لأدباء الغرب شغف خاص باستقصاء الآثار والرسائل الخاصة لأعلام الكتاب والمفكرين، وكثيراً ما يؤدي هذا الشغف إلى نتائج أدبية باهرة، فيظفر البحث بآثار ورسائل جديدة لها قيمتها في درس شخصية صاحبها. ومنذ بضعة أعوام ظفر الكاتب الفرنسي مارسل بوثرون بطائفة من رسائل بلزاك الخاصة إلى صديقته مدام (زولما كارو) . واونوريه دي بلزاك هو القصصي الفيلسوف الفرنسي الذي تعد آثاره من أقيم ما أنتج الأدب الرفيع في القرن التاسع عشر. ونشر مسيو بوثرون بعض هذه الرسائل في مجلة (العالمين) سنة ١٩٢٣؛ ثم ظفر بطائفة جديدة منها، وجمع الجميع في كتاب واحد صدر أخيراً، وعنوانه (مراسلة لم تنشر لبلزاك)
وليست هذه الرسائل غرام كما يتبادر إلى الذهن، ولكنها رسائل صداقة خالصة؛ وهذا النوع من المراسلة نادر في حياة أكابر الكتاب إذا كتبوا لامرأة يشغفهم سحرها، ولكن بلزاك كان فيلسوفاً. وقد جمعت بينه وبين مدام زولما كارو ظروف عرضية، فقد كانت تقيم مع زوجها الضابط كارو
حوالي سنة ١٨٢٠ بجوار أخت لها تدعى لور وهي زوجة مهندس يدعي سير فيل، وكان بلزاك يزور صديقه المهندس سير فيل وزوجه، فتعرف بالطبع بأختها مدام زولما، ونشأت بينهما صداقة حميمة، وكان بلزاك يشعر نحو مدام زولما بعاطفة حنان خاصة ليست هي الحب، وكانت مدام زولما تبادله عطفه وصداقته، لما نقل زوجها إلى بعض مدن الأقاليم، سافر بلزاك لزيارتها،
وأقام حيناً إلى جانبها، وكان أثناء بعده عنها في باريس، وحينما تحتجزه صاحبته المركيزة دي كاستري، ينفس عن نفسه بالكتابة إلى مدام زولما، وتكتب هي اليه، وكان بلزاك يودع هذه الرسائل كثيراً من أسرار روحه وقلبه وآماله وشجونه، ويصوغها في قالب رفيع من البلاغة، وذهب في إكباره وصداقته لمدام زولما إلى حد أن أهدي إليها قصته (منزل نوسنجان)
ثم وقع بلزاك في حب الكونتس هانسكا، وأثار هذا الغزو الجديد قلبه شجناً واضطراباً، فكان كلما غلبه الشجن، أو ضاقت به السبل وأرهقه الدائنون يفر إلى مدام زولما فيقيم مع هذه الأسرة المحبوبة أياماً يروح فيها عن نفسه خلال الإيناس والزهر
وبعد فترة طويلة من الزمن قضاها الكاتب الكبير في متاعب وأزمات مختلفة اقترن بصاحبته الكونتة الأجنبية سنة ١٨٥٠؛ ولكنه لم يعش بعد زواجه سوى ثلاثة أشهر، ولكن مدام زولما عاشت بعده أعواما طويلة؛ ولها اليوم حفيدة على قيد الحياة تدعى مدام جورج بابيل؛ واليها يهدي مسيو بوثرون رسائل بلزاك الجديدة

