الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 704الرجوع إلى "الثقافة"

دراسية نقدية:, ألحان الخلود

Share

- ٢ -

والدكتور زكي مبارك ثائر بطبيعته . ألم يقل ) إن الهدوء يزعجني والجو الذي يثير الشاعرية في صدري هو الجو الحاد ، بالبرد أو بالقيظ . أما الجو المعتدل فهو موسم خمود ، ولعل هذه الطبيعة هي السبب في أن يتسم أدبى بوسم العنف والجموح ١  .

ويوقعه هدره وثورانه الدائم في الغموض ، فكم تقع له على عبارات لا طائل وراءها كقوله جمال الجمال الذي يرددها كثيرا حتى لا تكاد تخلو قصيدة من ديوانه من هذه العبارات وهى أكثر شيوعا في نثره . فصديقه أحمد رشدي ) أجمل من جمال الجمال ( ) ٢ ( وهو يعشق في أسيوط ) روحا جميلة تعيش في شارع ) جمال الجمال ( ) ٣ ( ولا يزيل هذا الغموض تفسيره لهذه العبارة في فاتحه ديوانه ، فقد أهدى ديوانه إلى ) جمال الجمال ( ايضا ثم راح هو نفسه يتساءل عن ) جمال الجمال ( وسطر الجواب على هذا النسق :

" هو شخصية خيالية أبدعتها لنفسي في ١٨ يوليه سنة لقد نسيت التاريخ . أظنني . . أبدعت خلقة جميلة وسميها باسم جميل .

وهذا الغموض والخلط في أسلوبه يعزي إلى القلق النفسي الذي يحسه من شعوره يغبن الناس له . ذلك الغبن المدمي يتمثل في قوله : ) فهمت كل شئ ، وعرفت كل شئ ، وبقى قلي كالغابة المجهولة في ضمير الظلماء . . ( ثم يفصل هذا بقوله : ) فأنا عند أنصار الحزب الوطني شعبي يناصر الوفديين ، وعند الوفديين خيالي يتشبب بالملحقات من زينع إلى جنبوب . وأنا بين المؤمنين ملحد ، وبين الملحدين مؤمن ، وأنا بر

عند الفجار وفاجر عند الأبرار ، فأنا في كل بيئة أجنبي وفي كل أرض غريب . ( ١ ( .

وقد ردد هذا في شعره كذلك كقوله في قصيدة دجلة الثانية :

شجوني وأحزاني كنار فما الذي

يطيب لهذا الدهر من ذلك الحزن

لقد أغرقت قلبي الهموم فما الذي

تروم الليالي من عذابي ومن يبني

تغربت في الدنيا فلا ) مصر ( دارئي

ولا أنا أو في الحياة إلى ركن

فني عبقري الروح لا الناس أهله

وليس له عند الكريهة من خدن ) ٢ (

وإلى هذا الشعور بالغبن تعزي ظاهرة تصيد الألقاب لنفسه كقوله :

) نظمت قصائد كثيرة في تصوير ذلك الوجد المشبوب بصورة قضت بأن تخلع على ) مجلة الحوادث ( لقب ) ملك الشعراء ( ومن قبل خلعت على ) مجلة الصباح ( لقب ) أمير البيان ( ) ٢ ( .

ويقول في موضع آخر : " وفي مجلة الرسالة تجلى قلبي إلى ألطف حدود التجلي ، تجلى شعرا ونثرا بصورة واضحة جلية . كنت أكتب في كل عدد ثلاث مقالات ، المقالة الافتتاحية ، وكان الأستاذ الزيات يقول إنها ) بقلم كاتب كبير ( صدق ؛ ٤ ( .

لكأتى به يفرح حين يشيم من الناس إنصافا ، فهو يسجل ثناءهم كأنما يخشى منهم تراجعا .

وهذا الغبن الذي تثقل وطأنه عليه بنفسه عن صدره بالحديث عما يعانيه وعما يتخيله وعما يفعله . وهذا الشعور الذين أورثه مرارة تدفعه إلى التحدي واللمم لأتفه الأسباب . ومن الطريف أنه يعزو عنفه إلى مولده في شهر أغسطس ) لأنه موسم طغيان النيل ولأنه أعنف أيام القيظ ، وكذلك بسببه أهل لبنان " آب ، اللهاب " ( ) ١ ( .

وهو في ذمه مقذع وإن كان رغم هذا المظهر الخشن طيب القلب نقي السريرة .

تعدد لياليه ) ٢ ( :

هو يريد أن يثبت أنه محبوب وله مهابط وحي هنا وهناك ، وهذا مظهر تعويض ، فهو إن خاصمه الرجال وغمطوه فحسبه الحرد الغيد .

ومن حق الدكتور زكي مبارك أن نذكر بعد هذا حسناته ، ففي ديوان ) ألحان الخلود ( خطرات إنسانية ترف في حديثه عن العبد الذى غاب فيه تلميذه وصديقه أحمد رشدي : ) هذا هو العيد الذي قضيته في النواح على تلميذى وصديقى أحمد رشدي ، فقد رأيت من العقوق أن أخرج من البيت لأتنعم بملاهى القاهرة وأهله يبكون عليه (٣ )

وهو يقارن بين الولد والشعر ) لى أبناء ولله الحمد ، ولكن أبنائي من روحي أعز على من أبنائي من بدني .

إن أبنائي من روحي وهم أشعاري ومؤلفاتي لا يقولون إلا ما أريد أن أقول ، أما أبنائي من بدني فلا يقولون دائما بما أريد أن أقول (٤ )

ومن وراء ديوان ) ألحان الخلود ( إنسان حساس . إن الدكتور زكي مبارك مع سطحه الخشن رقيق الحس ، وليس أدل على رهافة حسه من هذه القصة التي رواها :

) تفضل معالي ) حلمي عيسى باشا ( بدعوتي إلى الغداء في داره بالزمالك لأشترك في تحية الأستاذ إسعاف النشاشبي ، وكان الغداء شهيا ، ولكنني لم أتناول غير لقيمات صغيرات دفت ثمنها علما وأدبا ، وأنا بحمد الله من أكابر العلماء والأدباء وأنوف أعدائي في الرغام .

كان على المائدة " باشا " لا أسميه ، فأنا أضن بالتشريف على بعض الخلائق

رآني ذلك الباشا أضع الخبز في المملحة فقال : خذ الملح بالملعقة .

فقلت : لا تؤاخذني باباشا ، فأنا فلاح ذرعت الأرض من باريس إلى سنتريس ومن باريس إلى بغداد .

ثم قلت : هل تعرف يا باشا معنى كلمة " الزمالك " ! فقال : تسأل صاحب المعالي حلمي باشا . فقلت : إنه لا يعرف ! فقال الباشا : وتعرف أنت ؟

فقلت : أعرف لأنني الدكاترة زكي مبارك ، فاسمع . فقال الباشا : سأسمع فقلت : كف يديك عن الطعام لتسمع . فقال : أسمع ، أسمع ، أسمع

فقلت : الزمالك جمع زملك بضم الزاي وهى كلمة ألبانية معناها الخيمة ، وهى في المكان الذي يقيم به نادى الضباط بالزمالك في هذا الوقت (١ )  ( .

لنقف طويلا عند عبارته ) وكان الغداء شهيا ولكني لم أتناول غير لقمات صغيرات ( كم هزتني هذه العبارة . لقد جرح شعوره انتقاد الباشا الذي لم يرد أن يسميه له على المائدة ، فعزف عن الطعام ) الشهى ( وزهدت نفسه فيه ، ولكنه الفن ناقده درسا بليغا في القيم الحقيقية التي يتضاءل إلى جانبها " فن الاتيكيت " .

والأمثلة على إيبائه وعزة نفسه مبثوثة في أنحاء الديوان لا يعي المتطلع فيه نشدائها .

وأروع ما في ديوان ) ألحان الخلود ( عندي تلك الصورة التى رسمها لنفسه في معتقل الإنجليز البغاة . هنا

قلب إنساني يحقق بالوطنية المصرية في حرارة وصدق وإيمان عميق . هنا ومضات روح تروع وتأسر . مصري يتجرع غصض الجوع : عذابات السجن ، ويلوح له بالفكاك من الأسر إذا نكص على عقبيه وتنكر لمبادئ الحرية ، فيرفض في شمم حتى لم يبق في السجن غيره وحتى حار معه سجانه فأطلقه لما استعصى عليه أمره . إني هنا أنقل بعض خطوط هذه الصورة إنصافا للرجل الكريم

كانت السلطة العسكرية قررت لكل معتقل سبعة عشر قرشا في اليوم يطلب بها من المتعهد ما يشاء . فكنت أطلب طعاما بعشرة قروش وأطلب بالباقي كتبا من مكتبة كان اسمها في ذلك الوقت ( المكتبة العباسية ) وكانت النتيجة  أن أجوع جوعا لم اشهد مثله في حياتي ، فقد كنت وحيد أبي وأمي ، وكان يهمهما التأسيس ، وهو في لغة سنتريس أن ينشأ الطفل بأمعاء قوية تصارع تقلب الأجواء ) ١ ( .

إنها لمحة معبرة ولكنها لا تغني عن الصورة الرائعة التي يجب أن يقف أمامها طويلا أبناء هذا الوطن الكريم .

والدكتور زكي مبارك له طبيعة الفنان . دعته جامعة أدباء العروبة إلى إنشاد قصيدة في مهرجان أدب البحر ، فماذا فعل ؟ لم يأخذ القلم بين يديه ليشرع في التسجيل مستوحيا خياله بل نهد إلى الإسكندرية ليستمع بإذنه هدير الموج . ويرى منه اصطخابه ويستلهمه القصيد ، وهذا هو الصدق في الأدب وفي هذا يقول ) وأنا آخذ أدبى من وحي الحياة لا من وحى الخبال ، ولهذا سافرت إلى الإسكندرية مرتين لأنظم القصيدة وأنا في رحاب الأمواج ) ٢ ( .

وقد احتفل الدكتور زكي مبارك في بداية حياته الشعرية بالمعارضة فعارض قصيدة شوقي التي مطلعها :

مضي وليس به حراك لكن يخف إذا رآك فأحسن المعارضة ، ومن أبياته :

يا من أجلك عن وصا لي في دنوك أو نواك

وأراك مولاي الرحيد م وإن نأي عني جداك

تخطو وتخطر بالأصي ل فلا النسيم ولا الأراك ) ٣ (

ومن الطريف أن الدكتور زكي مبارك في ديوانه ) ألحان الخلود ( سطر لنا قصيدة يقص علينا أنه عثر عليها في مجموعة الأستاذ كازانوفا وهى منسوبة إلى الرسول ويدعي راويها أن النبي ) ص ( نظمها وهو في طريقه من مكة إلى يثرب ، وحدثنا الدكتور أنه بذل جهدا خطيرا في تصحيح ذلك التحريف ، بل حاول أن ينظمها من جديد ثم أقلع إذ رأي في هذا الصنيع جناية على التاريخ ويخيل إلى انه تغلبت عليه الرغبة في نظمها من جديد ، لأن القصيدة عليها طابعه وتتمثل فيها خصائصه ولا يستطيع الناقد تميزها عن سائر قصائد الديوان . لا بل إن الدكتور زكي مبارك نفسه قد اعترف صراحة أنه ناظم القصيدة في ص ٢٨ .

وديوان ) ألحان الخلود ( بعد هذا ) في مجموعه ( قاتم اللون . فصورة صاحبه تطل عليك من بين سطوره تلوح على مقابلها أمارات الشقاء . ولعل من دواعي شقائه أنه تعذب في مدة طفولته الحزينة ، فهو يقول ) لم أعرف في عهد الطفولة معنى جميلا ليوم العيد ، فقد كانت ليلة العيد مشئومة ، كنا نحمل الفوانيس ونمضي إلى المقابر لنسلم على الأموات . وكان صباح العيد غاية في الشؤم ، فإن عائلتنا في سنتريس كبيرة ، وما كان يمر عيد بدون حزن على ميت ، وبهذا كان يجب أن تكون القهوة المرة هى ما نقدمه إلى المعيدين

وكعك العيد - وهو فرحة الأطفال - ما خبزناه في بيتنا إلا مرة أو مرتين ، فقد كان من العيب أن نخبر الكعك وفي العائلة بيت حزين .

لقد تأثرت أعصابي تأثرا شديدا بهذه المناظر التى واجهتني بها الحياة وأنا طفل ، ومضت هذه المناظر تلاحقني من عيد إلى عيد ) ١ ( .

وكان من أسباب شقائه اعتقاله في سنة ١٩١٩ ثم سقوطه في الليسانس مرتين . . وهو المعتد بذكائه ونبوغه .

ثم . . ثم ماذا . . لنستمع إليه يروي قصته :

) ثم توالت متاعب عنيفة إلى أخطر حدود العنف وكان أصعب تلك المتاعب هو هجرتي إلى باريس ، فقد اقمت فيها سنتين كانت من أعجف السنين

ولم أعرف الراحة بعد الرجوع من باريس . هل كانت أيامى وأنا رئيس قسم اللغة العربية بالجامعة الأمريكية أيام هدوء ، ؟ وهل كانت أعوامي وأنا أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب أيام اطمئنان ؟ والسنون التي قضيتها وأنا مفتش المدارس الأجنبية بالملكة المصرية ، هل كانت تلك السنون مما يريح .

وذلك المؤلفات الطوال ، ماذا أخذت من عافيتي وشبابي . والقصائد والمقالات ، ماذا صنعت ؟

عند الله جزائي .

والغربة المزعجة التي قضت بأن أذرع فضاء الله من شاطئ المانش إلى شط العرب .

أنا لا أصدق أن هذا وقع لولا السطور المبثوثة في كتاب " ذكريات باريس " وكتاب ) ليلي المريضة " في العراق .

وهذا الاضطهام الذي يتدفق من جميع الجوانب مرسلا بسخاء من كبار الوزراء . . وذلك الآثام التي تفيض بها السنة المغتابين

إن بعض هذا يكفي لتخلع على اشعاري أثواب الحزن الوجيع ) ١ ( .

وبعد فأنا هنا حين أحلل شعر الدكتور زكي مبارك في هذه الحالة لا أعي أني أتيت بجديد ، فقد سبقني هو إلى كثير مما قلته في خاتمة ديوانه التي كتبها في طريقته في التحليق ثم الانخماص فجأه وعلى غير انتظار . هذه الحالة فيها نظرات صادقة وفيها مزاعم يحلو له ان يرددها فلندعها له ولنقف عند النظريات الصادقات ، وإني لأنقلها عنه على النسق الذي بسطها به لتقوم عذرا لي عنده فى نقده بعد ا=أن قال ) لن يستطيع ناقد متحذلق أن يكتب حرفا في نقد هذا الديوان . فما عرفت اللغة العربية فى تاريخها القديم وتاريخها الحديث قلما أمضى من قلمى أو بينا أبلغ من بياني ) ٢ ( .

ونقده لنفسه فخصه في الكلمات الآتية :

١ - قد يرى القارئ بيتا ضعيفا في قصيدة قوية فيسأل عن السر في الإبقاء على هذا البيت الضعيف .

وجوابي أن ذلك البيت قد يكمل الصورة ، وعلى فرض أنه حشو فالحشو ينفع في إقامة أعالى المباني .

وابن الرومي الشاعر العبقرى قد اعتذر عن الأبيات الضعيفة في القصائد القوية ، فقال ما معناه " إن الشجرة القوية تعتمد في حياتها على أغصان ضعيفة ، وقد صدق .

وفي الديوان مقطوعات لا تحتمل النقد ، لأنها في غاية من الضعف . ولكن أبقيت عليها لأرى فيها الخطوات الأولى من حياتي الشعرية .

٢ - في هذا الجزء هجاء لبعض الخلائق من وزراء وشعراء ، وضميري يؤتيني على ذلك الهجاء ولكنني أ[قيت عليه ليرى فيه الجمهور صورا من العصر الذي نعمت " فيه بمعاصرة أولئك الوزراء والشعراء

٣ - هذا الديوان في جملته لن يكون أقوى من كتاب " النثر الفنى أ, كتاب التصوف الإسلامي ، أو كتاب الموازنة بين الشعراء او رسالة " اللغة والدين والتقاليد " فتلك الؤلفات وأمثالها عصارة عقلى ، أما هذا الديوان فهو عصارة قلبي وروحي .

إن هذه المجموعة الشعرية قطعة من حياتي  الوجدانية ، فليس فيها تزييف ، وإنما هي خواطر فاض بها القلب وعبرت عنها بهذه الألحان . (١)

ولعل ماذكره عن نفسه مضافا إليه ما ذكرته عنه بصور لنا مجتمعا طريقته في فرض الشعر . فهو يرسله كما يجود به خاطره بدون تكلف كالنهر لا يرسم له مجرى يسيل فيه ماءه ، ولكنه يمضي لغايته ويشق طريقه أثناء سيره . فإذا هو مستقيم حينا ، كثير الالتواءات أحيانا ، ولكن كثرة التعاريج في شطئاته لا تهون من رسالته ولا تضعف من قيمته

اشترك في نشرتنا البريدية