هى تحفة فنية أخرى للأستاذ الحكيم. وهى أدق فى ذوقها الفنى وارق، وهى ارهف فى الحس والطف، وجوها الشرقى أمتع منظرا وأوقع سحرا، وروحها الصوفى اعرق تأصلا واعمق سرا.
ونحن نعرف الأميرة شهرزاد، تتمثل فيها عبقرية القصص وروح السمر، ونتمثلها بأحاديثها المشوقة المتنوعة الأفانين، وحكاياتها الممتعة التي لا ينضب لها معين، بين يدي الملك الآسيوى شهريار وقد تحجر قلبه وغلظ طبعه، تنتقل به ليلة بعد ليلة مأخوذا مدهوشا من قطر إلى قطر فى أجواء شتى وآفاق سحيقة، من أنحاء فارس، إلى بلاد الصين أو الهند العجيبة، إلى وادى مصر الخصيب، بين أجناس البشر المختلفة الألوان، وبين طبقات المجتمع ونماذج الأفراد على تفاوت الطبائع والدرجات، من ملوك ومماليك، وسراة وصعاليك، وتجار وحمالين، وصاغة وصيادين، ومقاحيم يجوبون القفار ويركبون أهوال البحار، وفوق ذلك بين عناصر طبيعية وغير طبيعية، إنسية وجنية. رحلة كقصيدة (الاوديسة) شائقة طويلة، طافها الملك شهريار وهو فى المقصورة مضطجع يصغى إلى شهر زاد فى كل مساء فى ألف ليلة وليلة.
هذه الرحلة المعهودة للملك شهريار، لم يعرض لها مؤلفنا العصرى. وإنما خلص منها رحلة باطنة للرجل شهريار، هى رحلة النفس تحركت فجازت أطوارا بعد أطوار.
فلقد كان شهريار عبد الجسد يبنى كل ليلة بعذراء يستمتع بها وفى الصباح يقتلها، وكذلك كان ليلة استقبل شهرزاد يشتهى منها المتعة بالجسد الغض. حتى إذا سمعها تحدثه حديثها الساحر الممتع وتفتح له خزائن القصص والخيال والشعر، تفتحت مغاليق قلبه الموصد وتحرك جامده وارتجفت نياطه، فإذا هو يحبها وإذا بهذا الجسد الشهوانى يحبها حب القلب والوجدان. غير أن نار العاطفة بدورها لم تلبث مشبوبة طويلا حتى تصفت إلى نور هادئ شاحب، فإذا هو لا يأمن للشعور بل ينشد المعرفة، وإذا به لا يريد لوقفة عند الظواهر والاعراض، بل الغوص إلى الجوهر ولب
اللباب، ولا يريد الاحتباس فى الحدود الضيقة بل الانطلاق، إلى حيث لا حدود، فهو فكر محض يجوله التأمل النظرى والتجريد الفلسفى.
وهذه الأطوار النفسية الثلاثة التى اتفقت لشهريار على إناء متفرقة، يجلوها أيضا المؤلف على مسرح قصته فى آن واحد موزعة على شخوص ثلاثة: فهذا العبد اسود اللون وضيع الأصل قبيح الصورة رمز للشهوة الحيوانية، تلقاه شهرزاد فى حلك الظلام، وتلزمه ألا يطرقها إلا خفية مع الليل، وتستكره معه العلن وتحذوه من أن يدركه الصباح فيقتل. وهذا الوزير الفتى، مثال الجمال فى الخلقة والخلق، يحب شهرزاد كما يحب رجل جميل امرأة جميلة، فهي معبودته لا عشيقته، وقد بلغ التسامى بعواطفه منتهاه، فلم يعد غير قلب شاعر. وهذا الملك قد أفادته حكايات شهرزاد حبرة، وكشفت لبصيرته عن أفق للتأمل بلا حد، ونقلته كالطفل من طور اللعب بالأشياء أو التعبد لها إلى طور التفكير فيها، فهو اليوم فكر شارد أبدا ينقب عن الكنه ويطلب المجهول:
أما شهرزاد فهى كالطبيعة لا رفيع عندها ولا وضيع، وهى كالطبيعة تتراءى لهؤلاء الثلاثة فيرى كل فيها مرآة نفسه. فهي عند العبد حس مادى ولذة مشبعة، وهى عند الوزير مثال أعلى للجمال قلبا وقالبا، وهى عند الملك سر عميق ينطوى على نواميس خالدة تجري على مقتضاها حركات الحياة وسكناتها ويتحدى لغزها المعرفة.
ومن عجائب الاتفاق إن هذه المعانى التى اقتضت القصة الرمزية اجتماعها فى شهرزاد، لها سندها المفعم فى الحكاية الأصلية: فشهرزاد إلى كونها مثل غيرها من بنات حواء تخضع لمطالب المرأة الجسدية. فأنها ابنة وزير، كريمة المحتد، كما يدل اسمها نفسه فى الفارسية، وقد شاء لها طيب أرومتها أن تتقدم طواعية ليتزوج منها الملك الغشوم قاتل زوجاته، وان تجعل مختارة جيدها الغض عرضة لسيف جلاده، مفادية بحياتها على ضعف الأمل إنقاذا للعذارى من هذا الحيف الراصد لهن. ثم هى لا محالة بطبيعة التربية فى القصور ذات ثقافة عالية، وحذق لفنون الأدب والشعر، وعلم بالتواريخ ومضارب الأمثال والعبر. فليس هنالك تجوز معتسف فى تصويرها جامعة للجسد المنعم النضير والقلب الفياض بالشعور والفكر الواعى المحكم بالتدبير.
ولقد احتاط المؤلف لرموزه هذه من ان تظهر مجرد رموز متحركة تشخص لما وضعت له فى خطى آلية وعزيمة صماء حديدية.
فأضفى عليه مخايل الأحياء من تردد وتشكك، ونوبات ضعف وانتكاس، لما هو مركب فى الطبيعة البشرية من العوامل المتضاربة، والدواعى المتداخلة، بحيث إذا صحت الغلبة لإحداها فأن المغلوبة لا تنعدم، بل لها فى النفس بين الفنية والفنية تخبط المقيد، وانتفاض المضغوط عليه. فترى الوزير وان كان فى حبه للملكة شهرزاد عذريا طاهرا يحفظ لصديقه الملك غيبته، ويرعى حرمته، ويذكر مودته، فانه ليضطرب اشد الاضطراب عند خلوتها به، كما يسوؤه أن تعطف على صديقه وزوجها ايسر العطف ويتجرع المرارة من غيرته الخفية. كذلك ترى شهريار وقد باشرت الحسيات حواسه حتى مل جوارها، وتشبعت بالعواطف مشاعره حتى لفظها ومجها، وتعالى عن كل ما هو حس وشعور يعود فى فترة يأس من المعرفة إلى شهرزاد، يسكر عطشه من كأس ثغرها اللؤلؤى، ويستظل من رمضائه بعناقيد غدائرها المتهدلة، ويوسد رأسه المتصدع حجرها، ويريدها على ان تنشده شعرا، أو أغنية، أو تقص عليه قصة.
وما تبدلت الرموز غيرها من اجل هذا، وإنما هى عوارض من إمارات الضعف البشرى، ثم تستأنف هذه الرموز البشرية سيرتها المرسومة، ودرتها المقدورة فى افتنان وروعة
ولقد اختار مؤلفنا للقصة بداية اصلح منها مدخلا للرواية من حيث تهيئة الجو والدلالة على المعنى. فثمت طريق قفر والليل حالك، وإلى ناحية منزل منفرد على بابه مصباح مضىء. وفى هذا الموقف يقفك المؤلف على سحر الساحر، وضعف الجسد، وسطوة الشهوة باللمسات الأولى من ريشته:
- الساحر (يقود جارية إلى المنزل) : ماذا يقول لك هذا الغريب الأسود؟
- الجارية: يسألنى عن سر فرح المدينة، فأجبته هو عيد تقيمه العذارى للملكة شهرزاد.
- الساحر: وما لفرائصك ترتعد؟ - الجارية (همسا) : لست أدرى!
- الساحر: ألم أحذرك أن تقربى هذا العبد الهرم، فأن فى عينيه نظرات الفجرة؟
- الجارية (همسا) : ليس هرما
- الساحر: بم تهمسين كمن به مس؟ هاتى يدك ولندخل. لعلك ارتعت من قبح هذا الرجل؟
- الجارية (همسا) : ليس قبيحا. (يدخلان المنزل. يظهر العبد يتبع نظراته الجارية ...)
- العبد: ما اجمل هذه العذراء! وما اصلح جسدها مأوى! - صوت (من خلفه) : مأوى؟ أللشيطان؟ أم للسيف؟ - العبد (يلتفت) : أهذا أنت؟ - الجلاد (يظهر) : عرفتنى
ثم لا يطول بك الانتظار فى هذا الموقف بمسمع من هذه الكلمات المتقطعة المتبادلة حتى تعلم كل ما طرأ على حياة شهريار الذى كنت تعرفه، من تغير بعيد الأثر، وما يحيط به اليوم من ملابسات وظروف، وحتى تتسلم بين أصابعك أطراف خيوط القصة جميعها، وتتابع فى لذة مشوقة حركات نسجها سداة ولحمة.
وترى كيف يعارض حائك القصة بين شهرزاد وقلب الوزير المتأجج فى منظر، وبينها وبين عقل الملك السابح فى زرقة أحلامه الصافية فى منظر، ثم بينها وبين العبد الأسود فى منظر. وهو فى خلال هذه المناظر وما بينها يداول الخيوط المختلفة الأصباغ فيخرج لنا منها نسيجا خسروانى الوشى، ساحر الألوان كقوس الغمام. حتى إذا أزف الختام أبى المؤلف (الحكيم) على العبد قتله استرخاصا له وكرامة للمنية أن تكفر عن خسته، بل ادخر المصرع الفاجع للوزير الذى ضاق الواقع عن قلبه الكبير، أما شهريار فقد ذهب فى سفر بعيد مجهول.
ولئن كان المؤلف قد نحا نحو الرمزيين فى قصته، إلا انه لم يصنع منها لغزا مغلقا ولا شبه مغلق، ولا هان عليه أن يترك رموزها على قرب منالها وقلة تعويضها - للقراء، وبخاصة الذين ألفوا نحوها فى التأليف الغربية ليستنبطوا استنباطا، بل اثر ان ينص على تفسيرها نصا فى ظهر سطوره أثناء الحوار، فلا يدع لأحد دون فهمها على وجهها حجة.
وقد اصطنع صاحبنا ما يصطنعه أهل مذهبه من أساليب العرض والكتابة. فشخوصه معروفة النظائر فى الواقع، ولكنها تبدو لعياننا من مادة اشف من مادتنا، وتروح وتجئ فى جو أخف مما نعيش فيه. فكأنما هى من عالم الأحلام نحسها بالحس الباطن، وكأنها لا تتحرك بمحرك فيها من إرادتها بل تحركها قوة مستعلية عليها خارجة عنها، فهى مسوقة من حيث لا تدرى إلى حيث لا تدرى ولا طاقة لها على التوقف والمغالبة. ثم هنالك السحر والكهانة، والفلتات المنبثة، وأحاسيس النفس السابقة المؤذنة بوقائع غامضة لاحقة. وهذه جميعا مفرغة فى سياق شعرى يتمشى
فيه النغم، وتنتظم الموسيقى نسقه من مبدئه إلى منتهاه، ويعتمد على الإشارة المقتضبة والتلبيس ويتجنب البسط والتقرير، وتتكرر فيه العبارة الواحدة مرات وتكثر فيه الكلماة البارعة والكنايات المحجبة.
- شهرزاد: أترى شيئا فى ماء هذا الحوض. أليست عيناى أيضا فى صفاء هذا الماء؟ أتقرأ فيهما سرا من الأسرار؟
- شهريار: تبا للصفاء وكل شئ صاف ... ! لشد ما يخيفنى هذا الماء الصافى..! ويل لمن يغرق فى ماء صاف ... !
- شهرزاد: ويل لك يا شهريار - شهريار: الصفاء ... ! الصفاء قناعها - شهرزاد: قناع من؟ - شهريار: قناعها هى، هى، هى ... - شهرزاد: إنى أخشى عليك يا شهريار
- شهريار: قناعها منسوج من هذا الصفاء. السماء الصافية، الأعين صافية، الماء الصافى، الهواء، الفضاء، كل ما هو صاف! ما بعد الصفاء؟؟ إن الحجب الكثيفة لاشف من الصفاء! فلنسجل إذن لمؤلفنا المسرحى النجاح مرة أخرى مغتبطين، ولنردد قولنا فيه واثقين (هذا الفتى فنان حتى أطراف أنامله)
