الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 689الرجوع إلى "الثقافة"

دراسة حول الدرر الكامنة :, تراجم القرن الثامن، وابن حجر العسقلانى

Share

لعل مؤلفا فى كتب التراجم لم يوجز فى مقدمته وفى بيان منهجه فى خطبة الكتاب كما أوجز الحافظ المؤرخ الشهير شهاب الدين أحمد بن على المعروف بابن حجر العسقلانى الذى عاش فى القرن التاسع الهجرى وتوفى سنة ٥٢ ٨ه . وترجم لرجال القرن الثامن تراجم وافية محيطة فى كتابه الثمين :

" الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة " . وقد ظل هذا الكتاب مطويا فى عالم المخطوطات إلى أن هيأ الله له دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن فأخرجته لأول مرة مطبوعا بالعربية فى سنة ١٩٢٩ م فى أربعة أجزاء كبار ، وهو من الكتب التى آنس بها فى مكتبتى لجلاء أحوال المسلمين والعرب فى القرن الثامن الهجرى حيث كانت تحكم مصر فى خلال ذلك القرن جماعة من المماليك البحرية أولا ، فالمماليك الشراكسة ثانيا . وحيث ولى حكم مصر فى ذلك القرن الملك الناصر بن قلاون فى سلطنته الثانية والثالثة . ثم أولاده من بعده ، ثم الملك الظاهر برقوق أول المماليك الشراكسة الذى كان نهاية حكمه بداية القرن التاسع الهجرى سنة ٨٠١ ه .

وإذا كانت مقدمة المؤرخ ابن خلكان فى كتابه " وفيات الأعيان " وجيزة بالنسبة إلى ضخامة الكتاب وعظم الفترة التى يؤرخ لرجالها ويترجم لأعيانها ، فإن مقدمة المؤرخ ابن حجر العسقلانى فى كتابه "الدرر الكامنة" تعد أوجز ما رأينا من مقدمات كتب التراجم ، فإنها لا تزيد على العشرين سطرا ، على حين أن مقدمة ابن خلكان تبلغ أربعة أمثالها أو أكثر ، وعلى حين أن مقدمة المؤرخ السخاوى فى كتابه " الضوء اللامع ، لأهل القرن التاسع " تزيد بعض الزيادة على مقدمة ابن خلكان فى " وفياته " .

ولعل أطول المقدمات فى كتب التراجم ، وأملأها بفنون القول ، وأغزرها بالأغراض ، وأدلها على الذوق الأدبى والحاسة الفنية فى التراجم هى تلك المقدمة الطويلة التى قدم بها ياقوت الحموى لكتابه " إرشاد الأديب " أو " معجم الأدباء " فى عشرين صفحة - لا عشرين سطرا . . . ولقد حاولت أن أعثر فى كتب التراجم على ما يدانيها طولا فلم أجد . وقد كان ياقوت فيها أديبا ومؤرخا ومترجما .

ولا يزيد عليها فى الطول كثيرا إلا مقدمة "ابن الطقطقى" فى كتابه " الفخرى فى الآداب السلطانية" . ولكنه من كتب التاريخ لا كتب التراجم التى نتحدث عنها اليوم .

وكتاب "الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة" هو أول كتاب من كتب التراجم يترجم لرجال قرن بأكمله . وقد كانت كتب التراجم قبله تترجم للرجال جميعا مهما اختلفت أزمانهم وتباعدت عصورهم . مثل " معجم الأدباء" لياقوت ، و " وفيات الأعيان ، لابن خلكان . ومنذ القرن الثامن رأينا كتبا فى التراجم تؤرخ للرجال والأعيان قرنا فقرنا حتى عصرنا هذا .

ولم ينفرد ابن حجر العسقلانى بقدمة الترجمة لرجال عصره ، فقد اشترك معه فى هذا العمل الجليل طائفة من مؤرخى قرنه ومترجميه ؛ كخليل بن أيبك المشهور بصلاح الدين الصفدى ، فقد استخلص من تاريخه الكبير المسمى "الوافى فى الوفيات" أهل عصره وجمعهم فى كتاب مستقل أسماه " أعوان النصر فى أعيان العصر " فى ست مجلدات . وليس هذا الكتاب مما طبع من التراث الإسلامى ، وقد ذكره ابن حجر نفسه بهذا الاسم الذى ذكرناه به ؛ ولكن المؤرخ جورجى زيدان يذكره باسم " أعيان العصر وأعوان النصر " ويذكر أن منه نسخة فى

الأسكوريال وأياصوفيا ، وأجزاء متفرقة فى مكتبة عاشر افندى بالأستانة .

ويعترف صاحب " الدرر الكامنة " فى مقدمته الوجيزة بأنه استفاد من كتاب الصفدى هذا . بل يذكره فى أول الكتب التى استمد منها مادة كتابه ، كما يذكر كتاب " مجانى العصر " للحافظ المفسر المؤرخ أبى حيان الغرناطى الأندلسى - واسمه محمد بن يوسف - صاحب كتاب " البحر المحيط " فى تفسير القرآن . وقد ترجم له ابن حجر فى الجزء الرابع من الدور صفحة ٣٠٤ ؛ ولم يكتف ابن حجر العسقلانى بكتابى الصفدى وأبى حيان ليتخذ منهما مادة لكتابه . ولكنه استفاد بكتاب "ذهبية العصر " لشهاب الدين ابن فضل الله العمرى و " تاريخ مصر " لقطب الدين الحلبى - واسمه عبد الكريم بن عبد النور - وهو فى بضعة عشر جزءا ولم يتم تبييضه ، و " ذيل سير النبلاء " للحافظ شمس الدين الذهبى ، و " الوفيات " لتقى الدين ابن رافع ، و " ذيله" لابن حجى ، و " الوفيات " لأبى الحسين الدمياطى ، و " ذيله " للحافظ العراقى . و " الإحاطة " لابن الخطيب الأندلسى ، و " تاريخ ابن خلدون" وغيرها .

ومن الإنصاف للناس أن يذكر ابن حجر أسماء الكتب التى استعان بها وعول عليها فى تصنيف كتابه ، وأن يذكر معها أسماء مؤلفيها ، حتى يرد الحق دائما إلى أصحابه ، ويعترف بالجهد لأربابه . وتلك كانت خلة العلماء حين يؤلفون . فنرى " ياقوت الحموى " فى مقدمة معجمه الجليل يذكر أسماء من تقدمه فى تأليف كتب التراجم ولا يكتفى بذكرها فحسب ، وإنما يذكر مدى استفادته من كل كتاب سبقه ؛ فيقول مثلا عن كتاب المرزبانى : ( وقد وقفت على هذا الكتاب ، وهو تسعة عشر مجلدا ، ونقلت فوائده إلى هذا الكتاب ، مع أنه أيضا قليل التراجم بالنسبة إلى كبر حجمه ) .

ويقول فى كتاب الإشبيلى : ( ثم جمع فى ذلك أبو بكر محمد ابن حسن الإشبيلى الزبيدى كتابا لم يقصر فيه ، وهو أكثر هذه الكتب فوائد ، وأكثرها تراجم وفرائد ، وقد نقلنا فوائده أيضا إلى هذا الكتاب ) .

وأين ذلك الزمن النضير الطيب من زماننا هذا الذى يسطو فيه بعض الناس على آثار بعض كأنها نهب مباح لهم ،

ثم يضنون بالإشارة إليهم ، كأنما يحاولون ستر جريمتهم وهى مفضوحة ؟ !

وإذا كانت مقدمة ابن حجر العسقلانى الوجيزة لم تكشف لنا عن منهجه فى الترجمة لأعيان القرن الثامن الهجرى ، فإن مداومة النظر إلى الكتاب ومطاولة الصحبة له تكشف لنا عن أمور تبين خطره وتظهر فضله ، وتحصى لنا من مزاياه ما يجعله خليقا بالمكان الذى احتله بين كتب التراجم العربية الإسلامية ؛ فهو أول رائد لترجمة الرجال على وفق القرون بعد أن كانت التراجم قبله للطبقات على مدى العصور بغير النظر إلى قرن بعينه ؛ وبهذا فتح ابن حجر الطريق لمترجمى العصور الدين جاءوا بعده ، فحذوا حذوه ، وأصبحنا نجد لكل مائة من السنين الهجرية كتابا أو أكثر فى ترجمة أعيان تلك المائة .

وثمة مزية كبيرة لكتاب " الدرر الكامنة " فإننا نلاحظ أن المؤلف ترجم فيه لطائفة كبيرة جدا من أعلام النساء فى القرن الثامن ، فلم يجعل كتابه وقفا على الرجال وحدهم ، ولكنه أضاف إليهم مئات من سيدات الأمة الإسلامية ، اشتهرن بالعلم والفضل والحديث والرواية والعبادة ، فأخذ عنهن الرجال ، وسمع منهن الشيوخ كفاطمة بنت إبراهيم بن داود التى سمع منها الحافظ العراقى ، وكالنضار بنت أبى حيان الغرناطى الأندلسى المشهور التى قال عنها البدر النابلسى إنها كانت تفوق كثيرا من الرجال فى العبادة والفقه ، وكنفيسة بنت محمد بن تمام التى حدثت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمع منها العالم المشهور البرزالى وغيره من رجال القرن الثامن .

وإذا كان ابن حجر العسقلانى كريما كل الكرم فى الترجمة لنساء القرن الثامن الهجرى ، فإن مؤرخا كإبن خلكان كان ضنينا فى الترجمة لنساء القرون السبعة التى سبقته . فلا نصادف فى كتابه وفيات الأعيان " إلا قلة نادرة من النساء يعددن على أصابع اليد الواحدة ، كرابعة العدوية الصوفية ، وشهدة بنت أبى نصر الكاتبة البغدادية والسيدة سكينة بنت الحسين بن على رضى الله عنهم .

والحق أن كتاب " الدرر الكامنة " يرينا صورة مشرقة مشرفة لنساء المسلمين فى القرن الثامن ، فلم تكن المرأة فى خلال ذلك القرن حلس بيت ، ولا رهينة محبس .

وإنما كانت تجلس فى حلقة الدرس والحديث محدثة أو سامعة، وكان العلماء وكبار الشيوخ لا يجدون حرجا فى الأخذ عنها والسماع منها .

ولا يصور لنا كتاب "الدرر الكامنة" نساء ذلك القرن فحسب ، ولكنه يصور لنا المجتمع العربى الإسلامى ويعرض لنا عاداته وتقاليده التى لم يقف منها ابن حجر موقف المؤرخ المسجل فقط ، ولكنه كان يحسن الحسن ويقبح القبيح فأدى رسالته مؤرخا وعالما .

ولقد كان القرن الثامن حافلا بكثير من أحداث الصراع العنيف ضد المغول والتتر؛ ففيه ظهور تيمور لنك الفاتح التترى المشهور الذى كان يفر ملوك المسلمين وحكامهم من وجهه . والذى شهدت بلاد الشام كثيرا من رهبة حكمه وفتحه . ولم يفت ابن حجر أن يؤرخ لملوك التتر وأمراء المغول وسلاطين الأتراك مما يجعل كتابه مصدرا هاما

من مصادر التاريخ الإسلامى فى القرن الثامن الهجري ، فوق ماله من قيمة كبيرة فى تراجم الرجال .

ولقد ترجم ابن حجر لرجال المائة الثامنة فى كل قطر إسلامى إلا الهند المسلمة ، فقد صعب عليه معرفة رجالها لبعد ديارها وقلة وسائل الانتقال إليها . إلى أن قام عالم هندى من أهل جيلنا هذا هو السيد عبد الحى بن فخر الدين الحسنى المولود سنة ١٢٨٦ ه سنة ١٨٦٩ م فألف كتابه " نزهة الخواطر، وبهجة المسامع والنواظر " وترجم فيه لعلماء الهند فى القرن الثامن الهجرى ، فكان بذلك كالديل لكتاب ابن حجر العسقلانى ، وقد طبعته بعد وفاته دائرة المعارف الإسلامية بحيدر آباد الدكن بعد استئذان ولده الطبيب الدكتور السيد عبد العلى ، وهذا الكتاب النادر عندى يؤنس بمكتبتى رفيقه" الدرر الكامنة " .

اشترك في نشرتنا البريدية