هو أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب التميمي من ذرية بني الأغلب سلاطين إفريقية . وأكبر الظن أنه ولد ونشأ في القاهرة ، ولم يلبث أن شدا الشعر . فالتحق بدواوين الإنشاء للفاطميين ، وسفر بينهم وبين حكام اليمن وأصبح رئيس دواوين الإنشاء لعهد الخليفة الفائز ) ٥٤٩ - ٥٥٥ ه ( ووزيره طلائع بن رزيك .
ويظهر أن المودة كانت متعقدة بينه وبين طلائع قبل أن يلى وزارته ، فاسمه يتردد مع من راسلوه وهو على إحدى ولايات الصعيد ، ليقدم إلى القاهرة . ويشكل بعباس الصنهاجي ، ويأخذ منه بثأر الظافر وأخويه يوسف وجبريل وفي ذلك يقول له من قصيدة :
دهني عن نظم الفريض عوادي
وعف فؤادي هجره التمادي
وأرق عيني والعيون هواجع
هموم أفضت مضجعي ووسادي
بمصرع أبناء الوصي وعثرة "
نبى وآل الذاريات وساد
أولئك أنصار الهدى وبنو الردى
وسم العدى من حاضرين وباد
لقد هد ركن الدين ليلة قتله
بغير دليل للنجاة وهاد
تدارك من الإيمان قبل دثوره
حشاشة نفسنت بنفاد
وقد كاد أن يطغي تألق نوره
على الخلق عار من بقية عاد
ممزق جموع المارقين فانها
بقايا زروع كنت اذنت بحصاد
وتمضي القصيدة على هذا الخط القوي الجزل . ولبي طلائع دعوته ، فجمع جموعه . وقدم بهم إلى القاهرة . فاقتحمها على الجناة ، وأذاقهم وبال أمرهم جزاء وفاءه ، وفي ذلك يقول القاضي الجليس :
ولما ترامي البربري بجهله
إلي فتكة ما رامها قط رائم
ركبت إليه متن عزمتك التي
بأمثالها تتلقى الخطوب العظائم
وقدمت له الجرد الخفاف كأنما
قوائمها عند الطراد قوادم
وتصل منها والعجاج خضابها
هواد لأركان البلاد هوادم
تجافت عن الماء الفراح قربها
دماء العدا فهي الصوادي الصوارم
وقت يحق الطالبين طالبا
وغيرك يخفى دونه ويسالم
أعدت إليهم ملكهم بعد مالوى
به غاصب حق الأمانة ظالم
فما غالب إلا ينصرك غالب
وما هاشم إلا بسبقك هاشم
فأدرك بثأر الدين منه ولم تزل
عن الحق بالبيض الرفاق تخاصم
وواضح أن هذا الشعر من نسج متين ، فصاحبه ليس ممن يرسلون الكلام على هواهنه دون فحص بل لا يزال
يختبر ويمتنحن ولا تزال القصيدة عنده كأنها تجربة ، فهو لا يخرجها إلا بعد بحث ودرس وبعد صقل وتهذيب وتنقيح . ونحن نلاحظ بجانب ذلك أنه شاعر شيعي أو ينزع منزعا شيعيا ، فالشيعية واضحة في هذه الآبيات السابقة . ولعل هذه النزعة فيه هى التي قربته من الخلفاء الفاطميين ، فقد كان يحضر مجالسهم ، ويفسحون له فيها ، ومن ثم سمي القاضي الجليس ، ولا ريب في أنه مدحهم مدائح كثيرة ، وإن كانت كتب الأدب والتاريخ لم تحتفظ لما بنئ واضح من هذه المدائح ، لما كان فيها من تشبع .
ويبدو وانه كان كاتبا ممتازا كما كان شاعرا ممتازا ، يدل على ذلك أن الفاطميين أسندوا إليه رئاسة ديوان الإنشاء مع الكاتب المشهور الموفق بن الحلال . غير أن ما أثر من كتابته قليل ، وقد روي له العماد قطعة في طلائع يقول فيها " هو الوزير الكافي ، والوزر الكافل ، والملك الذي تلقى بذكره الكتائب وتهزم باسمه الجحافل ، ومن جدد رسوم المملكة وقد كاد يخفيها دثورها ، وعاد به إليها ضياؤها ونورها :
وقد خفيت من قبله معجزاتها
فأظهرها حتى أقتر كفورها
أعدت إلي جسم الوزارة روحه
وما كان يرجى بعثها ونشورها
فقد نشرت أيامه مطوي الحمم . وأنتشرت رفات الجود والكرم ، ونفقت بدولته سوق الآداب بعد ما كسدت . وهبت ريح الفضل بعد ما ركدت . إذا لها الملوك بالقيان والمعازف ، كان لهوه بالعلوم والمعارف ، وإن عمروا أوقاتهم بالخمر والقمشر ، كانت أوقانه معصورة بالنهي والأمر " . وهذه القطعة على قصرها ترينا شيئا من فن القاضي الجليس في ثره ، فقد كان يعرف كيف يختار لفظه ، وكيف يحيك سجمه ، مع ميل ظاهر إلى استخدام الجناس ، وإطراق السامعين به ، وله منه بدائع كثيرة من مثل قوله :
ربيض تسكنن باللحظ مضا مرهفات جفونهن جفون
وخدود للدمع فيها خدود وعيون قد فاض منها عيون
فهو يستخدم الجناس ، ولأتحس عنده يتعقيد ، قريشته
ريشة فنان صناع ، وهى ريشة خفيفة في يده ، هي وكل
ما تلونه من جناس ، وكأنه اطلع على كل سر من اسرار هذا اللون من ألوان البديع ، وهو يذيع هذه الاسرار في آيات رشيقة ، يودع صدرها كل ما في نفسه ، كقوله :
حبذا معه الشباب التي يعذر في حبها خليع العذار
إذا بذات الخمار أمتع ليلى وبذات الخمار الهو نهارى
والغواني لا عن وصالي فوان
والجواري إلي جواري جواري
فهو يجانس جناسا رشيقا بين يعذر وخليع العذار ، وكذلك بين ذات الخمار أي الخمر وذات الحمار أي المرأة ، وأيضا بين الفواني وغوان ثم بين الجواري وجواري وجواري ، وهي كلها جناسات خفيفة خفة القسم الأرج .
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن القاضي الجليس كان شاعرا ممتازا في عصره ، وكان من حظ طلائع بن رزيك أن استصفاه لنفسه واخذه صوتا لوزارته وبوقا لحكمه ، إذ تبعه يشيد بمناقبه وينادي في الناس بمآثره وفتوحه وحروبه وانتصاراته في الداخل والخارج ، فلما ثار عليه وإلى الإسكندرية طرخان بن سليط وقضي عليه انطلق القاضي الجليس يقول :
سيوفك لا يقللها غرار قوم المارقين بها غرار ( ١ )
يجردها إذا أحرجت سخط على قوم ويخمدها اغتفار
طريدك لا يفونك منه ثار وخصمك لا يقال له عثار
وفيما نلته من كل باع لمن ناواك - لو عقل - اعتبار
فر يا صالح الأملاك فينا بما تختاره فلك الخيار
فقد شفعت إلي ما تينفيه لك الأقدار والفلك المدار
ومنها :
عدلت وقد قسمت وكم ملوك
أرادوا العدل في قسم فجاروا
ففي يد جاحد الإحسان عل
وفي يد حامد الثعمى سوار
لقد طمحت بطرخان امان
له ومثله فيها بوار
وحاول خطة فيها نحاس
على امثاله وبهها نفار
لكاد من النقع للتار كانها
تاثرأحيانا وإن قرب النجر
عجاج يظل الملتقي منه في دجي
وإن لمعت أسيافه طلع الفجر
وكخيل يلف النشر بالترب عدوها
وقلى يعاف الأكل من هامها النسر
وهذه كلها أشعار تدل ابلغ الدلالة على ما حظى به القاضى الجليس من شاعرية بارعة وأنه كان حريا بما وصل إليه من مجد في عهد طلائع ، فهو يملك قياد الشعر ويسلس في يده منه ما لا يسلس في يد غيره من معاصريه . فقد كان يعرف كيف يرصف أساليبه وكيف عليها بألوان البديع من جناس وغير جناس ، وكيف يمسح عليها أو قل كيف ينقشها بالصور والأخيلة . وهو في ذلك كله لا ينبو عن الأذن ، بل لا يزال يطلب الاطراد الموسيقى والائتلاف الصوتي ، واستمع إليه يقول :
ألمت بنا واقبل يزهي بلغة
رجوجية لم يكتحل بعد قوداها
فأشرق ضوء الصبح وهو جبينها
وفاحت أزاهير الربى وهى رباها
إذا ما اجتنت من وجهها العين روضة
أسالت خلال الروض بالدمع أمواها
وإني لأستسقي السحاب لربعها
وإن لم تكن إلا ضلوعى مأواها
إذا استعرت نار الأسى بين أضلعي
ضحت على حر الحشا برد ذكراها
وما بي أن يصلى الفؤاد بحرمها
ويضرم لولا أن في القلب مأواها
ولا ريب في أن هذه القطعة مكتظة بالصور والشعور المتدفق . ودائما صورة بديعية على هذا النحو ، فصناعته ليس فيها تعقيد ، وكل ما يحدده من أخيلة وغير أخيلة لا يحول
بيننا وبين معانيه ، كأنه النقاب الشفاف الذي لا يستر شيئا مما وراءه . وكان يهديه إلى ذلك حس دقيق دقة بعيدة ، وهي دقة تجلت في كثير من جوانب شعره ، ومن طريف إبداعاته قوله في رثاء أبيه ، وقد مات غريقا لريح عصفت بمركبه :
وكنت أهدى مع الرمح السلام له
ما هبت الريح في صبح وإمساء
إحدي تفانى عليه كنت احسها
ولم اخل أنها من بعض أعدائي
وتكثر في شعره مثل هذه الفئات الدقيقة التي تدل على حدة ذهن وحدة شعور ، كما تكثر الأبيات الخفيفة الرشيقة من مثل ما كتب به إلى صديق له اهداء طبيبا في ليلة من الليالي :
بعثت عشاء إلى سيدي بما هو من خلقه مقتبس
هدية كل صحيح الإخاء جري منه ودرك مجري النفس
فجد بالقول وأيقن بأن لفرط الحياء أنت في الفلس
وهذه رقة بالغة . والقاضي الجليس في ذلك يمثل رقة المصريين وما اشتهروا به من دقة الذوق . ويظهر أنه كان خفيف الروح ، فصاحب مسالك الأبصار يقول فيه : " كان ممن تفرح الصدور بمجلسه ، وعجل الشفق لنرجسه فجلسه كان مجلسا عبا إلى الناس ما يمملؤ به من دقائق الشعر ورقائقه ، وما امتاز من رقة الحس والشعور ، بل بما كان يصحب ذلك كامن فكاهة حلوة ونادرة حاضرة ، وله في ذلك طرائف كثيرة ، منها طرفة تندر فيها على طبيب وصف له وهو محموم وصفة ، فلم تتجمع وصفته ، فقال يداعبه :
وأصل تليمني من قد غزاني
من السقم الملح بعسكرين
طبيب طبه كغراب يبين
يفرق بين عاقبي وبين
أتي الحمى وقد شاخت وباخت
فرد لها الشباب بنسختين
وديرها بتدبير لطيف
حكاء عن سنان ( ٧ ) أو حنين (٣ )
وكانت نوبة في كل يوم قصيرها يحذف نوبتين وأظن أن هذا الطبيب هو ابن سيراي ، وكان متقدما في صناعته ، وكان يقوم على خدمة طلائع ، وكان في أخلاقه بعض الشراسة والحمق . فكان يبحث في شعره به ويداعبه ، وكذلك كانت تداعبه حاشيته . وأكبر الظن أن هذا الطبيب نفسه هو الذي قال فيه القاضي الجليس :
يا وارثا عن أب وجد فضيلة الطب والسداد
وكاملا رد كل نفس همت عن الجسم بالبعاد
أقسم أن لو طيبت دهرا لعاد كونا بلا فساد
ولعله أراد بهذه الأبيات أن يضع بلسما على ما أصاب ابن سيراي من فكاهته السابقة . وقد أتى بمعنى دقيق على عادته في الإطراف بالمعاني الدقيقة ، إذ قال فيه إنه طب دهرا لعاد كونا بلا فساد .
وفي كل ما قدمناه ما يدل على أن القاضي الجليس كانت تجتمع له النادرة الخفيفة والحس الرقيق والقدرة البديعة على سوغ الشعر وصناعته . والحق أنه كان خليقا من حيث شاعريته بكل ما أصابه من مكانة وحظوة في عصره
