرنا إليها تناولا عنيفا ، وبدأوا يصورون ما فيها من تفاهة ومن سخف ومن عفن وسم، وبدأوا يكشفون الستار عما تحت المظاهر البراقة من آلام وشقاء وقبح .
فإذا كنا بالأمس قد بكينا مع الأدباء المتمردين من قسوة السيطرة ومن الخضوع الأعمى للقيود والحدود ، وإذا كنا بالأمس قد سرنا أول الشوط نبكي مع الأدباء البكائين العاطفيين من تقل الركام القديمة ، وننشد التحرر من تحتها ، فإننا اليوم في بدء نهضة جديدة في الفكر والوعي . وها هو ذا موكب الأدباء المتمردين يستأنف السير مرة أخرى في شوط جديد .
ولكن هذا الأدب الجديد لا يبكي ولا يشكو ، بل هو صنف جديد من الأدب الحانق الساخر القاسي الذي يضرب في عنف ولا يتردد . ها هو ذا الأدب الجديد يغوص في الحياة المضطربة المنحلة التي صرنا إليها ويندس إلى أغوار ما فيها من أنانية وقذارة وبشاعة ، ويحاول أن يجادل فيها ويناقش على أسلوبه الخاص ، بل إنه لا يناقش ولا يجادل ، ولكنه يمسك بتلابيب هذه الحياة الفاسدة ويهوى عليها بالسياط بعد أن يجردها من ثيابها .
ولعلنا نضرب لهذا الأدب بعض أمثلة من انتاج النوابغ من أدبائنا الشبان لتظهر شيئا مما نقصده بهذا الحديث العام تحية منا لهذه النهضة الرائعة في أدبنا .
