- ٤٠ -
يدور أمام بيتنا في هذه الأيام بائع مشمش قبيح الصوت جدا ، كلما سمعته استنكرت صوته . ومع ذلك يمد صوته ويمططه . مما يدل على أنه يعتقد أن صوته من احسن الأصوات . وأين منه صوت عبده وعبد الوهاب!
قلت : أليس ذلك شأن أغلب الناس ، ليسوا أكفاء ويعتقدون أنهم أكفاء . وليسوا شيئا ويظنون أنهم كل شئ . وأعرف كثيرا من المؤلفين لا يحسنون التأليف . ويعتقدون أنهم مجيدون ، بل يعتقدون أنهم أحسن من يؤلفون ، وشعراء لا يقيمون للبيت وزنا ولافاقية ، وأضحك عند سماع شعرهم في استهزاء بهم فيظنون ضحكي إعجابا ، وأراهم يلاحقونني حيث أكون ، ليشنفوا سمعي بشعرهم البارع .
ورئيس المصلحة يرى بعض موظفيه لا يصلحون لعمل ، وهم يعتقدون في أنفسهم أنهم يحسنون كل عمل . ولكن سوء حظهم أن مدير المصلحة لا يثق بهم ، ثم يتهمون هذا الرئيس بأنه يعرض عنهم لعدم جمالهم أو لصراحتهم أو لحنقهم الفاضل . فإن لم يرموا هذا الرئيس بهذه التهم ، التفتوا إلي الزمان ، يحملونه مسئولية انصراف الرئيس عنهم ، وعدم ترقيتهم ترقيات استثنائية .
ومسكين هذا الزمان الذي عمل أوزار كل هؤلاء . ولو تحريت لوجدت أن كل ما يحمله الزمان من هذا
القبيل وما يحمله سوء الحظ ، راجع إلى عدم كفاية هذه المخلوقات أو كفايتهم مع سماجتهم أو غرورهم أو أى شئ آخر غير فعل الزمان .
ثم هم يضيفون إلى بكائهم وشكواهم من الزمان ، حسد زملائهم ممن قرّبهم رؤساهم لكفاياتهم أو لحسن قيامهم بما يعهد إليهم من أعمال .
وقل من الناس من يقوّم نفسه تقويما صادقا فيعتب عليها الكسل أو يصفها بعدم الكفاية أو بالسماجة أو بثقل الدم
وترى الرجل محاول فتح علبه فلا تنفتح ، أو زجاجة فيصعب فتحها ، أو قراءة جملة في كتاب فتنغلق . أو جذب شئ فلا ينجذب ، أو كسر شئ فلا ينكسر ، أو فعل أي شئ فلا ينفعل ، فيطلب من بجوارك أن يستلم الشئ الذي عجزت عنه ليفعله هو ، كأنه يقول لك : أما وقد عجزت أنت فسأقدر أنا على ما لم تقدر عليه ، إيمانا بكفايته أكثر منك وتفوقه عليك .
ويأتي الرجل فيظن أنه إن استوزر سوى الهوايل ، وأتى بما لم يأت به الأوائل ، ثم يوزر فلا شئ . وإذا به يدخل املا وعرج يائسا ، وإذا بالحوادث أكبر منه . فلو أضفنا لرأينا اكثر الناس بائع المشمش .

