الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثاني عشرالرجوع إلى "الرسالة"

ذكرى المولد ...

Share

فى مثل هذا الأسبوع من مثل هذا الشهر لسنة ثلاث وخمسين  قبل الهجرة أعلن الله كلمته من جديد، فى استهلال هذا العربى  الوليد!!

وكانت قافلة الحياة يومئذ جائرة السبيل حائرة الدليل خائرة  العزيمة. والعالم الإنسانى يكابد فى هيكله المنحل عوامل البلى من  وثبة توبق الروح، وجاهلية توثق العقل، ومادية ترهق الجسد.  وكانت الولاية عليه فى ذلك الحين لأعقاب من الروم شفهم  الفسوق والترف، وإخلاف من الفرس هدهم الغلول والطمع،  والناس عدا هؤلاء وأولئك أوزاع وهمج .. اللهم إلا شعبا نبيل  الفطرة اعتصم بالصحراء من هذا الفساد الشامل، فما عبث بضميره  سلطان، ولا عدا على خلقه طاغية ... نشأته الطبيعة على سجاياها  المرسلة، وراضته على نظمها المحتومة، وصفاه (الانتخاب الطبيعي)  بالغزو المتلاحق والدفاع المتصل، فأودى بضعيفه، وأبقى على قويه،  حتى لم يدم على أديم الجزيرة إلا سيف صارم، وفرس جواد،  ودارع بطل! ثم تنخل من هذه الصفوة الباقية فى القرن السادس  أمة وسطا تحمل فى قوة الحيوية، وكمال الرجولة، وصفاء الحس،  المثل الأعلى للإنسان الأعلى (سوبرمان) .

تلك هى الأمة العربية التى اختارها الله لقيادة شعوبه الحائرة ،

واختار منها محمدا لتبليغ رسالته الاخيرة ...

بين إيوان كسرى وبلاط قيصر اهتز مهد العربى اليتيم فى  أرض مكة! فتصدع لهزته الايوان، وتطامن لهيبته القصر!!  وكأنما هتف بالعاهلين العظيمين من جانب الغيب هاتف: " اليوم  ينتهي تاريخ ويبتدىء تاريخ! ليس بعد اليوم ملك ولا كاهن ولا  سيد! إنما العبادة لله، والقيادة للرسول، والسيادة للدين،  والحكومة للعرب، والدنيا للجميع!!"

وبين عرش قيصر وعرش كسرى انتصب منبر النبى الكريم  فى سماء "المدينة" فتضاءل لجلاله عرش، وتقوض لدعائه عرش!  ثم انبثق نوره القدسى فى مجاهل البدو ومعالم الحضر، كما يبتسم  الأمل فى قطوب اليأس، وتومض المنارة فى ظلام المحيط!

هنالك ظهرت الوحدانية على الوثنية، والغيرية على الأنانية،  والإنسانية على العصبية، والإسلام على الجاهلية، ثم عرف الإنسان  قدر الإنسان، وأدركت النفوس جمال الإحسان، ووجدت قافلة  الحياة طريقها القاصد!

كان العالم يقاسى حين ولد محمد بن عبد الله تفكك الخلق، وتحلل  الرجولة، وضياع المثل الأعلى، فكان أكمل ما فى حياة (الأمين)  هذه الصفات النوادر: خلق عظيم شهد به الله، ورجولة كاملة  خضع لها الناس، ودين يجمع الي سعادة الدنيا سعادة الآخرة،  ورسالات الرسل إنما تعالج بظهورها الفساد الذى استشرى فى  العالم، والداء الذى استفحل فى الناس . فإذا كانت معجزة الرسول  فى القرآن، فان مجده فى الخلق، وفوزه بالرجولة. والشعوب المختلفة  التى صهرتها شخصية العرب، وطبعتها ثقافة العرب، لم تصل إلى  الأخاء والوحدة إلا على منهاجه وهديه.!

ظهر رسول الله والعرب أشتات من غير جامع، وهمل من  غير رابط، وأحياء من غير غرض، فاضت فى نفوسهم الحياة،  وزخرت فى صدورهم القوة، فصرفوا هذا النشاط العجيب إلى

نزاع لا ينقطع، وصراع لا يفتر. فحمل إليهم وحده رسالة الله  لا يسنده سلطان، ولا يؤيده جيش، ولا يمهد له مال، فنفروا منها  نفور الوحش المروع! ثم رأوا فيها سيادة لأسرة، وخضوعا  لقانون، وخروجا على عرف، فقابلوها بالعناد وعارضوها بالحجاج  ودافعوها بالكيد. آذوا الرسول فى أهله وفى صحبه وفى نفسه،  فما وهن عزمه ولا لانت قناته. وإنما قابل الأذى بالصبر، والسفه  بالحلم، والفضاضة بالرقة، وهذا هو الخلق؛ ثم قارع الجدال بالتحدى،  والمكابرة بالسيف، وهذه هى الرجولة: وبذلك الخلق وهذه  الرجولة انتصر محمد وحده على العرب! وبذلك الخلق وهذه  الرجولة انتصر العرب بعده على العالم!

فلينظر اليوم شعب محمد وأتباع محمد ماذا فى نفوسهم من دينه.  وفى أخلاقهم من خلقه، وفى أيديهم من تراثه؟؟ فإن وجدوا أن  دينهم أصبح رسما محيلا فى نفوس الخاصة، وأثرا مشوها ضئيلا  فى نفوس العامة، وأن أخلاقهم فقدوها يوم فقدوا الحرية،  وأضاعوها يوم أضاعوا الملك، وأن تراثهم أصبح نهبا مقسما بين  شذاذ الشعوب وذؤبان الأمم، فليفيقوا من النوم، وليخففوا  عن القدر اللوم، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة! ومن عاند  طبيعة الحياة فقتل فى نفسه الطموح، وفى فكره التجدد، وفى عمله  الابتكار، ورضى أن يكون فى الدنيا كالأثر فى المتحف، إنما يدل على  ملك باد وشعب انقرض، كان يسيرا عليه أن يدع دينه للمبشرين،  ووطنه للمستعمرين، ثم يقعد مقعد الخوالف يتحسر على المجد  المفقود، ويتعلل بالأمانى الكواذب!!

ان ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الانسانية من اسر الاوهام، وطغيان الحكام ، وسلطان القوة ، وتحكم الجهالة . فما أجدر النفوس الذاكرة الحرة على اختلاف منازعها أن تخشع اجلالا لذكرى رسول التوحيد والوحدة , ونبى الحرية والديمقراطية ، وداعية السلام والوئام والمحبة !! وما اخلق الزعماء الذين يحاولون اليوم توحيد العرب من جديد ، أن يتخذوا منهاجه سبيلا الي هذا العمل المجيد !!

اشترك في نشرتنا البريدية