هيجل من أكبر المفكرين المعاصرين من الأسبان ، ولد فى مدينة بلباو . وقد شغل منصب الأستاذية للغة اليونانية فى جامعة سالامانكا . وهو رجل انفعالى عاطفى يمزج قلبه بكلماته . يحترق حباً للحياة ، وإحساساً بها ، ويرى فى التجريد غطاء للأفكار الميتة ، يعجب القارئ بحيويته المتيقظة التى جعلته على اتصال وثيق بالتراث العقلى فى منابعة الأصلية ، فى أوربا وأمريكا . وقد أهلته ثقافته الواسعة للكتابة فى الشعر ، والقصة ، والنقد ، والفلسفة . ولعلك إذا حللت الطابع الأسبانى - بشرط أن تدع جانباً أثر حضارة البحر المتوسط عليه - أن تتعرف فيه على أصلين رئيسيين : الباسك بخدولته ، وقوته ، وجده الصارم ، والأندلسى برقته ولطلفه وسحره . ومفكرنا يمثل الجلس الشمالى ، أى الباسك ، أحسن تمثيل ، فالرجل جاد دائما ، ترى ذلك من نظرته الفكرية والروحية الى سر المصير الإنسانى على هذه الأرض ، فهو ممن يأخذون الحياة بمعناها الدرامى . والرجل مسيحى ، ونقصد المضمون الروحى لهذه الكلمة ، بل هو الوريث الحق لهؤلاء القديسين والمنصوفة من الأسبان ، وإن يكن اليأس والشك يغمرانه جميعاً . وهو فردى ، لا بالمعنى الذى يريده الفوضويون ، ولا بمعنى التقابل بين الحرية والسلطة ، بل بالتقابل بين الأبدية والديمومة الزمانية . هو على أى حال فارس تراه فى مجاهل الروح ، يبدأ مغامراته وكما يقال ، بعد أن يكون قد أحرق سفنه . . وقد يتفوق عليه غيره فى تنوع التجربة الأدبية ، أو فى أحكام البناء الفنى ، أو فى دقة التفكير الفلسفى ، ولكنه يظل أفضل من يعبر عن الروح الأسبانية المعاصرة .إنه يمثل الصراع بين الإيمان والعقل ، بين الحياة والفكر ، بين الكنيسة والمدنية ، وهو صراع أسبانيا نفسها .
وهذا فصل نقدمه لك من كتابه الأخير " الغرائب والمنازعات ".
يا صديقى الشاب ، ليس فى مقدورنا أن يفهم أحدنا الآخر ، فأنت تتحدث بلغة غير لغتى ، وكلانا يرفض أن يترجم لصاحبه ما يقول . إن مجرد سماعى لنوع الجمل التى تستخدمها ، تلفظها شفاه آلية ، لتجعلها شيئاً مغلقاً على لا سبيل إلى تعقل معناه .
من بين هذه الجمل طريقتك فى استعمال هذه الكلمة ( يصل ) . إن معناها يوغل فى الغموض شيئاً فشيئاً ، بريك فسر لي ما يراد بقولنا : " لقد وصل هذا الشئ أو ذاك " . أو " أن جون دو لن يصل أبداً " إن من أعسر الأمور على شاب يافع أن يصل اليوم " ، وما شابه هذه من تعبيرات ، ما الذى تقصده بالوصول ؟ وإلى أين نصل ؟ إن ثمة غاية واحدة محتومة لا مفر منها ، ألا وهي الموت ، وربما كان من الخير أن ننعته بالرحيل .
ولعلك تذكر من أساطير اليونان نبأ هذين العملاقين أوتس وإلياليتس . فلقد هددا بإعلان حرب لا هوادة فيها على الخالدين . . وكانت وسيلتهما إلى ذلك أن يضعا جبل أوستا فوق جبل الأوليمب ، وأن يلقيا بجبل يلبون على جبل أوسا ثم يصعدا إلى السماء . ولو أنهما كانا أكبر سناً ، كما يقول يوليسوس ، لكتب لهما النجاح . إلا أن أبوللو قد عاجلهما من قبل أن يشرق فجر الشباب على وجههما النديين .
أفأنت تحاول ، يا صديقى الشاب ، أن تصل إلى السماء بأن تكوم جبلا فوق جبل ؟ هل يساورك الخوف من أن يدركك الموت ولم تبلغ أوج شبابك الروحى ؟ إذا كان هذا ما تريد فقد فهمت ما تقصده بكلمة " يصل " أما إن
كنت محطئاً فلا شك أنى قد فاتنى مرادك .
يا ويلك لو جاء هذا اليوم الذى فيه " تصل " !
عندئذ سترجع إلى الوراء وستصيبك النكسة . وهذا ما يجعلنى أناشدك دائماً أن تكون لك آمال لا تأسف عليها إذا ضاعت ولا تفرح بها إن أقبلت ، آمال تظل خضراء أبداً ولا يؤودها حمل الثمرة . . هى الرجاء فى الوهج الأزلى للرجاء .
إنك لا تسيغ كثيراً أن ينقدك ناقد ، أو يرد لك رأى يا ليتك كنت على غير هذا ! .
حين تجد نفسك فى يوم من الأيام وقد صرت كاتباً ناجحاً ، ويفهمك الجميع ، ويحبك الجميع ، حين مجئ ذلك اليوم فتجد ناقديك أو أبناءهم ، ينحنون أمامك فى إكبار وإجلال - لو قدر عليك أن ترى هذا اليوم التعس عندما تكون روحك قد شاخت وهرمت . عندما كان دانتى يكتشف مملكة الموتى وجدهم وقد أخذتهم الدهشة أن يروا له ظلا ، ومن هذا الظل أنه حى . ولو لم يكن له ظل لكان قد عبر باب الموت ، هنالك حيث تبتلع الظلمة كل الظلال . ويوم لا تلقى أمامك ظلا تكون قد دخلت مملكة الخالدين .
أجل إنى لأعلم مقدار قوتك إلى دخول هذه المملكة مملكة الفراغ والأحلام والموت الحالد ، ولكن خبرنى بربك قل تؤمن حقاً أن الفريسة تساوى عناء اصطيادها ، أو أن النصر يستحق القتال فى سبيله ! .
حين نصيب امراً يجرح ويصرخ ، فأنت حى ، أما إذا لم يحرك ساكناً ، فواحد منكما لا محالة الميت ، وربما كنتما معاً .
يوم يهتف الناس قائلين عنك إننا نفهم هذا الرجل ، تكون قد فقدت كل شئ ، ذلك لأنك لم تعد ملك نفسك ، بل ملكا لهم وسوف تحرص فى مستقبل أيامك على أن تقول لهم ما توقعوه منك ، وما أرادوك على قوله . لا ما أردت .
لست أفهم البتة شيئاً مما نجد فى البحث عنه . بربك خبرنى . . وقاك الله شر الظن بأنك قد بلغت الكمال ، فإنك لو فعلت فلن تلبث أن تتراجع ثم تنحدر . هناك كلمة لاتينية تفيد الانتهاء والتمام هى كلمة periection ، ومعناها الكمال . حذار من الكمال من الحق أننا أمرنا أن نكون كاملين كأبينا الذى فى السماء ، غير أن الكتب المقدسة تزخر بالمفارقات ، وذلك واحدة منها . ومن الحق أيضاً أن المفارقة والاستعارة والرمز كانت من الوسائل المألوفة فى تعاليم السيد المسيح . ولقد وضع لنا مثالا من الكمال لا سبيل إلى دركه أو القرب منه ، فكان القوة الوحيدة التى تحفزنا على إتمام ما نستطيع . ليس فى طاقتنا أن نصل إلى الكمال الإلهى . لذلك وضع أمامنا هذا الهدف .
ربما أنبأتنى بأن الغاية من هذا الهدف هى أن يعرف الإنسان نفسه ولا شئ سواها ، وربما ذكرتنى بهذه الحكمة المشهورة التى كتبت على معبد دلف وما أكثر ما أسئ التمثل بها . والحق أننى لا أدرى إن كانت معرفة النفس هى بداية الحكمة أو نهايتها ، ونهاية الحكمة - ككل نهاية سواها - أمر مزعج .
وأحسب أن من الخير أن نغير الحكمة المشهورة فنقول : " أدرس نفسك " أدرس نفسك وأمعن فى دراستها ، سواء عرفتها أو لم تعرفها ، فربما كان من الخير أن تبقى على جهلك بها . وكلما أوغلت فى درسك هذا ازداد تعمقك الروحى ، واتسعت آفاقك ، وشق عليك أن تعرف نفسك .
ادرس نفسك فى كل حين ، عندما تعمل ، وعندما لا تجد شيئاً تعمله . إن أعظم ما تجنيه على نفسك من شر ، أن تعكف على ضميرك تسير غوره ، بينما تطويك الوحدة ويغمرك الظلام . اخرج به إلى ضوء النهار ، إلى الأفق الرحيب . . أمام وجه الشمس .
كنت نبهتك من قبل إلى أمر المذكرات الذاتية ، ولكن يبدو أنك لم تفهمنى جيداً ، إن المذكرات الذاتية هى أعدى
أعداء الذاتية . إنها تحطمها وتحيلها إلى تراب . أعرف من الناس من كان يواظب بل كتابة يومياته فكان فى أول عهده بها يكتب ما يشعر به ، ثم ينتهى به الأمر إلى البحث عن الشعور لكى يجد ثم ما يكتبه ، وقد يصحو فى الصباح وهو فى حيرة من أمره ماذا عساه يدون فى يومياته . وكل ما قال أو فعل فعليه أن يحفظه جيداً ، إن مذكرته اليومية مائلة أمامه لا تريم ، وهكذا صار الرجل ملك يوميته ولم تعد ملكا له ، وتلك هى آفة كل مجال ضيق محدود .
حين يحاول العلماء فى التحليل الكميائى العضوى أن يدرسوا مركباً عضوياً معقداً يجدونه وقد تحطمت وحدته بين أيديهم ولم تبق منه إلا عناصر تحصلت عن التحليل والتجزئة ؛ هذا مثال يصدق فى الحكم على التحليل النفسى للشخصيات الروائية ، وهذا ما جعل الروايات النفسية المزعومة تحشد أوصافاً لحالات شعورية ، وينذر أن تلقى فيها روحاً طبيعية كاملة التكوين ، كهذه الأرواح التى تحس حركتها وأنفاسها وراء السيكلوجية الروائية المتخاذلة ، إن من الخير إن أردت أن ترى ذاتك أن تنظر فى مرآة بدلا من أن تدفن وجهك بين يديك ، وتغمض عينيك ، وتسرح بالنظر فى ذاتك الباطنة .
أفأنت حريص على أن تعطى اللمسة الذاتية ؟ جميل منك هذا ، ولكن أية لمسه تراها تكون لمستك ؛ أأنت على يقين من أنك قد عرفت نفسك ؟ وكيف يستطيع التحدث أن يقدر نوع صوته ؛ إن مظهر النهر يرجع إلي مجراه وضفتية فنترك نفسك تسرى فى مجراها ، وتسير بمشيئة تيارها ، تتخطى السدود . وتعرف معنى الحرية . بهذا المنتهى الأنهار إلى البحر وتشق لنفسها المجرى .
لم يزل لدى ما أسره إليك وإن كنت لا أكره شيئاً مقدار كرهى للنصيحة ، فما أضيع أن توجه النصيحة لامرئ أيا كان . وللشباب خاصة . وأنا كأستاذ جامعى أحرص على هذه الحكمة القديمة التى تقول : " لقد بعث النصيحة للشباب والشيوخ ، وحين احتجتها لم أجدها عند أحد " ، قد يجد بعض الناس فى أنفسهم حرجاً حين تسألهم
النصيحة كما فعلت أنت معى فى هذه المرة ، ولكننى أعلم بينى وبين نفسى أن الشباب إذا ما طلبوا النصيحة لم يطلبوها جادين مخلصين فهم فى الواقع ينشدون شيئاً آخر وما طلبوا النصيحة إلا مظهراً فحسب ، وكثيراً ما تعرضت للهجوم والتجنى بحق وبغير حق ، ولم يكن لذلك من سبب إلا أننى لم أقل ما كان يرجى منى أن أقول .
لن تجد فى مستقبل أيامك ما يشعرك بخيبة الأمل قدر اكتشافك أن الناس ينثرون زهور إعجابهم على أعمال لك بعيدة من نفسك غريبة عنها ، وأنهم سيهزءون بأعزها لديك وآثرها عندك ؛ ولقد قال النفس الكاثوليك اليسوعى جورج تيرل : " دلنى على تجربة من تجاربنا أشد إيلاما للنفس من أن تحب وتمتدح خصال نعلم أننا خاو منها . أو أننا نؤثر فقدها على ملكها ، بينما نجد أن ما نعتقد أنه خير ما فينا لا يلتفت إليه أحد ...؛
ربما لاحظت أن تبرل يقول أن تحب وتمتدح ، فأى تضاد بين هذين ؟ بين أن تحب وأن تكون موضع الإعجاب وربما كنت فى سنك هذه أعظم شغفا بالإعجاب منك بالمحبة . بل ربما طلبت الأولى ولو كان ذلك على حساب الثانية . ولكن سوف يأتى عليك يوم ، يا صديقى الشاب ، تتعطش نفسك فيه للمحبة . حينئذ ستصرع فى طلبها ، فإذا جاءك هذا اليوم فلتبتهل إلى الله أن يخلصك من أقسى عذابات الروح . وهو أن تجد نفسك عاجزاً عن لقاء هذا الحب بمثله . فليس العذاب فى أن لا تجد من يحبك ، بل العذاب كل العذاب فى أن تفقد القدرة على الحب . أعرف نفوساً تنوق إلى الحب فما تستطيع ، وإنها ضحايا الظماً المحرق للبعض .
هل لدى ما أقوله لك بعد ؟
لا ريب أن هنالك شيئاً ما ، وإن كان لا يرد على خاطرى الآن وهكذا أرانى قد نسيت - أو أنسيت - أهم ما أردت أن اذكره لك . إن أفضل أفكارنا هى التى تموت قبل أن توفق إلى صياغتها وإخراجها إلى حيز الوجود . وإن أفكارى بذور تنمو فى ذاتى الباطنة ، أما ثمرتها فيجنيها غيرى .
