يقول الإنجليز "لا ينجح مثل النجاح" وهذا ما أردده حين أتعرض للأستاذ حسن جلال، فقد أخرج من قبل كتابه "الثورة الفرنسية" فكان توفيقه باهرا، ثم طلع علينا أخيرا بكتابه "حياة نابليون" فكان بحق مثار الإعجاب والدهشة.
نعم، الكتاب جدير بإعجابنا وتقديرنا، فها هى ذي كتب التاريخ الكبيرة بين أيدينا نقرؤها من غير شهية، وهذا فى اعتقادي ناشئ من أن الكاتب لم تتشبع روحه بالموضوع ولم يهضم مادته هضما يمكنه من جعل الحقائق غذاء سائغا لقرائه؛ وأستاذنا من هذه الناحية يحب تاريخ الثورة الفرنسية وعهد نابليون ويعجب به، ولعل الكثير من تلاميذه لا يزال يذكر مقدار توفيقه فى تدريس هذه المادة، الحق أن الأستاذ بلغ فى هذا منتهى ما يصل إليه الخيال من حدود التوفيق، ذلك لأنه كان يقبل على عمله بعاطفة، ولعل هذا يفسره إخراج هذين الكتابين.
فإذا كان الأستاذ قد أحب هذه الصفحة من التاريخ الفرنسي، وصرف شطرا من عمره يبحثها وتشبعت روحه بها، فلا أقل من أن يضع بين يدي طلاب الثقافة عصارتها، ومن ثم كان الكتاب سهلا سائغا يحبه القارئ وتلذه قراءته. ولا يفرغ منه إلا ليقرأه من جديد.
هناك نقطة أخرى، هى الحقائق لا أكثر ولا أقل، يسود المؤلفون بها صحائف الكتب ويلقونها على تلاميذهم دون أن يحاولوا استخلاص الآراء التى تحتجب وراءها، أو بمعنى أخر دون أن يعلقوا عليها التعليق الذى يجعلها تفيض نضارة وحياة وقوة. إلى هذا كله فطن الأستاذ حسن جلال، فلم يكن يهمه فى كتابه أن يعلم القارئ أن مئات الحوادث قد وقعت، ولكن يهمه أن يصل بالقارئ إلى ظروف حدوثها وكيف كان يفكر أبطالها، ثم إلى أي حد كتب لهم التوفيق ولماذا أصابهم النجاح أو ضرب عليهم الفشل، ونرى فى (حياة نابليون) أن الأستاذ المؤلف يوجه القارئ بواسطة المعلومات التى ساقها فى مهارة ولباقة فائقين، إلى سبل التطور وتتبعها، وتفهم الأصول
الاجتماعية والسياسية والخلقية والعقلية والاقتصادية التى أحاطت بالعصر الذى عاش فى ه نابليون. أما مادة الكتاب فلم يكن الأستاذ مخترعا لها، فالتاريخ إنما يستخلص من المراجع، ولكنا نجد بعض المؤلفين ينقلون صحائف برمتها من هذه المراجع، ثم يكتبون صحائف أخرى بأنفسهم، فلا نجد انسجاما بين أجزاء الكتاب الواحد. والقارئ لكتاب الأستاذ جلال يلمس مهارة المؤلف فى اختيار مادة كتابه، ويلمس كذلك الترتيب المنطقي للمعلومات، وتبدو شخصية المؤلف الذارة وروحه الخفيفة قويتين بحيث لا نميز خلالهما روح مؤلف ممن رجع إليهم، كل هذا برغم أن الكتابة عن الأشخاص فى نظري أبعد أنواع الكتابة التاريخية منالا. وليس عجيبا أن يكون الأستاذ هادئا بطبعه، ولكن العجيب أن يكون هادئا حتى وهو يكتب هذه الحياة العاصفة، لا يميل مع الإنجليزي الذى يمثل نابليون أفعى نفثت سمومها، ولا مع الفرنسي الذى يصور الرجل من قادة البشر إلى الجريمة والإخاء والمساواة، بل يجلس الأستاذ بينهما مجلس القضاء.
ومهارة الأستاذ فى القصص، تفوق مهارته فى التاريخ، فأنت حين تقرأ وصفه للقاء نابليون بجزفين بعد عودته من مصر، تنسى التاريخ وتنسى كل شيء إلا ذلك التصوير الرائع، ولكنك لا تكاد تنتهي منه حتى تصدمك عنوانات تاريخية جافة (حالة فرنسا فى غياب بونابرت - انقلاب برومير - دستور ١٧٩٩) فتوقظك من ذلك الحلم وتعيدك إلى حظيرة التاريخ مرة ثانية؛ ذلك نصادفه كثيرا فى كتاب الأستاذ؛ فهل نعتبر الكتاب قصيدة منثورة أو نعتبره قطعة من التاريخ؟ أما رأيي فهو أن الكتاب تاريخ شعري، وما أحوج التاريخ إلى أن يكون سائغا جميلا، ولاسيما إذا تنبهنا إلى أن الأستاذ لم يكتب لنا مؤلفا نضعه فى عداد المراجع التاريخية، أو سفرا له قيمة السجلات الرسمية، ولكنه صاغ حلقة من سلسلة المعارف العامة التى تعنى لجنة التأليف والترجمة والنشر بوضعها بين أيدي طلاب الثقافة. وآخر كلمة أقولها بعد أن قرأت (حياة نابليون) أن الأستاذ المؤلف قد عرض المؤرخين الذين ترجموا لهذا البطل صفا صفا، استملاهم جميعا فأفرغوا ما كان يملأ جعباتهم (من وحي الهوى وتصوير الإعجاب وإملاء المقت وصدى الحفيظة) ثم ناقشهم الحساب العسير حتى عرف البواعث التى أملت ما قالوا، وأخيرا قال كلمة العدالة التى عصبت عينيها، ورفعت الميزان فى إحدى يديها، وأمسكت بالأخرى سلاحها، فكانت كلمته فصل الخطاب.
