الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 34الرجوع إلى "الرسالة"

ذكاء القردة

Share

نبدأ بالتعريف - حضرتها قردة ، مخلوقة من مخلوقات  الله ولا تحقير لخلقه ، ولدت فى ليلة اسود أديمها بمقدار  ما ابيض نجمها ، وغاب نحسها وتراجع بؤسها ، على حين حضر

نعيمها وأقبلت بركتها ، ليلة من تلك الليالي الاستوائية الجميلة  فى دغل من أدغال الكمرون الفرنسية على الشاطئ الغربي  من القارة الأفريقية ، وأصبح الصباح فتحت عينيها ترى

وضح النهر لأول مرة ، وأدبر النهار عن ليل ازدهرت نجومه فرفعت عينيها إلى عل فى خفية وخشوع كانما تستخبر عن  سر هذه الثقوب في القبة السوداء ، وانسلخ النهار من الليل ، وانسلخ الليل من النهار ، فاخذت تدرج من مسقط راسها تتعرف البقعة الكونية التى تحيط بها وهي كل دنياها ، وذات  يوم وهى تفقد الاشجار مع القبيل فى هدوء ، وتدوء وراء  الاحراج فى بطء ، صرخ صارخ القوم ينذر ، فتجاوبت  من كل الارجاء اصوات النذر فجرت القردة تطلب النجاة  فى اعالى الشجر وسواد الغاب ، وضلت امها وتخلفت عن  القافلة فوقعت فى اسر نفر من الصيادين الامريكان جاءوا  يرتادون الناحية لدرس حيوانها وطيرها وكان من هذا النفر  امين من امناء متحف التاريخ الطبيعي بنيويورك فاعجبته  القردة الطفلة فشاء ان يختص بها ويتبناها على قدر ما تمسح  أبوة مثله ببنوة مثلها . فأسماها "ميمي" وحملها معه حيثما  تنقل معسكره فى تلك البقاع الحارة ، وأبي عليه كرمه والعهد  الذي أتخذه ان يضع في يد "ميمي" كبلا او يقيم دونها حاجزا  وكانت هى قد انست من ابيها الجديد رفقا وكرما وامومة  يقدرها الصغار في ضعفهم وقلة حيلتهم ، فلم تحاول ان تهرب من المعسكر مرة واحدة ومضت سنة او بعضها ، ورجع  الأمين عبر المحيط الى بلده واخذ صاحبته معه ، ودخل  منزله الريفي في ضاحية من ضواحي نيويورك العظيمة فلقتيه  زوجة الولاده فسروا بالوافد والوافدة الضيفة  واكرموا مثواها.

واليوم ميمى في منتصف عامها الخامس تزن 46 رطلا  ولا تزال تحتفظ بالشئ الكثير من مظاهر الطفولة وبجميع  اسنانها الرواضع ، وزادت الى هذه أضراسها الطواحن ، بدأتها

فى السنة الثالثة . وكانت وهى طفلة تحتضن كل من تلقى من معارفها ، أما الآن فهي ترغب عن ذلك كثيرا وتطلب الاستقلال وتود أنت تسير وحدها وتتفقد ما حولها بنفسها ، وتختبر الأشياء بيدها وعينها ، الا أن هواها لا يستقر طويلا على شيء واحد . وقد استقام عوده واعتدل قوامها وزادت خطاها ثباتا واتزانا . وكان شعرها يطول إلى جانبي رأسها حتى ليهبط دون ذقنها ، أما الآن فقد قصر قصرا كبيرا . وكان جلد يديها ورجليها ووجهها قائما فأخذ يتبقع بالسواد ، وكانت صورتها  الشمسية تخرج بيضاء وهى تخرج اليوم سوداء.

ومهما كان التغير فى جسمها كبيرا فان التغير فى عقلها وادراكها اكبر ، فهي تستطيع الآن ان تسلي أصدقاءها بما  تصنع ، وتحبسهم الساعة والساعتين وهم مغتبطون ؛ وهى كذلك مغتبطة ، كأنها تحس أنها بذلك تقيم الدليل على ان  معشر الشيمبازي لهم من الفطرة والذكاء حظ لا يقصر  كثيرا عن حظ الانسان منهما.

كانت فى أفريقيا لا تعرف القيد ، ولكن بارتحالها عن تلك الأراضي الواسعة الطلقة ، وبنزولها فى باحة المدنية كثيرة الحدود ، كثيرة الفروض ، كثيرة القيود أصبح لابد من من القيد . فكان فى أول الأمر من الكتان ، ولكن التجربة دلت على قلة غنائه لان ميمي كانت تطلق نفسها منه بالشد

والعض ، فابدل بسلسلة من الحديد من سلاسل الكلاب المعروفة وهذه لم تكن بأكثر كافية ، فما لبثت ميمي أن فطنت إلى أن  الشد الأقوى يفتح حلقاتها . فزاد سيدها الجديد سمكا . فاتجه  نظر صاحبتنا إلى الطوق ، وكان تارة من حبل معقود وتارة من جلد مشدود ، أما الحبل فقد عرفت بالمران كيف ترخي عقدة ثم تتبع ذلك بعضه حتى ينقطع، وأما الجلد فعرفت بالتجربة  المبتدهة أن الريق يلينه فكانت تبله وتشده وتمططه حتى يتسع  فتخرج رأسها منه

وأفادها ذلك التفنن فى حل العقد حتى برعت فى أساليبه.  ربطوها إلى حبل طويل، وربطوا الحبل إلى سارية وعقدوه عندها عقدا كثيرة ، ثم أطالوه بعد السارية إلى حيث لا يهتدي إلى طرفه الآخر. نظرت إلى العقدة الأولى فى تأمل ولن تبلث أن هجمت عليها بأسنانها ويديها فأوسعتها سعة كبيرة ثم نفذت بجسمها منها رويدا رويدا . وأخذت تنظر إلى العقدة الثانية فى تأمل جديد لم يطل كثيرا وفعلت بها كفعلتها الأولى ، وهكذا حتى انحلت العقد جميعها عن السارية . ولما أعادوا عقد الحبل  حول السارية أعادت ميمي حله فى نصف دقيقة وهى فى غبطة من ذلك كبيرة وسرور بين ، والنظارة فى مثل سرورها وغبطتها وحاولت مرارا ان تعقد عقدة فى حبل بنفسها ، ونجحت  فى ذلك مرات ، الا أن طريقتها إلى ذلك كان يعوزها التهذيب فقد كان فيها التواء وتنكب عن المقصد الأهم والغرض  القريب . فكانت فى ذلك كالطفل الانساني يبلغ ما يريد ولكن فى قليل من الرشاقة اللباقة

وميمي على صغرها قوية شديدة ، فانثى الشمبانزي عند  استكمال نمائها تعدل فى القوة من الرجال الأشداء الثلاثة والاربعة . وصاحبتنا بلغت الثلث من نمائها الكامل ، وفي اذرعها دقة، وفي طباعها رفق، قد يخدعانك فى تقدير وقتها . جاء الشتاء فاحتبسوها فى صندوق من الخشب المتين فأخذت تهز حيطانه فى طلب الرياضة لبدنها ، وأعجبها صوته على أرض البدروم فزادت فى هزه بكل حولها ، فكان لابد من تعزيز

جوانبه ، فلما لم ينفع ذلك علقوا الصندوق من السقف بسلسلة فأخذت تؤرجحه حتى دنا من مصباح الكهرباء المعلق  فأخذت به، فكان لابد من استدعاء الكهربائي لنقل موضعه . ونظرت فأبصرت عداد الغاز فزادت فى التأرجح حتى بلغت الحائط وأمسكت بالخزان فخلعته على متانته وثنت الأنبوب ، وكان إلى جانبه نار موقدة فحالت العناية دون انثقابه . ولما أعجزتها حوائط الصندوق أخذت تدفع سقفه حتى انفتح ففرت منه . وأرادت ربة الدار أن تتلفن إلى زوجها ولكن  ميمي كانت قد عمدت إلى التلفون فانتزعت أسلاكه ، وجاءت  إلى سيدتها تحتضنها اغتباطا وشكرا على انفكاكها . وذهبت إلى المطبخ فوجدت الخادم تغسل الصحون فأرادت عونها وتنقلت

بينها برفق غريب فلم ينكسر منها شيء . وكان التليفون أثناء ذلك  قد أصلح فجاء رب البيت أمين المتحف على عجل فخطب رضاء  ميمي وأطعمها ألوانا مستطابة رضيت بعدها ان تنقاد وتتقيد  بعد انطلاق

وكان لرب الدار أطفال ، وكانت لهم دراجات من ذات العجلات  الثلاث يركبونها فى ساحة البيت ، فكانت ميمي تركب مع أحدهم وتمسك الدراجة فتوجهها يمنة ويسرة .  وأرادت أن تركب الدراجة وحدها ولكن قصرت رجلاها عن

بلوغ مواطئ الأقدام منها ، فاشترى لها رب الدار دراجة على  قدها وأجلسها عليها فأمسكت مقابضها بيديها وأمسكت كذلك  مواطئها  برجليها ، وهما كاليدين يقبضان على الأشياء ، ولكنها  لم تدر فى بادئ الأمر كيف تدفع الدراجة بضغط موطئ  واحد دون الآخر فى الآن الواحد ، ولكنها بالمران اليسير  عرفت ذلك . وكانت تنسى فترفع قدميها إلى المقبضين فكان لابد من ربطهما إلى الموطئين ، ولكنها عافت ذلك فكانت تهوى باليد اليهما لتحل الرباط فيصيح بهارب الدار عاتبا فتقلع . وأراد أن يعودها الاستقامة فى السير، فكان يحمل فى يده خوخة  أو عنبة أو طعاما تراه مختارا ويقف به بعيدا ثم يلوح لها به  وهى على الدراجة، فكانت فى بادئ الأمر تنزل عنها فيعتب  عليها فتعود إلى الركوب، وكان همها أن تصل إلى الفاكهة من  أقرب طريق فاستقام سيرها وكذلك طال. وأراد أن يعلمها  كيف تنعطف فكان يلوح لها بالثمرة حتى إذا قاربته انزاح يمينا  فتمر بدراجتها فى استقامة إلى جانبه فلا تنال الثمرة فتصرخ  وتدمدم لهذا الخداع، ولم تفطن إلى تحريك المقابض إلى اليمين.  فأتى بابنه يحركهما لها فعرفت ذلك، وحرصت على القوت الشهي  المغري فتعلمت كيف تميل

وكانت أحيانا يفوتها أن تنعطف فتصل بدراجتها إلى مأزق  كحائط أو ركن فتمد رجلها تدفع الحائط فتبعد عنها قليلا،  ثم تسير الدراجة إلى الأمام وهى تنعطف حتى تصل إلى موضع أخلص من الحائط ، فتدفعها مرة أخرى فتبعد عنها وهكذا حتى تخلص من المأزق تماما وقد نفذ صبرها . ولكنها تعلمت أن تنزل عن الدراجة فتحملها إلى الخلاص ، فكانت تفعل ذلك  فى سرعة الرقة كلما تأزقت وهى غاضبة

وكان يجتمع أطفال الجيران على دراجاتهم ويسيرون  بها فى الطريق صفا يحملون الاعلام ويزأطون يوفرحون ، فتتقدمهم ميمى على دراجتها تتعرف لهم المسالك وهى مثلهم

زائطفة فرحة مغتبطة حتى لتحسبها منهم لولا مظهرها

وكان أمين المتحف يصطحبها معه إلى مقبر عمله فى سيارته فكانت تتشبث باصطحاب دراجتها فلا تنزل عند باب  المتحف . حتى تخف اليه فتركبها داخل المتحف . وكان من  غرائبها انها كلما وصلت الى طبق الحديد الذى يغطى انابيب  المجارى بأرض المتحف تترجل حتما وتجر درجتها عليه ثم تركبها بعد تخطيه مع أنه فى استواء الأرض لا يحسه الراكب . وظهر منها هذا الشذوذ عينه لما سارت فى الطابق الأعلى فانها كانت كلما صادفت فى بلاط الارض أسود تخطته راجلة

وكانت تأكل مع صاحبها فى مطعم المتحف ظهرا فتسير اليه بالدراجة وتذهب إلى مكانها دون تلكع فيهيجها صوت الآكلين وقرع الصحون وشميم الاطبخة فتصرخ فيبتهج لصراخها أصدقاؤها الكثيرون من حولها. وتدور بعينيها تطلب حاملات الطعام فاذا بصرت بهن هزت جسمها سرورا وتلفظت بالرضاء،  فاذا استقر الطعام أمامها رفعت شوكة أو ملعقة من ذات  نفسها، وقد تخطئ فترفعها بيسارها فتنقلها إلى يمينها ولكن بعد امساكها بفمها. وهى تأكل البسائط، فتأكل الخبز والزبد واللبن والبطاطس والسبانخ والفول الأخضر والخس والطماطم  والفواكه وشيئا من اللحم أحيانا، واختصارا كل ما كان يأكله الناس. وهى تحب الحلوى كائنة ما كانت ساخنة أو مثلوجة

وإذا انتهت من الطعام بسطت منديلها فمسحت به وجهها

وتشرفت ميمي بدعوة من رئيس المتحف الأمريكي العام للتاريخ الطبيعي فى وليمية رسمية كبرى، فذهبت فى سيارة  إلى بؤرة المدنية لأول مرة، فاخترقت الطرقات العظيمة على أضوائها الشديدة وزينات مسارحها الباهرة، فى جو ملئ بنغم الاوتار ونفخ المزمار وأدخنة السجائر والسيجار وأبواق  السيارات وضجيج الحجيج من أهل اللباس الأنيق والزي  الرشيق والذوق الرفيع. فأهاجت ميمي كل تلك المظاهر لاشك  ولكنها صممت كأنما تفكر فى موطنها الافريقي. وجاء  أوان النزول من السيارة فخفت ميمي إلى دراجتها وسارت  بها عبر البهو إلى قاعة الطعام الكبرى فاتخذت مجلسها بين  الضيوف، وجاءتها الصحفة بعد الصحفة. فأكلت بأدب من  كل لون. وجاء دور الكلام فأصغت كأنه تستمع للخطباء  فلم تنبس بكلمة ولم تطرف بعين الا عندما جاء المصورون  يصورونها على ضوء المغنسيوم فانها اخذت تطرف لكل صورة حتى استتموا عشرا. وانتصفت الليل فانفض الجمع وهم  معجبون بميمي. وقال قائل منهم ما إلى هذا الحد يبلغ الأطفال من الأدب والكمال

اشترك في نشرتنا البريدية