الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الأولالرجوع إلى "الرسالة"

رسالة الاديب فى مصر

Share

وقف الفيلسوف الانجليزى توماس كارليل وقفة طويلة فى  كتابه (الأبطال) عند البطل فى صورة الأديب وعرفه بأنه (.. الرجل  الذى يردد لنا نفسه الملهمة، وأقول الملهمة لأن ما نسميه بالعبقرية  أو الصدق أو الموهبة أو صفة البطولة التى لا نجد لها اسما خليقا بها  تدل على أن الأديب هو الذى يعيش فى أعماق الأشياء؛ فى الحقيقى  فى الالهى؛ فى الخالد الذي يوجد أبدا والذى لا تراه الدهماء، لأنه  يختفى وراء الزائل الحقير دائما أبدا. الأديب هو الذى يذيع هذا  الخفى للناس بالقول أو بالعمل؛ وحياته اذن قطعة من قلب الطبيعة  الذى لا يعتوره الفناء) ثم استعان بآراء الفيلسوف الألماني (فخته)  الذى أذاع سلسلة محاضرات فى موضوع (طبيعة الرجل الأديب)  قال فيها أن كل الأعمال التى يعملها الناس والأشياء التى تقع عليها  أبصارهم فى هذه الدنيا ليست الا ثوبا او مظهرا احساسيا يجثم  وراءها ما أسماه (فكرة العالم الالهية) وهى (الحقيقة التى توجد  فى أعماق المظاهر جميعا) وهى بالطبع لا تظهر لعامة الناس لأنهم  يعيشون بين المظاهر والماديات. فرسالة الأديب أن يميز لنفسه  وللناس هذه الفكرة الالهية بما فيها من روعة وجمال وقوة وان  يقف الى جانبها معجبا متعجبا؛ وأن يذيعها فى الناس حتى يكونوا  انعم بحياتهم واقدر على فهم وجودهم. عليه أن يسمو بهم فوق  رغبات العيش المادى من طعام وشراب وكساء وان يحررهم - ولو  الى حد ما - من قيود الزمان والمكان.

وأظنك تستطيع أن تتخذ هذا التعريف مقياسا توازن به بين الأدب الحمى والأدب الميت. فكما يوجد فى هذا العالم اطباء ودجالون يدعون الطب كذلك يوجد أدباء وادعياء يدعون الأدب. واذا كنت تحرص الحرص كله على التمييز بين النقود الصحيحة والنقود

الزائفة وهى التى تحمل بها على أغراضك المادية فالأجدر بك ان تكون أكثر حرصا على التمييز بين الآثار الأدبية الصالحة والآثار الأدبية الزائفة وهى التى تحصل بها على أغراضك الروحية

والأديب يولد ولا يصنع - كما يقول الانجليز - أى أنه رجل لا يكتسب صنعة الأديب التعلم والمران ما لم يكن موهوبا بطبيعته بيد أن هذه الموهبة كالشجرة ما لم تثقف وتشذب فلن تؤتى أكلها لذيذا شهيا...

نخرج من هذا بأن الأديب فى مصر هو الأديب فى غير مصر وأن رسالته هنا هى بعينها رسالته هناك وكل ما فى الأمر اختلاف طرائف التعبير. على أن مهمة أديبنا أشق من مهمة الأديب الغربى لأن الغربيين يعرفون لأديبهم قدره فيبسطون له فى الرزق حتى ينصرف الى الانتاج الأدبى الصالح بينا ينكر المصريون أديبهم ويضيقون عليه الخناق وهم أن اعترفوا بشىء فانما يكون هذا الاعتراف بعد أن يفارق هذه الدنيا. ولهذا دون شك أثره البالغ فى خلق الأديب فهو أما أن يتزلف السلطات الحاكمة أو يترضى الأمراء والزعماء فاذا لم يستطع هذا أو ذاك أخذ يتملق الجمهور! ولا تتهمنى بالمبالغة فأمامك تاريخا الأدبى الحديث فهو حافل بأسماء الأدباء - وأشباه الأدباء - الذين كانوا أقرب الى المتسولين مهم الى أى شىء آخر. والذين انحطوا بصناعة الشعر والنثر الى الدرك الأسفل حتى أصبح الأدب نوعا من "البهلوانية" فى التعبير فاذا ألحت عليهم الحقيقة اتخذوا فى أذاعتها فنون اللف والدوران والموارية! وما أقل أولئك الذين عانت نفوسهم التمسح بأذيال السادة او التعلق بأردان الجماهير والأديب - بل وشبه الأديب  معذور لأن الجماعة لا تريد الا من يليها ويدخل السرور عليها اما الذى يكشف لها عن المثل العليا ويظهرها على الفرق بين حاضرها وهذه المثل فهو ابغض الناس اليها!

والأديب المصرى الذى يريد أن يؤدى رسالته على الوجه الا كمل  يصطدم بعقبتين كلتاهما صعبة شديدة. فما بالك اذا علمت أنهما متآخيتان، هاتان العقبتان هما "السياسة والتقاليد"

اما السياسة فقد طغت علينا وأفسدت مزاجنا الأدبى حتى اضطريت موازين النقد فى ايدى الكتاب ورجال للتعليم يجورون فى احكامهم على الأدباء جورا ظاهرا، والطلاب والقراء فى حيرة ليس مثلها حيرة. واسرفت السياسة فى طغيانها واشتدت جنايتها على الأدب حتى انصرف الأدباء الى السياسة وادركوا بأن الشهرة  الأدبية لن تأتيهم الا على حساب الشهرة السياسية!

والتقاليد أمرها غريب حقا فهى من محاربتها للادب والأدباء

تتستر وراء الدين حينا ووراء السياسة حينا آخر. تظهر مرة وتختفى  مرات. وويل للاديب الذى يتهم بالالحاد. وويل للاديب الذى  يتهم بالخيانة. وويل للاديب الذى يتهم بالاباحية! لو كان موظفا  طرد من وظيفته. ولو كان عالما جرد من شهادته. ولو كان كاتباً  حورب فى صحيفته!

على ان الأديب القوى هو الذى يصمد . لهذا كله ويمضى فى اذاعة رسالته مؤمنا بانتصاره. او قل بانتصار آثاره تدفعه الفكرة الالهية التى فيه. فاذا اعترف له ابناء عصره بفضله عليهم وعلى الأجيال المقبلة من بعدهم فذاك. والا فقد كتب اسمه فى ثبت الخالدين ...

وأدباء مصر فى هذا الزمن هم "الطلائع" التى تتعرض للاخطار وتتلقى عن بقية الجيش السهام تتلوها السهام! والطلقات تعقبها الطلقات. فعليهم أن يضربوا المثل الصالح لأبناء الجيل الجديد

وانى لأعلم أن مهمة الأديب المصرى فى الجيل المقبل ستكون أسهل من مهمة اخيه فى هذا الجيل لأن الأخير عليه الى جانب مهمته الأساسية مهمة اخرى هى "التمهيد" وتعبيد طرائق التعبير من نحت الفاظ. واصلاح الفاظ. ومن خلق قوالب أدبية لم يكن لها فى تقاليد الأدب العربى وجود كالدرامة والشعر القصص والمقال الاجتماعى وما يتطلبه هذا كله من التغيير فى قواعد النظم والكتابة.

وليذكر اولئك الذين يغرمون بتأليف المجامع اللغوية ان اصلاح اللغة لا يقوم به النحاة والعروضيون وأصحاب الابحاث "الفيلولوجية" وانما يقوم به الأدباء والأدباء وحدهم لأنهم بطبيعة رسالتهم أقدر على ابتكار الألفاظ التى تتلاءم مع المعانى والأساليب التى تتفق والأغراض. ثم هم اقدر على اذاعة هذه الأساليب وتلك الالفاظ فى الناس. ثم يأتى بعدهم اصحاب النحر والعروض وعلوم اللسان يستخرجون من آثارهم القواعد العامة ويرتبونها ويصنفونها ويضعون المطولات والقواميس فيها!

فليمض الأدباء المصريون - وهم قلة - فى تحقيق الرسالة السامية التى وجدوا من أجلها والتى يعيشون لها والتى يجب ان يموتوا فى سبيلها كما يموت كل صاحب رسالة يؤمن برسالته وليكن عزاءهم خلود آثارهم؛ وأحرى بالناس أن يقدروا الأديب الذى لا  يعيش لنفسه وانما يعيش لهم!. . .

اشترك في نشرتنا البريدية