أين يخلق الكون؟ - كيف توصل ملكان (Millican ) إلى اكتشاف مصدر الأشعة الكونية وبناء نظريته في خلق المادة في الكون؟
في الفضاء خليط من المؤثرات التي تفعل فعلها في الأجسام والأشياء وهي مستترة في الأثير، لا ترى وكأنها ترى، كائنة وكانها غير كائنة. وهي مزيج من الاشعاع المنبعث من جميع الجهات. فاشعاع من الشمس تراه العين وتحس به، واشعاع اخر من الشمس لا تراه العين ولا تحس به، وأشعة مصدرها الأرض وأخرى مصدرها النجوم والشمس، أشعة إكس وأشعة الراديوم، والأشعة الكهربائية واللاسلكية وأشعة الحرارة. وكل هذه تنطلق بسرعة متناهية في الفضاء ونحن لانشعر بها ولا ندري حركتها. ولهذه الأشعة تأثير خاص في الهواء المحيط بنا وبها وخصوصا الأشعة ذات الموجة القصيرة كأشعة أكس او الراديوم، فانها تحلل الهواء إلى ذرات مكهربة تكهرباً سلبيا او ايجابيا positive and negative charge والذرات المتشابهة بالكهربائية تتنافر من بعضها كلما تقاربت، والذرات المختلفة الكهربائية تلتصق وتتحد في تلاقيها وبذالك تفقد صفة التكهرب وتصبح مادة في حالتها الطبيعية.
لقياس مقدار تكهرب الهواء أو تحلله إلى ذرات من تأثير هذه الأشعة توجد الة خصوصية تقيس الكهربائية إلى درجة دقيقة جداً. وهذه الآلة هي (الالكتروسكوب) . جرب أحد العلماء أن يمنع الأشعة المعروفة من دخول هذه الآله ليرى هل يبقى تأثيرها في الهواء أم يتلاشى باختفائها ومنعها، فوضع الالة في داخل صندوق من الرصاص الغليظ ليمنع دخول أقوى أشعة
معروفة، فوجد بعكس ما توقع من أن الآلة ظلت متأثرة بالرغم من احاطتها بالرصاص فاستنتج من ذلك وجود أشعة أقوى من الأشعة المعروفة قدرت أن تخترق سماكة الحائط الذي بناه وتتصل بالآلة التي وراءه.
ظل هذا الاكتشاف سبع سنوات غامضا، إلى أن قإم رجل سويسرى سنة ١٩١٠ وصعد إلى علو ٤٥٠٠ متر ومعه الالكتروسكوب، فوجد خلاف المنتظر، بان تكهرب الهواء. أو تأينه (تحليله إلى ذرات مكهربة تسمى الواحدة منها أيون "ion" ازداد مع ارتفاعه. فقد ظن أن مصدر هذا التأثير أشعة منبعثة من الأرض وليست من السماء، فعلى ذلك مقدار التأين يجب أن يقل بدلا من أن يزداد مع الارتفاع. بعد ذلك بقليل قام المانيان ( Hess and kolhorster) طارا إلى علو ٩ كيلو مترات فوجدا أيضا ذات النتيجة.
لم يكن العالم ملكان (Millican )الأميركي أثناء ذلك ساكتاً عن هذه (التجارب ونتيجتها الواحدة، بل أثرت عليه كل التأثير، وحفزته للعمل بأن يقوم بهذه المهمه في اكتشاف أصل هذا التأثير ومصدر تلك الأشعة التي لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال. فقام في سنة ١٩٢٦ مع مساعدة ( Bowen) وصعد منطادين صغيرين في الفضاء إلى علو ١٥ كيلو متراً. وكان المنطادان مرتبطين الواحد بالآخر، وحجم أحدهما مصنوعا بالقدر الذي ينفجر فيه عند العلو المطلوب، والآخر كان ليقل الأدوات الأتوماتيكية لقياس وتقييد التأثيرات الجوية ولارجاعها بعد بلوغ علوها إلى الأرض سالمة. فكان من هذه الآلات الالكتروسكوب لقياس الكهربائية والترمومتر للحرارة والبارومتر لمقدار ضغط الهواء، والاواح الفتوغرافية المختلفة لتنطبع عليهاور التأثيرات المختلفة، ثم الالة التي تسير كل هذه الأجهزة حركة أوتوماتيكية مطردة. ومع كل ذلك فان وزن المنطادين مع ما فيهما من غاز وآلات متعددة
لم يزد على ١٩٠ جراماً أو ما يعادل ٥٠ درهماً تقريبأ. وذلك مما يدل على دقة الصنع والتركيب ويبين مقدار أهتمام ملكان بالتجربة وتفرغه لها. والنتائج التي ظهرت من هذه التجربة أتت مطابقة للتجارب الأولى. فلم يعد بعد شك في وجود أشعة خفية دقيقة ذات تأثير عظيم.
على أن ذلك لم يقنع ملكان قط، ولم يقلل من شوقه لمعرفة تلك الأشععة وما اليها. ففي ذات السنة التي أجري فيها تجربة المنطادين، صعد بالألكتروسكوب الى قمم جبال مختلفة العلو في أميركا، ليرى تماما مقدار اختلاف التأين باختلاف معين في الارتفاع. وقد تحقق من ذلك شيئان: الأول أن قوة الأشعة تزداد مع الارتفاع، وذلك يؤكد بأن مصدرها ليس هو الأرض بل السماء. والثاني أن هذه الأشعة ليست متجانسة، بل من ثلاثة أنواع، تختلف عن بعضها بقوة نفوذها فى الهواء، فمنها لقوتها من قدرت أن تخترق الهواء كله وتصل سطح الأرض، ومنها من استطاعت فقط أن تنفذ في بعض الطبقات العليا غير المتكاثفة، والأخيرة لضعفها لم تقدر على التعمق كالأوليين فظل تأثيرها محصوراً في الطبقات الرقيقة من الهواء.
. تجارب في الفضاء وفوق سطح الأرض أكدت أن الأشعة آتية من فوق، ولكن يتحقق من ذلك أكثر، خطر لملكان أن يجري تجاربه في داخل الأرض تحت الماء. فوضع الكتروسكوباً أدق من لأول في صندوق من الرصاص يحتمل الضغط على عمق ٦٧ قدما في الماء، أي يحتمل ضغط كيلو جرامين لكل سنتيمتر مربع. فاذا كان مصدر هذه الأشعة حقيقة من الفضاء فالتأثيرات تحت الماء يجب أن تقل كلما ازداد الاناء عمقا، لأنه كلما نزل الاناء في جوف الأرض بعد عن مصدر الأشعة، وبذلك ضعف تأثيرها على الهواء بحكم السافة البعيدة التي تقطعها. والنتيجة أتت - كما توقع - أي أنها كانت تضعف تدريجيا في نزولها تحت الماء. وقد وجد من اختراق هذه الأشعة جميع طبقات الهواء، ومن نفوذها ٥٠ قدما في الماء. أن لها من القوة ما يعادل ١٠٠ ضعف قوة أشعة إكس، وأن طول موجتها أصغر من طول موجة الثانية ب ٥٠٠٠ مرة تقريبا. وهي لذلك قادرة
على اختراق حائط من الرصاص عرضه متران .
اجرى بعد ذلك ملكان تجارب متعددة في الليل والنهار، وفي أوقات مختلفة من الليل وأوقات مختلفة من النهار، وفي ضوء القمر وتحت ستر الظلام والنجوم بكثرتها لامعة مشعة، وفي أمكنة بعيدة عن الجبال عن المدن، وفي المغاور حيث لا تدخلها الشمس، ولا ينفذ اليها شعاع النجوم، وفي الصيف تحت تاثير حراره الشمس المحرقة، وفي الشتاء تحت تأثير البرق والرعد، ليرى هل لكل هذه الأشياء والظواهر الطبيعية تأثير خاص على الأشعة وقوة انفعالها في الهواء. فوجدها غير متأثرة بها جميعا. فكان تأثيرها واحداً صيفا وشتاءً ليلآ ونهارا، وما كان ليفرق بين تأثيرِ وتأثير إلا الارتفاع والهبوط. فاستنتج من ذلك أن الشمس والنجوم ليست مصادر هذه الأشعه.
ذكرنا أن التجارب دلت على وجود ثلاثة أنواع من هذه الأشعة، تختلف عن بعضها بقوة نفوذها. وقد وجد ملكان من الحقائق التي توصل اليها أن نسبة هذه القوى الى بعضها كنسبة الأرقام الثلاثة هذه: ٣٥، . : ٨ .، : ٤.، . الى بعضها. وكل رقم منها يشير الى نوع من هذه الأشعة. وقال ملكان من حيث ان الأشعه لا تأتينا من الأرض او من النجوم والشمس فلابد من أن تكون صادرة عن احوال ومقتضيات مضادة للأحوال والمقتضيات التى في جوف الشمس أو في داخل النجوم. وبما أن الأحوال في الشمس تدعو إلى انصهار وهدم المادة من شدة الحر والضغط فالأشعة هذه يجب أن تكون ناتجة عن بناء المادة وتركيبها من ذرات (الكترونات وبروتونات) في أماكن بعيدة عنا في الفضاء، حيث تقرب درجة الحرارة من الصفر المطلق. Absolute zero-273 c
قسم آستون العالم السويدى جميع العناصر التركب منها الكون إلى قسمين: مشعة كالراديوم وغير مشعة كالحديد والرصاص. وقد لاحظ أنه لما كان عنصر الهيدروجين أبسط العناصر تركيبا، إذ هو مركب من بروتون واحد والكترون واحد، وأخفها وزنا، فانه يمكن افتراض أن جميع العناصر الأخرى متركبة منه كتركيب جميع الأعداد الصحيحة من الواحد الصحيح، فذزة الهليوم تساوي في وزنها أربع ذرات من الهيدروجين، وذرة
الصوديوم تساوى ٢٣ ذرة من الهيدروجين أيضا. وكذلك افترض ملكان ان الهيدروجين يدخل في تركيب جميع العناصر، وأنه الحجر الأساسي في بناء الكون. وقد افترض ملكان أيضاً طبقا لمعادلة اينشتاين (القائلة بأن انصهار جزء من المادة في داخل النجوم يولد جزءاً مقابلاً من الحرارة والقوة تشع في كل أنحاء الفضاء) . إن هذه الحرارة والقوة المنبعثة باستمرار من النجوم، ستصير يوما ما وفي مكان ما مادة تحت الظروف الملائمة لبنائها، وأنه ما من مادة تنعدم في النجوم إلا ويقابلها بناء ثان في غير النجوم.
بقسمه العناصر إلى مشعة وغير مشعة ترى أن المواد المشعة اقل من المواد غير المشعة، وهذا شيء طبيعي، لأن هذه المواد باشعاعها الدائم تتحول إلى مواد أخرى، وبذلك تقل نسبة وجودها في الكون تدريجياً. فأخذ ملكان بعد ذلك ثلاثة عناصر تؤلف الجزء الأكبر في تركيب الكرة الأرضية والشهب والنجوم. ووجد أن هذه العناصر الثلاثة في الهيليوم والأو كسجين والسليكون. وقال اذا كانت هذه الأشعة التي لاحظناها ناتجة عن بناء العناصر فأن الهيدروجين وهو أبسطها تركيباً الحجر الأساسي في هذا البناء. وبواسطة معادلة اينشتاين استخرج مقدار القوة الضائعة في بناء كل ذرة لكل من العناصر الثلاثة وبواسطة معادلة أخرى اشترك في إيجادها ثلاثة شباب: (ديراك Dirac ) شاب انجليزي، و (كلاين ( klein شاب ألماني، و (نشينا (Nishhna شاب ياباني، استخرج نسبة قوى هذه العناصر الضائعة إلى بعضها، فوجدها كما يأتي: ٣، . : ٨. ، . : ٤.، . وهذه كما نرى ذات الأرقام التي استنتجها من تجاربه، إلا في الرقم الأول فالاختلاف فيه تعلله قلة الضبط في التجارب فقط.
وهكذا كان نجاح ملكان في تعليل نظريته في بناء الكون من طريقين: طريق التجربة التي أدت إلى اكتشاف تلك الأشعة الصادرة عن بناء الكون، ولذلك سميت الأشعة الكونية؛ وطريق الرياضيات التي طابقة نتائج تجاربه كل المطابقة، فدلت لا على اكتشاف أشعة جديدة من مصدر جديد فحسب بل أيضا على توحيد النظريات والمعادلات الرياضية مع الظواهر الطبيعية، وعلى دقتها وتلاؤمها بعضها مع بعض.
جامعة بيروت
