الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 52الرجوع إلى "الرسالة"

خصومة

Share

كان كما تقدم هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة،  فلم يتردد أبو نواس في سلوك السبيل التي سلكها ابن أبى ربيعة  من قبله، سبيل الشعر القصصي أو القصص المنظوم شعراً.

إن الناظر في أدب العرب وتاريخهم لا يسعه إلا أن يرى هذه  الحقيقة بارزة: حقيقة أن الشعر نال من المنزلة عندهم ما لم يبلغ  عند سواهم حتى طغى على ما دونه من ضروب الأدب، وأن الأدب  على إطلاقه بلغ لديهم مكانة طغى بها على ما عداه من الفنون وصبغ  ثقافتهم بصبغته - برغم بعده عن معالجة الحالة السياسية والاجتماعية  فكان كاتبهم في التاريخ وتقويم البلدان وغيرهما من العلوم يتحدث  عن الأدباء ويرجع إلى محفوظه من الأدب، وكم من أعلام للشعر  العربي لو كان التصوير والنحت رائجين لدى العرب رواج الأدب  والشعر لانصرفوا إليهما دونه أو لمارسوهما معه.

ولقد كتب الأستاذ الفاضل محمود خيرت في الرسالة أخيراً  يثبت وجود التصوير لدى العرب فلم يعد أن أثبت أنه كان في  حالة أولية لا يفتخر بها ولا يغتبط: فإن الفن الذي لا ترى له باقية  ولا يمكث له أثر في أدب اللغة وكتبها، ولا يتوصل إلى إثبات وجوده  إلا بشذرة شاردة في صحيفة من كتاب، لا يكون فنا قد نال حظا  من الرقي وخالط نفوس الأمة واستدعى اهتمام مثقفيها، والحكاية  التي رواها الأستاذ عن المقريزي تشهد بذلك، حكاية المصورين  اللذين رسما صورتين إحداهما كأنها داخلة في الحائط والأخرى كأنها  خارجة منه: فإن تفاخر الرجلين بهذا العمل الضئيل ودهش  الوزير له وإسباغه عليهما المنن من أجله ووقع القصة من نفس  المؤرخ حتى أثبتها في كتابه، كل ذلك لا يدل على ارتقاء الفن في  ذلك العصر. بل يدل على كونه في حالة بدئية، وعلى ندرة المصورين  المجيدين بل المتوسطي الحظ من الإجادة، وكلام المؤرخ كله يدل  على أن التصوير الذي عرف لذلك العهد لم يتعد الصناعة ذات الغرض  العملي التي يزاولها الصناع كما يزاولون النقش والطلاء، ولم يرق  إلى مرتبة الفن الخالص المنزه عن الأغراض العملية.

إن صور المدارس الإيطالية والهولندية وغيرها منتشرة في  الأقطار تملأ المتاحف وتتحدث عن نفسها وعن رقى الفن عند أهلها  قبل أن تحدثنا عن ذلك مئات الكتب التي الفت فيها، فأين آثار  مصوري العرب التي تحدثنا عن مثل ذلك؟ بل أين الكتب المؤلفة  فيها؟ بل أين الصور العربية التي كانت وحيا لشعراء العربية كما

كانت الصور الأوربية وحياً لوردزورث وتنيسون وغيرهما، أو كما  كانت صور الأطلال الفارسية وحيا لسينية البحتري؟

لن نظفر بشيء من ذلك إذا طلبناه، ولن يسعنا إلا الإقرار  بالحقيقة التي تطالع قارئ تاريخ العرب وأدبهم: وهي أن العرب  كادوا أن يكونوا أمة ذات فن واحد هو الأدب وبخاصة الشعر  الذي استوعب ملكات جل نوابغهم واحتوى دراسات جل مثقفيهم  ذلك بأن العرب كانوا منذ جاهليتهم أمة لسان وبيان.

بعثت إليه أول النهار بالرسالة التي سماها (باقية على الدهر)   ثم أويت آخر النهار إلى بيتي فوجدت اسطوانات (بيتهوفن)   التي استعارها مني قد ردها إلي، فعك إنها القطيعة. فوقفت  واجماً في مكاني وزالت آثار الغضب ولم يبق في نفسي إلا ألم عميق:  لقد انتهى كل شئ بيني وبين الدكتور طه حسين. . ولم أستطع  أن أقرأ شيئا في ليلتي، وما إن أقبل الصباح حتى أوفدت إلى  الدكتور طه حسين صديقين كريمين يحادثانه في أمر الرسالة، فإذا  به قد دفعها إلى المطبعة، وإذا به يأبى إلا أن يعلن الخصومة إلى  الناس. وحاول الصديقان عبثا أن يحولا بينه وبين هذا الإعلان.  وحاولا عبثا أن يقنعاه بإبقاء الخصومة سراً بيننا حتى يعرض أمرها  على الأستاذ الجليل لطفي السيد بك وكلانا ولده وهو أولى من جمع  بين القلوب النافرة وكان إلى ذلك سبيل. لكن الدكتور طه  أراد أن ينتقم فتناول القلم ووضع قصة روى فيها ما كان من  أمري وأمره.

قرأت القصة فدهشت. أي روعة وأي إبداع! إنها في ذاتها  أثر من آثار الفن الخالد، إني أشهد أنها عمل فني عظيم. فيها من  سعة الخيال وروعة الأسلوب ما يضمن لها البقاء. إنها هي التي  ستبقى على الدهر.

لقد أعجبت حقيقة بهذه القصة إعجاباً شديداً، وهي عندي  من أقوى ما كتب الدكتور. ولقد أنساني إطارها الأدبي ما احتوته

من اتهامات قاسية، وماذا يهم؟ إن شخصي ليس يعنيني كثيراً، كما  أنه ليس يعني صديقي الدكتور منذ اليوم. إنما الذي حفلت به حقيقة  وأحفل به الآن، هو تلك القطعة التي تشيع الحرارة في جوانبها، ويمتلئ  أسلوبها بمرارة مؤلمة. قطعة لا ينساها من يقرؤها. وأغلب ظني أن  الدكتور قد أصر على نشرها لأنه يعلم أنه قد كتب شيئاً جميلاً: وأني  الآن لأرضى أن يضحي شخصي الزائل في سبيل ظهور هذه القطعة  الباقية. على أن القارئ وقد فرغ من القصة لابد يسأل نفسه:  ما كل هذا الذي بين توفيق وبين الدكتور؟ وأني أمد القارئ  بالجواب فأقول: لا شئ في رأيي غيرصداقة لا يمكن أن تزول  لأنها صلة بين قلبين اجتمعا على حب الجمال الأعلى: جمال الفن والحقيقة،  ولئن قامت خصومة بيننا اليوم أو فى الغد، فهي خصومة من اجل  الرأي والتفكير، إن الشخصية الحرة هي كل ما يحتاج إليه الأديب  الحقيقي. ومهما يكن من قيمة الصداقة الأدبية العظيمة لا ينبغي أن  تفتات على هذه الحرية. إن الدكتور طه حسين العميد الرفيع المقام،  والزعيم الجليل الشأن في أدبنا العربي الحديث يفهم هذا حق الفهم،  وإنه ليعلم أني أقدره أحسن تقدير وأضعه من نفسي في أسمى مكان  وأحفظ له على الزمن ما أسدى إلي من جميل، ولا أنسى أنه هو الذي  ألقى الضوء على وجودي، غير أنه يخطئ إذا فهم أن صداقتي له  معناها التزام موافقته على كل رأي أدبي يبديه، والتسليم والتأمين على  كل ما يخرج من قلمه أو من فيه. إن الحكم المطلق إذا صلح في  دولة السياسة فهو لا يصلح في دولة الأدب. وأني لا أخال صديقي  الدكتور طه نفسه يرضى لي أو يرضى لفني وتفكيري هذه الحرية  المقيدة. هذه هي كل الخصومة التي بينه وبيني. فهو قد استاء مني  إذ عارضته في بعض آرائه في مقالات نشرت في (الرسالة)  أو في    (المصور) وفاته أني أجد لذة عقلية في معارضة منطقه السليم  وآرائه المستقيمة دون أن أحفل بالنتائج. ولقد استاء كذلك مني  يوم أخرجت الطبعة الثانية من (أهل الكهف)  بغير مقدمته،  وعقيدتي أنه على حق في هذا الاستياء لو أنه فهم من تصرفي أني  قصدت خدش كبريائه، أو أني رأيت أحداً غيره أولى منه بهذا التقديم.

أما وقد فهم أني لم أقصد هذا ولا ذاك، وأن الحقيقة لا تعدو  أني شخص بسيط لا أمقت شيئاً في الأدب مثل المقدمات، وأني  روح حر يأبى أن يقيد نصوصه بتفسيرات، فضلاً عما قام في  ذهني يومئذٍ من إبطائه أنه جاد في وعده بالمقدمة. فهل تراه يصر

بعد ذلك اتهامي بسوء القصد؟. أني أحب الحرية، حرية  التصرف، وحرية الكلام، وحرية إبداء الرأي. وأعتقد أن أثمن  كنز يغدقه المجتمع على رجال الفن هو (الحرية) ، وأعتقد أن خير  هدية أهديها صديقى العزيز علي، هي (الحرية) ولقد بلغ من إخلاصي  في صداقتي لطه حسين أن أعطيته (حريتي) . فهو لن ينسى أني  ما أتصرف في عمل أدبي بغير رأيه، وما استشارني أحد في أمر  يتصل بمكتبي إلا أحلت الأمر عليه، وانتظرت كلمته فيه. على أني  أحب من جهة أخرى أن أستعير بعض هذه الحرية أحيانا لأناقشه  في فكرة من الفكر، أو أحاوره في مسألة، أو أرد عليه في مقال.  فأنا كما يعلم الدكتور طه ذو طبيعة لا تسير على نظام.

إني أعطى كثيراً ثم آخذ فجأة، ثم أعود فأرد ما أخذت.  وعلى صديقي أن يكون رحب الصدر، سخي النفس كمصرف فتح  لي فيه حساب جار. وإني أشهد أن الدكتور طه يحمل نفساً من  أنبل النفوس وأندرها؛ ولقد سجلت هذه الشهادة في قلبي قبل  أن أسجلها في كتابي الفرنسي الذي بعثت به إليه منذ شهرين.  غير أن الدكتور لم يعرفني حق المعرفة، وأراه يأخذ بعض تصرفاتي  على سبيل الجد، حيث لا ينبغي أن تؤخذ على سبيل الجد. ولست  أدري ماذا كان يضيره لو أنه غضب ما شاء من رسالتي العنيفة ثم  مزقها دون أن يحفل بها، ودون أن يعلن أمرها للناس، ودون  أن يدخل الناس بيننا؛ وهو يعلم لو رجع إلى قلبه أن لا شئ في  هذا الوجود يستطيع أن يحول بيني وبينه، ومع ذلك فإن هذه  الرسالة الغريبة قد أدت إلى الأدب العربي أجل خدمة، فهي التي  ألهمت الدكتور كتابة قصة من أروع القصص، وإني أؤكد  للدكتور أنها خير نموذج للون جديد في الأدب كان ينبغي أن  يوجد. وأخشى أن تحدثني نفسي بتكرير فعلتي كلما تاقت نفسي  إلى متعة فنية، وكلما آنست في إنتاجنا الحديث فراغاً.

وبعد، فيا صديقي الدكتور أنا محزون حقا. فقد فكرت،  فإذا خطيئتي بديهية، فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل  أن أبعث بتلك الرسالة. فماذا ترى في موقفي منك؟ ويزيدني  حزناً لطفك حين تتجاوز في سهولة وكرم عن كل هذا.

إنما أنت في حقيقة الأمر فنان كبير، فنان حقا. وإني  لأعترف بأني لم أمنح هذه النفس، ولست أنا خليقاً بالفن ولا بك.

واليك الآن ما تمت عزيمتي عليه إذا احتفظت بغضبك على  فسأعرض عن كل حياة أدبية).

اشترك في نشرتنا البريدية