الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 50الرجوع إلى "الرسالة"

روح الاجتماع تدعو إليه ، فيلبيها الشباب

Share

ما تمخضت أفكار المصلحين بشيء اكبر اثرا، وأجل  خطرا، تمخضها بمشروع تعليم أهل القرى بوساطة النجباء  من أهلها من طلبة الجامعة وسائر المدارس فى هذه البلاد، فان  مصر التي تتوثب الآن للحصول على مكانتها بين الأمم الراقية،  وتحاول أن تسرد مجدها التاريخي الأقدم، لا تستطيع أن تحقق  أمانيها القومية هذه وتسعة أعشارها أميون لا يعرفون من أمر  الوجود إلا ما تدعوهم إليه الحاجات الجسدية، فأما النواحي العقلية  وما يتجلى فيها من ثمرات البحوث الأدبية، وما تنكشف فيها من

أسرار الوسائل العلمية، والأصول الإصلاحية، والمبادئ الاجتماعية  والعمرانية، فهم بمعزل عنها، وإذا كلفوا بشيء منها لم يفقهوا له  حكمة فلا يندفعون فيه عن اقتناع وروية. ألم تضطر الحكومة  إلى الاعتماد على نوع من الإجبار حين نصحت للفلاحين بجمع  الديدان من شجيرات القطن وإبادتها، فتلكأوا فيها لاعتبارات  خرافية حتى اضطرت لإنفاق أموال طائلة لمراقبتهم فى القيام بهذه  المهمة؟ أما تذهب أكثر النصائح الطبية سدى فيما يختص  بوجوب تصفية مياه الشرب وفي عدم التبرز فى المياه الجارية اتقاء  لمرض البلهارسيا والانكلستوما اللذين يفتكان بهم فتكا ذريعا؟  ألم تفشل اكثر المحاولات التي أريد بها تخليصهم من العادات  السيئة والتقاليد الضارة، حتى ولو جاءتهم من ناحية الدين الذى  يقدسونه ويتفانون فى المحافظة عليه؟

وكيف كانت تروج حيل الدجالين، وأحابيل المتطببين،  إذا كان القرويون يقرأون ما يكتبه عنهم العارفون، وما تنشره  الجرائد عن جرائمهم فى العواصم والأقاليم؟

أن الجو القاتم الذى يعيش السواد الأعظم من الأميين فيه  يجعل منهم كتلة متحجرة لا تستطيع بل ولا تفكر فى أن تتابع  خطوات المتعلمين فى التقديم إلى الأمام، فيكون مجموع الأمة فى  حالة تخاذل: بعضه يحاول السير ويقدر عليه، وبعضه جامد  حيث هو لا يستطيع انتقالا من مكانه، بل الخير كل الخير فى الإقامة  على ما وجد أبويه عليه، فان حاول أن يتشبه بالمتعلمين خيل إليه  أن ذلك يكون بتقليدهم فى بعض القشور فيشذ عن الجماعتين،  وينتهي أمره إلى حالة من الضياع يضطر معها أن يلتحق  بالمجرمين ليعيش.

كل ما فى الوجود يحفزنا لان نقضي على الأمية فى بلادنا  بكل الوسائل الممكنة، فالحكومة سائرة فى طريقها من ناحية،  ولكن أعباء تفريج الأزمة الاقتصادية قد لا يسمح لها ببذل الوسع  فى هذا السبيل، فلابد من عامل جديد يتناول ما لا تمتد يدها  إليه، وهذا العامل هو ما فكرت فيه الشبيبة المتعلمة تحت قيادة  رجال مثقفين من العمل على تعليم القرويين، وتقويم أخلاقهم،  واشراكهم فى ثمرات العرفان الذى نالوه، ليكون اتصال أجزاء  المجتمع بعضه ببعض حاصلا ومنتجاً للغاية التي تتوخاها جميعا، وهى  أن تأخذ الأمة المصرية مكانا بين الأمم يسمح لها أن تشاطرها

العمل فى خدمة الانسانية ، وإبلاغها أقصى ما ترجوه من الكمال العالمى المنشود .

هذه النزعة من الشبيبة المتعلقة ليست بثمرة تفكير عميق فحسب , ولكنها نفحة من روح الاجتماع تنزلت على أكثر النفوس حساب وادقها شعورا , فحركتها الى الوجهة التى سلكتها كل أمة نهضت قبلنا نهوضا ثابتا مضطردا . فهذه النفحة هى التى تجعل عملنا هذا اشبه بالامور الطبيعية الاضطرارية , منه بالأمور التفكيرية الاختيارية , وهى فى الوقت نفسه يدل على أن المجتمع المصرى أصبح حاصلا على جميع المقومات الاجتماعية التي تجعل منه جسما مترابط الأعضاء , متكافل القوى , متماسك الأجزاء ، متأثرا بحياة صحيحة تدفعه إلى النهوض دفعا طبيعيا متزتا لا تقوى العوامل المحللة على صرفه عنه مهما تسلطت عليه .

فاذا كان أكثر محاولاتنا التى أنتجها التفكير المحض قد حبطت فان هذه المحاولة الأخيرة التي بعثت اليها روح الاجتماع لا يجوز عليها الحيوط , بل هي ستتطور فى ادوار التكمل حتى تبلغ ما بلغته أمثالها فى الأمم التي سبقتنا الى الكمال المدنى .

ان جميع الأمم التى ضربت فى المدنية بسهم قد الهمت هذه الطريقة فى ايقاظ عامتها , وإشراكها فى نعمة الحياة الأدبية , فان الانجليز قد نشطوا لتعليم الشعب نشاطا كانوا فيه المثل الأعلى , إذ تطوعت الطبقة المتعلمة كلها لتعليم الطبقة الجاهلية , فاسسوا الدور الاهلية للتعليم الليلي وإلقاء المحاضرات التي تعين على ترقية مستواهم الأدبي . وكذلك فعل الأمريكانيون والألمان وغيرهم . وفى ألمانيا اليوم حركة أكبر زيادة رفع المستوى الأدبي لأهل القرى بعد أن نجحوا فى رفع الأمية عنهم , علما منهم بأن كل عمل يبذل فى سبيل إصلاح القرى , وتحبيب سكناها لأهلها , وترقية مداركهم ، يعود بأكبر النفع على مجموع الأمة لأنهم الحجر الأساسى فى بنائها ، واذا كان الأساس قويا ركينا كان كل ما يبنى عليه متينا ثابتا .

فنحن الآن حيال نهضة أدبية خاصة بالقرى , مقبلون منها على حالة مليئة بكبار الآمال , يقوم بها شباب تخفق بين جوانحهم قلوب يعمرها حب الوطن , وإيمان راسخ فى النجاح , فلنحى فهم هذه المهمة الوثابة , والاخلاص الذى تضرب به الأمثال ، كلل الله اعمالهم بالنجاح , وأمدهم الله بروحه وعونه , إنه ولى الصادقين .،

اشترك في نشرتنا البريدية