الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 274الرجوع إلى "الرسالة"

ختام

Share

بدأنا بقنطار ثمين فأجملنا ما نراه من مذهب في صفات الجمال،  وكانت خلاصته أن الجسم الجميل هو الجسم الذي ليس به فضول،  وهو الذي يحمل كل عضو فيه نفسه غير محمول في مشهد العين  على سواه، وهو الذي يكون مقياس الفضول فيه أداء الوظيفة،  ومقياس الوظيفة بين عضو وعضو وبين حيوان وحيوان قربها  من الحرية وبعدها من القيد والضرورة

وهذا مقياس أعضاء وأجسام ومقياس معان أيضاً وأفكار وأرواح فأننا بهذا المقياس نعرف الكلمة الجميلة والشعر الجميل والخلق  الجميل والفكر الجميل

فلن يكون جميلاً فكر به فضول فهو زائد فضفاض في غير  طائل، أو فكر فيه قصور فهو مفتقر إلى غيره وليس بمحمول  على نفسه، أو فكر يظهر فيه عجز التقييد وعسف الضرورات

وذلك ما أردناه حين قلنا إن الجمال يخرج الأجسام من عالم  الشهوات والنزوات إلى عالم المعاني والأرواح، وأن العين التى  تنفذ إلى لبابه تنظر إليه كما تنظر إلى الحقائق العليا، وإلى الأصول  الشائعة في نظام الوجود كافة؛ فإذا اتفق أن يعبث العابث بالجمال

فكما يتفق أن يسرق السارق جوهرة نفيسة: لا يسرقها لأنها  جميلة وهو يحب الجمال، ولكنه يسرقها لأنه يستحضر في ذهنه  السوق، والسوء !

ثم رجعنا إلى بقية المذهب، ثم تلاحقت الملحقات من تفريع  إلى حاشية إلى تذييل، إلى هذا الختام، وكان به ختام الصيف  وختام السفرات في كل أسبوع إلى الإسكندرية

أكتبه إلى جوار الصحراء صديقتي القديمة منذ عرفت  الأصدقاء في الأماكن والبقاع

وأصغي فلا أسمع الأمواج كأنها فوران القدر العظيمة عند  ميناء الإسكندرية، ولا أسمع الأمواج كأنها غطيط النائم في اطراد  رتيب عند ميناء مرسى مطروح، ولا أسمع الأمواج كأنها المارد  الوديع الحالم عند ميناء السلوم، فلا هدير له ولا ضجيج، بل سكون  كسكون النيل في ساعة صفاء قرير

لا أسمع الأمواج ولكني أسمع الصحراء، ومن طالت عشرته للصحراء سمعها وهي تسكت، وسمعها وهي تصخب، وسمعها وهى لا تحفل بأسماع، ولخص ذلك كله في كلمة واحدة، وهي القناعة أو الاستخفاف أو القوة التي تغالب الأزمان؟ لأن الأزمان تقوى على التغيير ... فإذا لم يكن تغيير فماذا يبلغ من قوة زمان واحد أو من قوة جميع الأزمان، وإذا كان التغيير لا يغير منها الحقيقة ولا يمس منها إلا العرض فلماذا تباليه الصحراء ؟

ورجعت أعرض صور الإسكندرية فاذا هى كثيرة تتصل بها  أجزاء الدنيا وترينا كيف يتشعب العالم وكيف يؤول إلى التماثل  والتوحيد

فالعالم اليوم يحكمه زي واحد تبصره في شواطئ القارة الحديثة،  وتبصره في شواطئ الصين، كما تبصره في شواطئ بحر الروم  وفي شواطئ بحر الظلمات، الذي ليس فيه اليوم ظلمات

أو هذا كل ما هنالك من تماثل وتوحيد بين أجزاء العالم  المتنابذ المستعد في هذه الساعة لأشنع الحروب

كلا. بل هنالك تقارب بين المثل والأوضاع في كثير  من الأمور

هنالك العملة التى كانت من قبل أخص الخصائص فيما يسمونه

بالسيادة القومية فأصبحت اليوم موضع التفاهم والاتفاق بين شتى  الحكومات

وهنالك المحظورات والتواصى بمنعها بين الدول من الرق إلى  المخدرات إلى المهربات

وهنالك الجيوش والمؤتمرات التي تنعقد من حين إلى حين  لتقرير عددها وتقرير سلاحها وتقرير نظامها، وإن لم تسفر عن  وفاق وإجماع

بل هنالك الحرب التي لا يتأنى أن تنفجر في مكان إلا عمت  جوانب الأرض بعد بضعة أسابيع

فالعالم يمضي إلى التماثل والوحدة، ولا ينفي هذه الحقيقة أنه  ماض كذلك إلى الوحدة في الشرور والنكبات، بل إن هذا  ليؤكدها ويجلوها في جانبها المخيف كما يجلوها في جانبها المأمون،  وجانبها المحبوب

أزياء الشاطئ تكشف لنا هذه الحقيقة وتكشف لنا معها  حقيقة أخرى يأسى لها كثيرون ويغتبط بها كثيرون

أو لم يكن الراقصون والمغنون وأصحاب الملاهى والملاعب نفاية  الجماعة الإنسانية في الأجيال القريبة ؟

فأنظر اليوم من ذا الذي يفرض على الناس الأزياء والآداب ؟  ومن ذا الذي يملى عليهم ما يشهون وما ينبذون ؟!

إنهم هم نفاية المجتمع بالأمس وسادة المجتمع اليوم ! إنهم فتيان هوليود وفتيات الستار الأبيض فيها وفى  كل مكان

فأين هي اليوم تلك السيدة التي تخجل من ظهورها في مظهر  الممثلات على ذلك الستار ؟

وما معنى ذلك إلا أن المجتمع ينقلب رأساً على عقب ثم لا يستقر  على هذا الانقلاب ؟

وهل بعيد ما بين هذه الحقيقة وبين حقيقة أخرى فى عالم  السياسة الدولية نشهدها ونسمعها الآن فيما نشهد ونسمع من  نذير وشرر مستطير ؟

ما معنى الحرب اليوم إلا أن نفايات المجتمع قد أصبحوا  يسوسون الدول ويقودون الشعوب ولا يؤمنون إلا بما يؤمن به  النفايات من غلظة وجور وعنت وتحطيم ؟

لئن كان الحجر على هذه النفايات فيما مضى ظلماً لقد رأينا الساعة أن سيادتها ليست بانصاف، بل فيها الظلم والانصاف مزيج كريه المذاق، ومصفاة الزمن خير كفيل بالتصفية والترويق، ولا خوف على الزمن آخر الأمر من العجلة ولا من الأناة..

صور كثيرة بقيت في خلدي من الإسكندرية كأنها صفحات  مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ

وستبقى ما قدر لها البقاء، وسيكون من إبقاها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقى (بيجو) الذى فقدناه هناك. وأنى لأدعوه صديقى ولا أذكره باسم فصيلته التى ألصق بها الناس  ما ألصقوا من مسبة وهوان، فان الناس قد أثبتوا فى تاريخهم  أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل وأجهلها كذلك بصناعة  التحقير ... فكم من مبَّجل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا ! وكم من محَّقر بينهم ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار !

وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الشديد، فأخلو بنفسى وبالبحر والصحراء فى مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابى الذى جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها  الأقدمين والمحدثين

فلما تواصلت الجلسات أزعمت أن أقضي أياماً في القاهرة  وأياماً في الإسكندرية من كل أسبوع، ولم أصحب بيجو في الرحلة  الأولى ولا فى الثانية ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر  الصيف، اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة وأن أعود إليه  كل أسبوع

ولكن المخلوق الأمين الوفى أرغمنى على مصاحبته كلما ذهبت  إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها، لأنه صام عن الطعام صومة  واحدة فى الرحلة الثانية، وزاده إصراراً على الصيام أننا كنا  نتركه في كفالة الشيخ أحمد حمزة طاهينا القديم الذي يعرفه قراء  كتابى (في عالم السدود والقيود)

والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يكثر الصلاة

والوضوء ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار

وبيجو مخلوق حساس مفرط الاحساس ما هو إلا أن تبين  النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى.  فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا: (يا شيخ أحمد) ...  فإذا بيجو تحت أقرب كرسى أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه  إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد

فلما استحال التوفيق بينهما واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين بالذهاب والاياب، واصبح يزاملنا من القاهرة إلى الاسكندرية ومن الاسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له، يتألف منها تاريخ وجيز ...

ثم أصابه في الاسكندرية ذلك المرض الأليم الذي كان فاشياً  فيها واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة  عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني  لم أجد مكاناً أولى بايوائه من المكان الذي أراه ويرانى فيه

وإني لفى ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب  حجرتي وخدش يكاد لا يبين، ففتحت الباب فرأيت المخلوق  المسكين قابعاً في ركنه يرفع إلي رأسه بجهد ثقيل، وينظر إلي  نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من  معانى الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار: أحس المسكين وطأة  الموت فتحامل على نفسه، وخطا من حجرته إلى باب حجرتي،  وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته وفتحت له، وهو لا يزيد  على النظر والسكوت

كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنة  حتى وجدناه، وقد شاءت له مروءته الانسانية أن يفارق صحبه  وآله في ساعة الرياضة ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن  مريضه الذي تعلق به وعطف عليه، لفرط ما آنسه أثناء علاجه  من ذكائه وألاعيبه ومداعباته، ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو  يفارق هذه الدنيا التي لم يصاحبها أكثر من سنتين

سيبقى من صور الاسكندرية ما يبقى، وسيزول منها ما يزول،

ولكني لا أحسبني أنسى ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل  يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله، ويودعها كل ما ينطق به  فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب  ما كان فيه عذراً كافياً لاقلاق صديقه . ومن شهد هذا المنظر  مرة في حياته علم أنه لا ينسى، فان لم يعلم ذلك فهو أقل الناس  حظاً من الخلائق الانسانية، لأن البعد من العطف على الحيوان  لا يجعل المرء بعيداً من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب

اشترك في نشرتنا البريدية