الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 80الرجوع إلى "الرسالة"

ذكريات وتجارب، أول درس ألقيته. . . . . . *

Share

أبداً لا أنسى السعاة الرهيبة العصيبة التي ألقيت فيها  أول درس من أول فصل! كان ذلك منذ سبعة عشر عاماً والسن  حديثة والنفس غريرة والنظر قصير، وكانت المدرسة ثانوية  أجنبية، تجمع أخلاطاً من الأجناس والأديان، وأنماطاً من  الأخلاق والتربية، وكنت قد أدركت قسطاً من العلم النظري  على الطريقة الأزهرية، وشدوت طرفاً من التعليم الفني على  الطريقة اللاتينية، إلا أن ما حصلت منهما كن لايزال طافياً في  ذهني، متحيراً في فكري، لايطمئن إلى ثقة، ولايستقر على  تجربة! أضف ذلك إلى طبع حَي، ولسان من الخجل عيني، ووجه  للقاء الناس هيوب!

قضيت موهناً من الليل في إعداد الدرس: أراجع مادته  وأرسم خطته وأسسد خطاه، ثم احتفلت لكلام أقابل به التلاميذ  قبل التمهيد للدرس، وغدوت إلى المدرسة أقرع باب الأمل  المرجوـ وأستطلع ضمير الغيب المحجب. دق الجرس فجاوبه  قلبي بدقات عنيفة كادت تقطع نياطه وتشف لفائغه، وقمت أجر  رجلي وبجانبي مفتش الكلية جاء يقدمني إلى الطلبة. دخلنا  الفصل فحيانا التلاميذ بالوقوف، وقال المفتش فأطال القول وأجزل  الثناء، ثم خرج وبقيت!!

أقسم أني أقول الحق وإن كنت أجد بشاعة طعمه  ومرارة ماقه على لساني! لقد نظرت إلى التلاميذ نظرة حائرة،  ثم رجعت إلى نفسي أحاول إخراج ما فيها من الكلام المهيأ  المحفوظ، فكأن ذاكرتي صيفة بيضاء، وكأن لساني مضغة  جامدة لا تحس!

السكون شامل رهيب، والأبصار شاخصة ما تكاد تطرف،  ووجه الشباب ترتسم ألوان مختلفة متعاقبة من خطرات  النفوس ونزوات الرؤوس، وأنا واقف منهم موقف المحكوم  عليه، أعلج في نفسي الخور والحَصر، وأجهد في لم ما تشعث  من ذهني وتبدد من قواي، حتى هداني الله إلى طريق الدرس،

فاعتسفته اعتسافاً دون مقدمة ولا تمهيد ولا عرض!! أتريد أن تعفيني يا صديقي من وصف هذا الدرس صوناً لسر  المهنة؟ ولكن لماذا نتدافن الأسرار ونتكاتم العيوب؟ إن  في الدلالة على أوعار الطريق ومضايقها ومزالقها تحذيراً للسالك  الباديء، وتبصره للنشيء الغرير

دأت الدرس بصوت خافض وطرف خاشع ولسان مبلبل،  وسرت فيه وأنا واقف، لا أدنو من السبورة مخافه أن أحرك سكون  الفصل، ولا أملس الطباشير خشاة أن أسى الكتابة!!

ان من المعقل أن يعاودني الهدوؤ ويراجعني الثبات بعد  زوال دهشة الدخول وربكة البدء لو كنت واثقاً من نفسي  متمكناً من درسي، ولكن نظام الموضوع كان قد انقطع  فتبعثرت حباته وتعثرت خطواته، ورحت أسرد ما تذرته منه  وأنا أشعر بكاماتي تحتضر على شفتي، وبريقي يجمد في فمي، وبعرقس  يتصيب على جبيني، حتى فرغت، ثم جلسن أبلع ما بقي  من ريقي، ونظرت فاذا الساعة لم يمض نصفها، وإذا التلاميذ  يتلاحظون ويتهامسون وعلى شفة بسمة خبيثة لولا تعود  النظام وقوة التهذيب لعادت قهقهة صاخبة!!

ماذا أقول بعد أن نفذ القول؟ وبماذا أملأ الفراغ الباقي من  الوقت؟ وكيف اؤخر انفجار هذه الضحكات المكظومة؟ أسئلة  كانت تضطرب في خاطري القلق فلا أجدها جواباً غير الحيرة!!  حتى تطوع تلميذ جريء   (لانقاذ الموقف)  فقال: (احك لنا حكاية يا أفندي بأي!)

ولم تكد شفتاي تنفرجان عن مشروع الرد حتى ابتدرني  آخر:

(لا يا افندي، اتكلم لنا شويهْ إنشا شفهي) وآخر:   (حضرتك حتدينا على طول؟) وآخر:   (أسم حضرتك إيه يا أفندي، والله انت راجل  طيب!)

وآخر:   (فلان صوته جميل يا أفندي، خليه يغني شويه) فقطعت سيل هذه الأسئلة المتجنية الساخرة بهذه الجملة  الحيية المتواضعو:

على كل حال كاد الوقت ينتهي فلا يتسع لشيء من هذا

- ولكن صوتاً أشبه بصوت القدر قد انبعث أقصى الحجرة يقول: (أوه! دا لسه ساعة وربع! حصة العربي ساعتين كل يوم!) -  ساعة وربع؟؟ نعم ساعة وربع! أقضيها على هذه الحالة  الأليمة كمل شاء نظام ٠الفرير)، أو كما قضى الجد العاثر والطالع  المشئوم!! وإذن لا مناص من انفجار البركان ووقوع الكارثة!

كأنك تريدني على أن أسوق إلي بقية القصة!! حنانيك! لا تكلفني هذه الخطة، واعتمد على نفسك  وحدسك في التخبر والاستنتاج!! لقد انحل النظام فتشعث الأمر وانتشر؛ وأذكر أني

حاولت الكلام مراراً فلم أسمع صوتي من اللغظ! فجعلت قيادي  في يد   (اولادي)  ثم سكت حتى نطق الجرس!!

خرجت من الفصل أميد من الهم وأجر ذيل الفشل السابغ  الضافي، وفي نفسي أن أترك التعليم وهو حديث صباي ومنتجع  هواي الى عمل آخر يصلح لي وأصلح له!!

ولكني عدت الى الفصل، ومضيت في التعليم، وكنت  بعد شهرين اثنين مدرس الفصل الأخير وأستاذ الكلية الأول! فما الذي جعل من اليأس أملاً، ومن الفشل فوزاً، ومن  الضعف قوة؟

إسمح لي أن أكون صريحاً فيما كان لي، كما كنت صريحاً  فيما كان علي

قد التمس الوصلة الى النجاح في أسباب خمسة كله معلوم  بالضرورة مؤيد بالطبع، ولكن العلم غير العمل، والرأي خلاف  العزيمة، والتجربة وجود الفكرة وواقع الحقيقة

(١)  مواصلة الدرس وادمان النظر - فلم أترك كتاباً في  المواد التي أدرسها حتى تقصيته أو ألممت به، واستفدت منه.  وكان جدى ذلك علي وثوق الطلبة بما أقول، وظهور التجديد  فيما أعمل، وتصريف الدرس وتنويعه على ما اجب. ولن تجد  أشفع للمدرس من سعة أطلاعه وغزارة مادته

(٢)  اعدد الدرس واداؤه - وكان يعنيني على الأخص  ربطه بالدروس السابقة، والسير فيه مع الطلاب خطوة خطوة على  الطريقة الاستنتاجية (inductive) ثم تلخيصه بطريق الاسئلة.

فكان من حسن اعداده أن ملأت لوقت كله به، فلم يعد فيه  فراغ لعبث عابث ولا تجني سفيه، وجررت اليه أذهان الطلاب  بالتشويق والتطبيق والسؤال فلم يصبهم سأم ولا ضيقن وشغلتهم  به عن أنفسهم وعني فلم يفرغوا الاصطياد نكتة ولا لالتماس غميزة.  وليس أعون على حفظ نظام الفصل من ملء الوقت بالمفيد الممتع،   ولا أضمن لجودة شرح المعلم وحسن استماع التلميذ من غهم الموضوع.

(٣)  مسايرة الترقي - فلم اتشبث بالقديم، ولم أتعصب  للكتاب، ولم أعن إلا بما له قيمة عملية. فالموضوعات منتزعة  من حياة التلميذ وحال المجتمع، والأمثلة مستنبطة من أساليب  العصر ومواضعات أهلهن والبحث حر في حدود المنطق، يقوم  على أساس التحليل والنقد والموازنة. وفي تشابه الفكرة والنزعة  والغاية توثيق الصة بين المعلم والمتعلم.

(٤)  حسن الخلق - ولعمري ما يؤتي المعلم إلا من إغفاله  هذه الجهة. فالادعاء والتظاهر، والكبرياء، التفاخر، والبذاء  والتنادر، والكذ١ب والتحيز، والسل والتدليس، آفات  العلم وبلايا المعلم. وما استعبد النفس الشابة الحرة كالخلق الكريم،  ولا يَسر تعليمها وتقويمها كالقدوة الحسنة. ناهيك بما يتبع  ذلك من جمال الأحدوثة واستفاضة الذكر، وهما يزيدان في قدر  المعلم واعتبتره، ويغنيان التلاميذ الجُدُد عن اختباره

(٥)  قوة الحزم ٠ فكنت ألين في غير ضعف، وأشتد في  غير عسف، وأسير بالطالب إلى الواجب عن ريق ضميره  وحسه، لا عن طريق تأنيبه وحبسه، وأجعل رضاي عنه غاية  ثوابه، وسخطي عليه غاية عقابه، وأعده الوعد فلا أذهل عن  تنجيزه، وأحكم عليه الحكم فلا أنكل عن تنفيذه، وأستعين على  فهم عقليته ودرس نفسيته بانشائه فأعامله بما يوائمه، وأعالجه  بالدواء الذي لائمه

كل ذلك يسعده طبغ غالب، ورغبة حافزة، ومرن  طويل، وقدَر من الله جعلني أجد سعادتي وراحتي في الفصل  وبين الطلاب، أكثر مما أجدهما في البيت وبين الأصحاب ولكن المعلمين وا أسفاه كما بدأهم الله يعودون! فليت شعري  هل يكون الدرس الأخير في مبد إمماتي، كما كان الدرس الأول في  مبدا حياتي.

اشترك في نشرتنا البريدية