الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 64الرجوع إلى "الرسالة"

حول ١٤ سبتمبر

Share

دعوت الله الا أرى القاهرة في الرابع عشر من سبتمبر.  وكنت مقيماً بين مزارعي وشواغلي إلى الثاني العشر منه، فجد لي  عمل هام يقتضيني سفراً اليها قد يستغرق يومين أو ثلاثة.

لست أكره الذكرى، بل أعمل لها، وعقيدتي أن ذكريات  المحن كذكريات المنح في نتيجها. لانها تشحد العزائم وتبعد  تكرار الأخطاء، وليست ذاكرتي بالضعيفة، وأنما تعذبني في  الواقع بشدة أحساسها، ولكنما خيل إلى أن أعصابي لا تحتمل  شنهود العاصمة المحبوبة في ذلك اليوم!!! كبر على أن أشهد المدينة  القاهرة الزاهرة التي عاش أهلها في طهارة الأستقلال وعزه،  يعيشون منذ ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨١ غارقين في رجس  الأحتلال وذله ...

ما كدت أصل القاهرة مساء الثاني عشر من سبتمبر حتى  أستعرضت برنامج عملي على أن أعجل منه ما أستطيع وأرجىء منه  ما لا يضيره إرجاء. فلما أصبحت أسرعت إلى عملي وفرغت منه.

في نحو العاشرة صباحاً، وذكرت على التو أن قطاراً يغادر القاهرة  إلى بورسعيد في الحادية عشرة، وفي هذا زوال ما أخشى.

وازمعت السفر لأعود بأسرتي من المصيف وقد قرب أفتتاح  معاهد الدرس، وخيل ألي اني سأتلافى بسفري جواً خانقاً ويوماً  من الدهر حانقاً!. .

سيتحقق إذن ما تمنيت على الله، فلا أكون بالقاهرة يوم  تشرق شمس جاء أصيلها على البلاد بمحنة المحن. فإذا جيش  الأحتلال يدخل قلب البلاد، وإذا نائب عن الخديو يلازم  الجيش!!. . . وهل شر من احتلال أجنبي يظله اضطراب لا يستقيم  معه فكر، ولا يتسق وأياه منطق؟!!.

الفكونت ولسلي يرفع لأنجلترا في مصر راية: وسلطان  باشا يؤمن تلك الراية باسم الخديوي!. وأين عرابي وأين الجيش؟  وفيم كانت الحرب؟ وأي فكرة تنطبع في ذهن البلاد لصورة  هي التناقض بذاته فوق ما تحمل من عار؟.

والله ما ابتلى شعب بمثل ما أبتلى به شعبنا في ميداني المادة  والمعنى، ولولا أن الشعب كان قوياً بدينه وتقاليده، عظيماً بآثار  المحن الغابرة في عزائمه، عزيزا بكرامته، لنالت منه الأحداث  أضعاف ما نالت، ولو حلت بغيره لأفنته.

جلست في القطار أتسلى بالقراءة، واتفاقاً بدأت بكتاب  صغير اشتريته من (كشك) ليفاداس بالمحطة - مؤلفة فرنسي -  والكتاب عن حصار (باريس) سنة ١٨٧٠.

أخذت اقرأ وفي نفسي أني واجد في وطنية الفرنسيين  الهائمين بعاصمتهم وبمجدهم، وفي كفاءة الألمان وحسن تنظيم  جيوشهم خير عبرة وتسلية. ولقد أجاد المؤلف في المقدمة، وفي  وصف الحالة العامة، ثم إذا به فجاة يتكلم عن باريس في ١٩ سبتمبر،  فيصف الطوارىء، وحالة الرأي العام وصعوبة التموين، وضعف  خطوط الدفاع!.

إذن ما زلنا في شهر سبتمبر! ولا زالت هناك سلسلة من هموم  في ثناياه إذا خلفتها في القاهرة ذكرتها عن باريس في محنة مماثلة!  وفي المثل: يؤتى الحذر من مأمنه.

ما عتمت أن تمثلت بالكلمة الخالدة التي أنتزعتها من فم الرجل

الحزين سيدنا كعب بن مالك - خطاب عاهل غسان إليه، فقلت  معه رضى الله عنه: (وهذا أيضاً من البلاء)(1)

يقول المسيو(سارسي) مؤلف (حصار باريس) بعيد  إعلان الجمهورية: (وبينما يشتد ضغط الجيش البروسي وتتوالى  انتصاراته وتكتمها الحكومة عن الشعب كنت كثيراً ما تسمع  واحداً يقول لرفيقه: (إنهم لن يجرؤا على دخول باريس ما دمنا  حصلنا عليها) أي ما دمنا أعلنا الجمهورية فلن يجرؤ البروسيون على  فتح باريس.)

وهكذا تلهى الباريسيون بأعلان جمهوريتهم عن الغرض الأساسي وهو حماية باريس من هجوم الأعداء.

أو لم نصب بهذا يوم أطلق سراح المرحوم سعد باشا زغلول  وصحبه. ويوم ذهب اللورد ملنر يفاوض الوفد، ثم يوم أعلن  الدستور سنة ١٩٢٤ ففترت ثورتنا وتشتت شملنا؟

كان لأحد أدباء باريس في ذلك العهد غرام بجمع المؤلفات  الأدبية ذات الغلاف الأنيق. فأقتنى منها ما يعد ثروة ضخمة  رتبها في منزل بجوار باريس. ثم صدق ما كانت تردده الصحف  من أستحالة باريس على الهاجمين فمضى في تنسيق تراثه.  ثم إذا به بين يوم وليلة يتحقق أن الصباح قد لا يشرق الا مغبراً  بخيل العدو. أسرع بما استطاع حمله، وأوى إلى أول فندق ثم  أستراح الراحة الأبدية، فقد وجدوه ميتاً في بكور الصباح. وكان  بذلك مجدود الحظ سعيداً. فلم يرسنا بك الأعداء في العاصمة الحبيبة.

وإذن لست أول الناس في هذا الشعور الذي أقض مضجعي  قبيل ١٤ سبتمبر ولو أني لم أحظ بنصيبه، فلعل الله يريني يوماً  ميموناً بالخلاص.

أغرق اهل باريس في تحية الحكومة الجديدة بقدر ما  أسرفوا في الطعن على الأمبراطورية وما جرت من ويلات، حتى  رسخ في ذهن الجمهور أن بروسيا لا تحارب فرنسا، ولكنها تحارب  الأمبراطورية.

وقد يعجب القارئ إذا علم أن الأمبراطورية التي باتت مثالاً  للشقاء في أعين الفرنسيين هي النظام بذاته الذي تأيد بثمانية ملايين  من أصوات الناخبين قبل ذلك بشهر.

ولقد كان موقف نابليون الثالث شبيهاً بموقف عرابي باشا،  ولعل الخير كل الخير كان في أن يموتا في ميدان القتال

ليست العبرة فيما ينفع أنه يرضى الناس بادى الرأى، وأنما  العبرة في أن يكون نافعاً وكفى. ولا بد من تعويد النفس احتمال  الكروب في سبيل العقيدة، وثبات العزم على صحيح الرأي.

الف الجنرال (تروشي) في عهد الأمبراطورية كتاباً نقد فيه  حالة الجيش وخطوط الدفاع من الوجهة الفنية نقداً أغضب  الأمبراطور ورجال ذلك العهد حتى أضروه بسببه.

فلما حوصرت باريس وبدا الضعف واضحاً في خطوط التحصين  عادت بالشعب ذاكرته إلى الجنرال المؤلف والى كتابه، ووصل  الرجل وكتابه إلى الذروة، ولكن الوقت لم يكن يسمح يومئذ  بتنفيذ شىء مما أشار به.

ولا بد لنا - لأحاطة أخلاقنا بسياج يقيها العثرات - أن  نرجع البصر إلى خطوات الماضي، والى عظات من سبقونا من  رجالات مصر - فذلك كفيل بحسن التوجيه.

شىء من الثبات، وعود إلى آدابنا القومية، وتقاليدنا الشعبية،  وشىء من الشجاعة الأدبية، لنقول للمخطىء أخطأت، وللمصيب  أصبت.

جعل الله لنا في الماضي عظة، وفي الحوادث عبرة. وجمع  على الحق شتاتنا إنه كريم مجيب،

اشترك في نشرتنا البريدية