الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسع عشرالرجوع إلى "الرسالة"

حياة الانسان

Share

حياة الإنسان منقسمة إلى أربعة أطوار: الطفولة والشباب،  والرجولة والشيخوخة، ولطالما أشتد الجدل وما يزال يشتد بين  البشر لمعرفة أى هذه الأطوار يكون الإنسان فيه أسعد حالا وأهدأ  بالا وأشد تفاؤلا؟ ويلوح لنا أن الناس يجمعون أو يكادون يجمعون  على تفضيل الرجولة على الشيخوخة، والشباب على الرجولة، والطفولة  على الجميع، والحق الذى لا مراء فيه أن لكل طور من أطوار الحياة  لونا من السعادة يناسبه ويلائمه، ولكل طور نظر إلى الحياة مغاير.. وهب أن ليس هناك ما هو أهنأ من الطفولة المرحة فمن منا يود أن  يظل طيلة حياته طفلاً؟ فنحن الذين نغبط الأطفال هناءهم ونذكر  فى أسى تلك السعادة البريئة الماضية التى تفيأنا ظلالها وأحتسينا  راحها ونعمنا بزنبقها وآسها أيام كنا أطفالا نرتع ونلعب، لنرمق  فى حزن عميق أولئك التعساء الذين تطول بهم الطفولة إلى غير  نهاية، وإن سرورهم نفسه ليحرك فينا عاطفة الرحمة والإشفاق.  نحن نرثى لهم لأنهم لما يلمسوا ما هم فيه من بؤس وشقاء، فهذه  السذاجة التى يطول عمرها، وهذه الغرارة، وهذه الغباوة، وهذا  الاستخفاف بآلام الغير ليبدو لنا أعظم الآلام. فليست السعادة  منحصرة فى قيام لذة او فى انعدام ألم، ولكنها فى استغلال القوى  التى خص بها الإنسان استغلالا مشرفاً معقولاً..!!

يجهل الطفل الحياة جميعها ولا تكاد تنصب رغائبه إلا على التافه  من الأغراض، ومع إننا نعجب بهذا الطور وما حواه من سذاجة  ومرح وتدلل فنحن لا نأسف عليه أسفاً حقيقياً، ولا نرضى عن  طواعية واختيار أن نستعيده ثانية، ويحب الشباب من الحياة ما يحبه  الرجل، ولكنه لا يتبع سبيله، ولا يسلك منهاجه، ومعرفته وآراؤه  قريبان من معرفة الرجل وآراؤه، وليس الفرق بينهما عظيماً كما نراه  بين الطفولة والشباب، وميزة الشاب عن الرجل أن رغائبه ما تزال  فى نضارتها وقشوبها، فالمستقبل مفتر له باسط ذراعيه،  والأمل لابد ماليء جوانب قلبه، وناشر على أحزانه النادرة طبقة من  السرور على أهبة أن تسفر وتتلألأ، وإذ لا عهد له بعقبات الحياة  وتكاليفها، فهو أبداً سخي وشجاع، وما لم يكن قد خدع إلا نادراً  كان ناصح الدخيلة، سليم الطويلة، يصدق الرواة ويثق بالظروف،

ولما كان عمله فى المعهد أو المصنع لا يتجاوز بضع ساع من النهار  كان لديه وقت من الحرية والفراغ طال أو قصر يتسنى له خلاله أن  يتذوق لذة الاستقلال قبل أن ينوء به عبء التبعة ... غير أن زمن  اللذة قد ولى وأدبر وبدأت حياة الجد والكفاح، وحتى هذا الوقت  لم تكن آراء الشباب إلا قضايا عقل وخلجات نفس ينبغى أن  تستحيل إلى عقائد وقيود! كان ميله هوى، وصداقته مسلاة، وحبه  تلهية من تلاهي الخيال قبل أن يكون حاجة من حاج القلب وضرورة  من ضروراته، وكانت علاقاته بالعالم لذة لحظة أو ملال لحظة، ثم  استحالت إلى سلاسل وأغلال لا يستطيع المرء أن يتحرر منها دون  خطر، ثم تتجمع حول الرجل الكامل المنافع والغايات والحاجات  والمنافسات. وتحيط به وتنبسط أمامه فلاة بلقع ليس فيها سوى  أهراس وعواسج ومهاو، وقد كان الشاب لا يرى فيها إلا سهولا  منبسطة تغطيها رياض بها أطيب الزهر وأشهى الثمر! كل هذا  حق، وهل يمكن أن يقال أكثر من هذا فى مدح الشباب وذم  الرجولة؟ ولكن لم خلق الإنسان؟ خلق ليكون رجلاً يكافح  ويناضل، أما السلام فليس من أطوار هذه الحياة، إن نشدته  وجدته أبعد من الفرقدين واعسر من رد أمس الدابر. إن  هذه الحياة جهاد ونضال، وحري بالرجل أن يكون كالربان فى بحر  تحفه الأهوال، وليس أدعى إلى السخرية من شاب فى سن الرجولة  أو فى سن الشيخوخة مثل ذلك الشاب الأبدي يدعو إلى حزننا  ورثائنا، وليس الذى نرثى له من أجله هو ذلك التناقض المادى  والمعنوى، أو الجسدي والروحي فى الشخص الواحد، ولكن ذلك  النقص المعيب والخمول المزرى، وتلك القوة المعتلة ثم ذلك الوقار  الضائع والأهلية المفقودة ..كل هذا ليس إلا ضعفاً هرمياً قبل  الأوان، فالطبيعة تثأر لنفسها بشيخوخة مبكرة طافرة مع من لم يعرف  كيف يتلقاها ويرحب بها ويتأهب لها وهي تدنو منه فى رفق وتريث  واتئاد...

يَبذُّ الشاب الرجل ببهجته ونضارته وجماله، أي يبذه بشىء ليس  إلا عرضاً زائلاً، وعثاً بالياً، وزينة أحرى أن تفاخر بها المرأة،  ويبذه الرجل بقوته واحتماله، وعلمه وحزمه ووقاره. يريد الرجل  فيعمل، وينتوى فينفذ، ويعد فيصدق، ويكافح فلا ينثنى له عنان ولا تلين  له قناة. ويقف الشاب من مسرح الحياة موقف المتفرج بينما يلعب  الرجل فوقه دوراً تافهاً أو عظيماً. ولربما تطلب أتفه الأدوار جهداً  فوق الذى يتطلبه أعظمها، فعول أسرة أشق غالباً من تأسيس  مملكة..

يجهل الطفل شئون الحياة، ولا يكاد يعرف منها كثيراً ولا قليلاً،  ويعرفها الشاب أو يعرف منها الكثير فتستهويه وتستميله، غير أنه لا يساهم  فيها، ولكن الرجل يمتزج بها ويحاول أن يغيرها، تحنكه التجارب  وتوقره الحوادث، ويروضه الزمان ويثقفه الجديدان، وتشحذ قوته  العقبات. وتعلى مكانته التبعات، وتوقظ مشاعره الآلام النبيلة،  والعبرات الصادقة .. هذا عصر الإنتاج المثمر، والكفاح المجدى،  والعزائم التى تولد من عناصر الضعف قوة، ومن ظلام اليأس نور  أمل. هذا عصر القيادة والزعامة والابتكار، هذا عصر المجد والنور  بل هذا عصر الإنسانية الحقيقى!!

فى الطفولة عذوبة وسحر، وفي الشباب نظرة وجمال، ولكن كليهما  ليس فيه غناء، لا لصاحبه ولا لوطنه ولا للإنسانية جمعاء، فالأطفال  والشبان يعيشون فى هذه الحياة كلا على الرجل، فالرجولة وحدها  هى التى يؤمل لها أن تبلغ الغاية القصوى، والمثل الأعلى، وهى التى  يحق لها أن تطمح إلى الخلود إن كان لشىء فى هذه الحياة خلود!!

أما الشيخوخة فمتى كانت مدعمة بالرزانة والحزم، ومجردة من  الهوى والأثم، وكان معها توبة من الذنوب وإقلاع عن المعاصى  أضحت للذابل طلا وندى، وللفائت ترجيعاً وصدى، وما أشبهها  بأصيل يوم ربيعى رق وصفا!

لينس الشيخ المعمر لحظة ما وسع من أحزان وآلام، وما أبتلى  به من أوصاب وأسقام، وما نزل به من خصاصة، وما حضره من  إملاق، وما لقي من عنت وإرهاق، وما صادفه من تعثر وإخفاق،  ولينس مع هذا وقبل هذا أن قناته قد اعوجت، وأن عظمه قد وهن،  وأن الدهر عاضه من نضارة عوده ذبولاً، ومن سواد عِذَاره قتيراً،  وإن استطاع فلينس أيضاً أنه متى حان حينه طوى بساط عيشه،  ووافاه حمامه فكحله بمروده. ولفه فى مئزره، وأنتزعه من بين ابنة  له وابن، ووالدة وخدن. وصاحبة وناى ودن، ليواريه فى حفرة قد  ضاقت مساحتها وأحلولكت جوانبها...فان فعل، وحرى به أن  يفعل، فثم قصيدة فيها سحر وجمال ومتاع سوف يخلقها له خياله.. قصيدة تبدأ بألاعيب الطفولة المرحة الطروب يتضوع منها شذا  الوداعة والعذوبة والإيناس، ويفج منها نور السذاجة والبراءة  والعفاف، ويغرد من فوقها البلبل والورقاء والحسون!! وتتصل بها  آمال الشباب وأمانيه وأناشيده وأغانيه وتأملاته "1" ونجواه  ولياليه "2"وليلاه...ثم تعقبها الرجولة بما أخذت من تبعة واحتمال،

اشترك في نشرتنا البريدية