الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 37الرجوع إلى "الرسالة"

شهرنا الخالد...!

Share

شهرنا الخالد فى تقويم الدهر مارس! فيه كما يقولون ألغيت الحماية، وأعلن الاستقلال، وصدر الدستور!

وفيه كما نقول استيقظ أبو الهول، وشبت ثورة النهضة، وتنافس في الجهاد النساء والرجال، وتعانق على الوداد الصليب  والهلال، وتسابق إلى الخلود الشيوخ والأطفال. وسالت  أنفس الشباب ضحايا على مذبح الحرية!!

وفيه كما تقول الطبيعة تتجدد الحياة , وتهتز الارض . ويورق الشجر السليب ويمر ع الوادى الجديد ، وينشد الربيع الباكر أناشيد الجمال والحب والأمل!!

ولكن خمسة عشر عاما طوالا أتت على مارسنا الأول  فجعلت ما قالوه كلمات ميتة، وما نقوله ذكريات خافتة،  وما تقوله الطبيعة حديثا معادا!

فالحكومة تدفع الحكومة، والذكرى تتبع الذكرى،  والربيع يعقب الربيع، ونحن لا نزال في الموقف الأول، يتدفق  علينا الزمن، وتغبر في وجوهنا الشعوب، كأنما خرجنا عن  مدارج القافلة، أو رمى بنا التيار في حواشي الوجود!

من الذي نضح القبس بالماء، وشغل المسامع عن نداء  الشهداء، وحول وجه النهضة إلى الوراء، واعترض مجرى  الحياة المصرية طول هذه الحقبة؟ ستقول خدعة السياسة،  وشهوة الحكم، وفتنة المال، ونكسة المرض، ولكنك لو عبرت  عن ذلك كله بانحلال الخلق لكان اجمع لأسباب الأمر، وأبلغ  في إجمال الحقيقة، فان التكالب على سلطان الحياة وزهرة الدنيا  يصدر في الغالب عن حمية ورجولة، ولكن ما نحن فيه اليوم  من تحكيم الهوى، وتغليب الأثرة، وهوان الغرض، وفساد  الضمير، وفجور الخصومة، لا يوائم فطرة الله، ولا يلائم  طبيعة التقدم

على ان السفينة التي يصارعها الموج فتضطرب، ويعصف  بها النوء فتجور، سيظل لها (مارس) منارا في مرفأ السلام  يرسل الهدى للجائر، ويلقى السكينة في المضطرب.

سنذكر دائماً مارس من عام ١٩١٩ حين عصفت في الرؤوس  نخوة العزة، ونزت القلوب ثورة الحفيظة، وأعلنت مصر  مرة أخرى بعد (عرابي) أن لها مثلا تتبعه، وماضيا تعيده،  ومستقبلا تعده، وأمرا في أرضها تدبره، وحكما في سياستها  تصدره. ويومئذ كان للربيع معنى الربيع! هبت رياح آذار فألوت  بحطام الشتاء والخريف، وسرت في البلاد نسائم الروح  الخالق والسر البديع، وجرت على الثرى المقدس دماء الضحايا  الأول فتفطر بالنبات البهيج، وبدت على الوجود المصري مظاهر  الشباب من الرونق والصفاء والجدة والقوة، وتمردت على الطغيان  المسلح نفوس شيعها الإيمان بالحق، وحطمت أسلاك البرق  ودمرت طرق الحديد لتقطع ما بينها وبين جنود الذل، وأجبرت  الغاصب الغاضب على أن يحترم رأيها في الشيخوخة الاسيرة،  وعزمها في الشبيبة الثائرة، واتسع نطاق الأفق للقلوب التي

حصروها بالكبت، وانكشف رقيع السماء للأبصار التي  عقدوها بالأرض، وفتح التاريخ للشعب المجيد، كتاب العهد  الجديد، وكادت تتوالى صفحاته لولا أننا من الحلفاء وكالحلفاء،  ربحنا الحرب وخسرنا الصلح!

يعود مارس فيعود العقل العازب، وينتبه الضمير الغافل،  ويستطيع كل امرئ أن ينظر إلى الوراء فيرى ماذا ترك، والى  الأمام فيرى ماذا قدم، ثم يجيب أطياف الشهداء وهي تطوف  ساهمة الوجوه أمام الأزهر، وحول ابن طولون، وخلال  المقبرة الموحشة، تسائل كل عابر: ماذا صنع الأحياء بعهود  الموتى، وكيف حال المعيدين على لحوم الضحايا؟

يعود مارس فيودع في أوائله الشتاء، ويستقبل في أواخره  الربيع، ونحن وان تلكأ بنا الحظ البليد خمسة عشر عاما لابد  موفون على ربيع النهضة! وان في هبة الشباب من غفوته  المريبة، ومعالجته الأمور من جهاتها المنتجة، واضطرام  الشعور القومي في ذكرى مارس، وإطباق الرأي العام على  وخامة الحال، لبشيرا بتوافي النفوس على الخير، وتواطئها على  الجد، وتعاونها على الإصلاح

ليس في منطق الأشياء ولا من سنة الوجود، أن يجتمع  لمصر ما لم يجتمع لغيرها من أسباب الطموح ووسائل الصعود،  ثم تظل في ساقة الركب الأممي تمشى ظلعاء إلى أمدها المرسوم  وغايتها المرجوة، إنما هي عوائق تقيمها الذئاب ليفردوا بها  الحمل الغافل عن القطيع! وان في هذه الذكريات العزيزة الطيبة  حافزا للهمم الوانية، وموقظا للضمائر الغافية، ومهيبا بشوارد  الأنفس إلى سواء السبيل.

اشترك في نشرتنا البريدية