الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 705الرجوع إلى "الثقافة"

دراسات فى الأدب العربى الحديث :, الدكتور أحمد زكى أبو شادى، فى ديوانه " من السماء "

Share

-2-

ولدينا من ذلك فصول مما كتبه الدكتور وأذاعه ، ومنها مقدمته لديوانه " من السماء " التى تدور على " التجربة الشعرية " التى يقول فيها : " والتجربة الشعرية قد تكون عظيمة كما قد تكون تافهة ، ولكن الشاعر قادر بتأثيره وتفاعله على إبداع الجليل من الناقه لأنه يراه بمرآة نفسه الكبيرة التى كيفتها عوامل شتى ممتازة . . وكلما كان الشاعر حساسا منفعلا جاءت تجريته الشعرية قوية وكانت مبعثاً لشعر مؤثر ...

إن التجربة الشعرية هى الدعامة الأولى للشعر .

فأبو شادى ، كما ترى ، يعتمد قبل كل شئ على ما يسميه " التجربة الشعرية " أو الانفعال بما حوله من أشياء موحية ، واعتماده هذا هو الذى جعله بين أكثر الشعراء إنتاجا ، فكان له هذا العدد الضخم من الدواوين الشعرية التى بلغت نحو أربعة عشر ديوانا . وما بالقليل أن يكون لشاعر مثل هذا العدد الضخم ، الذى يحتوى على ألوف من القصائد المتنوعة . ولكن هذا الشعر الكثير جداً من إنتاج

أبى شادى لم ينل حظاً كافياً من تقدير عشاق الأدب والشعر واهتمامهم ، وذلك على عكس شعر صديقه الشاعر الصغير أبو القاسم الشابى - مثلا - الذى مات وهو ابن خمسة وعشرين عاما فقط ، ولكنه ملأ دنيا الشعر بأجود الألحان ، مما جعل اسمه زغرودة مطربة فى فم الدنيا ، وشعره أغاريد على كل لسان فى دنيا العرب .

وهذا يدلنا على أن التجربة الشعرية وحدها ليست بشئ ، وإنما هناك " طريقة التناول الشعرى " أيضاً ، وحظها من القيمة فى الشعر مساو للتجربة الشعرية أو يزيد ، فالشعر شئ من أهم عناصره " الألوان والصور والموسيقى " وبدونها يصبح الشعر كلاما له وزن وقافية ، ولكنه مع ذلك أقل جمالا من النثر ، وتصبح التجربة الشعرية تجربة نثرية ، وقد تكون مبتذلة . والألوان والصور - وهى أهم مظاهر الخيال الشعرى - والموسيقى - وهى أهم عناصر فن الصياغة الشعرية - هى التى يقل حظ شعر أبى شادى منها ، ولذلك يفقد شعره ، الكثير جداً ، أثره فى نفوس قرائه . فيفقد بذلك حظه من التقدير ، ويزيد فى ذلك ما يشعر به القارئ من أن شعر الدكتور هو شعر " الفكر " أكثر مما هو " شعر الإحساس " حتى فى شعر الطبيعة ، يلاحظ القارئ أن الإحساس الذى يعبر عنه الدكتور بشعره إنما هو " احساس فكرى وليس " إحساسا شعوريا عاطفيا " .

والدكتور لا يجهل قيمة الألوان والصور والموسيقى فى الشعر ، بل يشير إلى أهميتها فى أماكن متعددة من كتاباته النثرية . ومن ذلك قوله فى بحث له بعنوان " التجديد فى الشعر " : ولا بد لنا عند تذوق الشعر من أن نتذوق فى آن واحد موسيقاه وخياله ومعناه وعاطفته ، وأن نحس بالمواسة بينها جميعا إحساسا يستثير لإعجابنا " .

ويقول فى مقدمة ديوانه " من السماء " : إن التجربة الشعرية تكون قوية ، ومبعثا لشعر مؤثر إذا كان الشاعر مكتمل الأدوات البلاغية ، من سلاسة التعبير ، وقوة البيان ، وحسن الموسيقى ، والقدرة التخيلية ، والطاقة التصويرية ، والتفنن فى الأداء والتناول ، فى زوق يتفق والمناسبة الشعورية ، سواء فى اختيار الألفاظ ، ومدلولات المعانى أو الجرس الموسيقى ، والبحر الشعرى المتجانس مع العاطفة ، بعيداً عن التصنع والتحمل .

فالدكتور إذاً يدرك هذه القاعدة الأساسية الكبرى للشعر الجيد ويعلنها فيما يكتبه ، وهو يطبقها فى دراساته النثرية على الشعراء الآخرين أكثر بكثير مما يطبقها فى شعره نفسه ، ومن هنا كان توفيقه فى نثره أكثر من توفيقه فى شعره .

ومن الأمثلة على ما يجنه " سوء التناول " على جمال " التجربة الشعرية " ثاني بقطعة صغيرة للدكتور أبي شادي من ديوانه غير للطبوع " الإنسان الجديد " عنواها " سؤال وجواب " لا تتجاوز خمسة أبيات ، وهي :

سيعيش فى هم ويشقى دائماً  من عاش مشغولا بهم الناس

فعلام يا نفسى افتتانك بالورى  وهمو الفصاة على الأبر الآسى

العشب يلثم أرضه بوفائه   وهمو الجناة على هوى وسواسى

فأجابت النفس التى لم ترتدع

يوما ، وإن يرشد حليف الكاس

أنا بعض هذا الناس ، كيف أعاقهم

وجميع إحساس لهم إحساسى ؛

فالقارئ يرى أن التجربة الشعرية أو المؤثر النفسى ، والفكرة التى قامت عليها هذه القصيدة الصغيرة شئ جميل وإنسانى ، فيه نبل ، وفيه حكمة ولكنه يلاحظ بكثير من الألم أن الأدباء قد خرج بها عن أن تكون شعراً مؤثراً . برغم الوزن والقافية . فالقافية التى اختيرت لها غير صالحة لنقل التأثير الشعورى لمعناها الجميل ، والألفاظ جاءت مقلقلة فى أماكنها ، ولا سيما فى أواخر الأبيات ، وعبارتا " وإن يرشد حليف الكاس " و " جميع إحساس لهم ، أفقدنا البيتين الأخيرين كل جمالهما ، مع أن حكمة القصيدة كلها تتركز فيهما .

ومثل هذه القصيدة كثير ، وكثرته عامل هام فى

صرف الأدباء عن التذوق والتقدير ، بينما تجسد من جهة ثانية قصائد أخرى وفق الشاعر فيها من حيث التناول الشعرى ، مع أن التجربة غير هامة ، فجاءت على جانب كبير من الجمال . خذ مثلا قصيدته " ذكرى المهرجان " من ديوان " من السماء " وهى من شعر الناس الذى لم اعتد أن انظر إليه بشئ من التقدير أو الاهتمام ، إلا أنى وجدت لها جمالا شعريا لم أجده فى الكثير من الشعر الذى استوحاه الشاعر من أمور أكثر أصالة فى الإيحاء ، وأقرب عنصراً إلى الشاعرية . وأنا أحيل القارئ إلى هذه القصيدة فى الصفحة ١٠٣ من الديوان . كما أحيله إلى قصيدة أخرى اجتمعت لها " التجربة الشعرية " والتناول الشعرى فى القسم الأكبر منها فجاءت من أروع ما حمله ديوان " من السماء " من قصائد . تلك هي رثاء زوجته التى أوردنا بعض أبياتها فى بداية المقال فلولا أن طولها المفرط قد جنى على بعضها ، لقلت إنها من أروع الشعر العربى . وفى هذه القصيدة تتجلى شاعرية الدكتور على أبرعها . كما يتجلى الوفاء والحب على أصدقهما وأصفاهما .

على أن مما لا شك فيه أن الدكتور أبا شادي أديب مخلص للأدب ، يتفانى فى حبه وتقديره وانه إنسان طيب القلب جداً ، يخلص فى تقدير زملائه الأدباء ، وعشاق الأدب والشعر ، وهو على تعدد مناحى نشاطه الفنى والفكرى يحل الشعر فى المنزلة الأولى من عنايته ، ولذلك كانت جمعية ( أبولو ) الشعرية التى ألفها فى مصر ، وكانت تضم جماعة من أشهر أدباء مصر ، فرأسها مرة أحمد شوقى ، ثم خليل مطران من بعده ، وأنشأ لها مجلة باسمها ( سنتى ١٩٣٢-٣٣ ) قصر عنايتها وأبحاثها كلها على الشعر وحده ، فكانت لها قيمتها الكبيرة فى هذا الباب . واستطاعت أن تبرز مواهب عدد من الشعراء الشبان الذين نعرفهم اليوم ونتغني بشعرهم ، ومنهم أبو القاسم الشابى ، والهمشرى ، وعلى محمود طه ، والصيرفى وغيرهم ، وقبل ذلك كان قد أنشأ وهو فى لندن جمعية أدبية جعل رياستها إلى المستشرق مرجليوت ، ومنذ أن هاجر إلى العالم الجديد عام ١٩٤٦ لم يتوقف عن النشاط الأدبى ، فقد أحيا جماعة ( أبولو ) القديمة تحت اسم جديد هو " رابطة ميترفا " التى تضم جماعة من خيرة رجال الأدب والفكر هناك ، من

عرب ومستعربين ، ولا ينقطع عن الكتابة ونظم الشعر ؛ فأصدر ديواناً بعنوان " من السماء " وتهتم مجلة المقتطف بإصدار عدد من دراساته الأدبية فى كتاب بعنوان " من نافذة التاريخ " كما أن لديه اكثر من ديوان شعرى واحد بغير طبع ، ويذيع من محطة " صوت أمركا " أحاديث أسبوعية عن أدباء العرب المحدثين . كل ذلك والشيخوخة لا ترحمه ، والأمراض لا تسمح له بالراحة .

وإذا لم يكن لأبى شادى سوى هذا النشاط الخارق ، وسوى هذا الإخلاص الشديد فى خدمة الأدب والشعر . فهو حسبه من دواعى الإنصاف والتقدير .

والذى يطالع شعر الدكتور ، يلاحظ أنه إنسان يهيم بالجمال ويقدسه ، وهو يعبده فى المرأة ، كما يعبده فى الطبيعة ؛ وهاتان من أعظم بواعث الشعر عنده . إلا أن أجود نواحى شاعريته فى رأيى - هو فى شعره التأملى وشعر الطبيعة ، وهو وإن لم يصل فيهما إلى مثل العمق والرقة والتأثير التى نفسها فى شعر أبى ماضى أو الشابى أو القروى أو أبى ريشة أو فدوى طوقان مثلا ، لأن التناول الشعرى يطغى كثيراً على جمال التجربة والانفعال ، إلا أن هناك عدداً من القصائد كانت على حظ كبير من الجمال والتأثير.

من هذه القصائد التأملية ذات الصيغة الفلسفية ، نجد القصيدة الأولى فى ديوان " من السماء " وهى تحمل عنوان الديوان نفسه ، تبين محبة الشاعر للأرض ، أرض الأحياء التى تخاطبه بقولها :

ما جمال السماء إلا جمالى      أنا أودعته لديها قديماً

ثم تجذبه إليها من جديد بعد أن تراه عالق القلب بالسماء فإذا به يعود إليها " عود المسيح " .

ومن ذلك أيضاً عدد من قصائد الطبيعة ، التى يتغنى فيها بالبحر ، والشمس ، والأمواج ، والصيف ، والربيع ، وما إليها . ومنه نجواه للبحر فى قصيدة " على صخرة سيدى بشر "

أنا من علمت محبة وتفانياً     فى كل معنى من نشيدك ساحر

أصغي إليه ولا أمل كأنما       أصغى إلى لحن الخلود العامر

عرفت به الأرباب من عليائها

قبل الوجود فكان روح الشاعر

لغة الجمال طلاقة بل ثورة       والفن يحيد فى الجمال الثائر

قد جئت سياق الربيع وطالما

انشقت منك هوى الربيع الناضر

وضمتنى بأشعة فرحانة        مثلى كأنك بالأشعة آسرى

حتى تناسبت الربيع وزهره

وقطفت من معناك حلو أزاهرى

ونسيت عندك للصلاة خشوعها

لما رأيتك فى ابتسامة ساخر

وهناك قصائد أخرى تحدثنا عن الشاعر نفسه ، عن صفات النيل والحلم والكرم فى نفسه ، ومنها قصيدة " فن الجحود " التى تذكرنا ببعض قصيدة ( أنا ) لأبى ماضى من ديوان " الجداول " ونقتطف من هذه القصيدة قوله :

تعودت عرفان الجميل ولا أرى          مبالغتى فى الحمد تصغر من دينى

كأنى استطبت الفضل للناس كلهم     على ، وإن عاشوا على الغدر والغبن

أحاول تعظيم الأيادى التى لهم         وأصغر من فضلى عليهم وأستغنى

ومما يدل على نبل شعوره ، قصيدة " الموتى المشردون " التى يخاطب فيها الملك فاروق بقوله :

مولاي حب الشعب أعظم ثروة

لك من كنوز التاج والسلطان

كن أنت رائده . ووزع أرضه

لبنيه ، كالفاروق ، فى الإحسان

ما شأن آلاف الفدادين التى    هى كالمقابر للسواد العانى ؟

ذهبوا بأرجاء البلاد تشرداً       وتكفنوا بمذلة وهوان

وجميعهم موتى ، وتلك لحودهم

ملء الضياع الفخمة العمران

تركوا المقابر صاغرين فعيشهم      وممائهم بهوائهم سيان

أنت العظيم فلا تدع إخلاصهم

لك يستباح بلا هدى وأمانى

بل لا تدعهم فى الورى أمثولة   لتدهور الإنسان بالإنسان

وبعد فإن مجال القول فى الدكتور أبى شادى وأدبه ومناحى ثقافته المتعددة لا يزال ذا سعة . ولكننا نقف هاهنا ونحن نرجو أن نكون فيما قلناه قد خدمنا الأدب والحقيقة اللذين هما رائد الدكتور ورائدنا .

اشترك في نشرتنا البريدية