الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

صفحة من التاريخ - ليسمع العلماء، مشايخ الأزهر والسياسة، في القرن الثامن عشر

Share

حدث غير مرة في  تاريخ العالم أن تصدى  رجال الدين أو رجال العلم  للسياسة ولم يكونوا في  ذلك مختارين، بل كانت  الظروف تدفعهم إلى موقف  يجدون فيه أنفسهم  مسئولين عن التدخل في  أمر السياسة. فلا يجدون  مفراً من أن يضطلعوا  بحملهم، حدث أن بابا   (روما)  وجد نفسه حيال حكومة غالبة في  إيطاليا من قوم أجانب عن أهلها جنساً ولغة، وذلك عندما استولى  القوط على إيطاليا ونزعوها من سائر الدولة الرومانية. وكان البابا  بغير شك زعيم القوم في أمور الدين، فكان الغالبون من القوط  يلجأون إليه فيما يمس قومه لكي يلتمسوا عنده رضا أهل البلاد.  وكان أهل البلاد في الوقت عينه يتطلعون إليه لكي يقف على رأسهم  ويحفظ عليهم كيانهم وتقاليدهم، ويتوسط عند أهل الدولة فيما يمس  مصالحهم وأمور دنياهم. فكان لا غنى للبابا عن النظر في أمور  الدولة، ولا مندوحة له عن التدخل في أمور السياسة. وكان هذا  هو شأنه عندما ذهبت دولة القوط وحكمت إيطاليا دولة اللمبارديين،  فان البابا وقف الموقف عينه، ووجد نفسه بطبيعة الظروف القاهرة  ممثل الإيطاليين وزعيمهم والناطق بلسانهم إذا ما احتاج الأمر  إلى من ينطق بلسان أهل البلاد في وجه الدولة اللمباردية الحاكمة.  وكذلك كان الحال عند ما جاء الروم إلى مصر وفتحوها وأقاموا  

بها الحكم على المصريين، فان بطريق المصريين كان يحكم مركزه  الديني زعيماً في قومه في أمور الدين، فلما جاء الروم صار ذلك الزعيم  الديني مضطراً إلى أن يمثل قومه عند الحكام وينطق بلسانهم  ويتصدى لأمورهم، حتى لقد أصبح بطريق المصريين في آخر  الأمر هو الممثل القومي للمصريين؛ وكم وقف البطارقة على رأس  الشعب المصري في وجه الحكم الأجنبي الروماني، ومن هؤلاء  البطريق الأكبر بنيامين الذي ناله من التصدي لأمور السياسة  أكبر الأذى، وتحمل النفي والخوف، وتحمل أتباعه من رجال  الدين ألوان العذاب في سبيل استقلال مصر كما كانوا يفهمونه. إذن لم يكن لمصر أن تخرج عن هذه السنة الطبيعية، فإنها  كانت في القرن الثامن عشر تحكمها حكومة على رأسها الباشا  ممثل السلطان التركي، ويعاونه الأمراء المصريون الذين هم من أجناس  غير مصرية الأصل. فكان لابد لهذا النظام أن يتجه إلى ممثلي  الشعب وزعمائه، وكان لابد له أن يلجأ إليهم في كثير من الأحوال  لكي يسترضي ذلك الشعب ويتحبب إليه ويسهل بذلك طريق  الحكم. وكان لابد كذلك للشعب من أن يتخذ له ممثلين من  صفوفه وأن يجعل له زعماء يهرع إليهم إذا آذاه شيء من  جانب الحكومة الأجنبية التي تحكم البلاد.

وكان علماء الأزهر الطبقة المستنيرة من الشعب، وهم الذين  يعرفون تقاليد الحكم الإسلامي في الدول الماضية، وهم الذين  يعرفون العرف الذي جرت عليه الأجيال الماضية في أيام  الحكومات المستقلة الجليلة التي حكمت البلاد من قبل. فكان  من الطبيعي أن يتصدر هؤلاء العلماء في الحوادث، وأن يلجأ إليهم  أهل مصر عندما تلم بهم ملمة يطلبون إليهم أن ينادوا بالحق الذي  يبيحهم إياه القانون، وأن يطالبوا بالحريات التي كفلها لهم العرف  والدين في الأجيال المتعاقبة. ولقد تصدر جماعة من هؤلاء العلماء  وقاموا بما وجب عليهم في ذلك قياماً محموداً؛ وإنا لذاكرون هنا  بعضهم اعترافاً بما كان من فضلهم على البلاد.

ولو شئنا أن نفصل مواقف مشايخ الأزهر في أمور السياسة  لما اتسع لذلك مجال القول هنا. ولهذا سنجتزئ بذكر ما كان  منهم في موقف واحد في تاريخ مصر في القرن الثامن عشر  في الوقت الذي اشتد فيه عبث مراد وابراهيم بالمصريين.

بلغت محاولات مصر نحو الاستقلال قصاراها في عهد علي  بك الكبير، ثم قضي عليها إذ كان الوقت لم يحن بعد للاستقلال  الدائم، إذ أن الاستقلال لا يمكن أن يدوم إلا إذا قام على دعامة  قوية من الشعب، وهذا ما كان ينتظر حدوثه حتماً في يوم من  الأيام. غير أن الملك المصري الذي حكم بعد علي بك الكبير لم  يكن بأقل منه قدراً، ولا بأهون منه خطراً، ولا بأهدأ منه  حماسة للاستقلال. وقد أراد الله ألا تطول أيامه فمات والبلاد  في أشد الحاجة إلى وجوده ليقوم على ملكها ويسيطر على  زعماتها. فوقعت السلطة في أيد طائشة ليس لها خبرة بالحكم  ولا مكانة في القلوب، وأصبح الأمر في يد مراد وإبراهيم وهما من  مماليك أبي الذهب، ولكنهما لم يكونا بعد قد صفوا وجربا وظهرا  في الحوادث بالمظهر الذي يرشحهما ترشيحاً صادقاً لحكم البلاد،  فحكما وكان حكمهما تجربة قاسية.

كان الشعب المصري قد خضع لعلي بك الكبير ولمحمد بك  أبي الذهب منذ رأى فيهما ملكين عظيمين قادرين على حمايته  وحكمه، ولكنه لم يجد في مراد وإبراهيم غير طاغيتين متجبرين  لا ينظران من الحكم إلا إلى النفع، ولا يعرفان من أساليبه إلا  الكبرياء والسطوة. ومنذ رأى في الحاكمين الجديدين هذا تحرك  واضطرب ووقف على استعداد للدفاع عن مصلحته وكرامته  ثابتاً متنبهاً.

وكان مشايخ الأزهر هم الطبقة المستنيرة من أبناء مصر  الصميمين، جاءوا جميعاً من قراها وأريافها ومدنها، فكانوا من بين  صفوف الشعب وأبناء الأرض يحسون ما يحسه الناس وينظرون  بأعينهم ويسمعون بآذانهم. وقد زادوا على إخوانهم ميزة كبيرة  بأنهم حفظوا في صدورهم نصوص الشريعة والآراء المختلفة في  أحكامها وحفظوا ما تخلف من تراث القرون من عرف وما يبيحه  القانون الإسلامي لأفراده من حقوق وحريات. فكان من  الطبيعي أن يقفوا من الشعب المصري موقف الزعامة في كل حادث  جليل، وأن ينطقوا باسمه ويعربوا عما في قلبه من الآمال والآلام.  فوقفوا على رأس الشعب في كل خلاف قانوني حاول فيه الطغاة  أن يخرقوا حرمة القانون، وانتصروا في كل وقفة من وقفاتهم  فنصروا فيها القانون والحق، ثم وقفوا يمثلون الشعب في ديوان

الحكم فنطقوا باسم مصر وأعربوا عن آمالها وعن شخصيتها،  وانتصروا في وقفتهم فأعلوا من اسم الشعب الذي يمثلونه ورفعوا  رأسه، ثم وقفوا على زعامة الشعب في نضاله مع الطغاة في سبيل  إصلاح الحكم، وانتصروا مرة ثالثة وساروا بشعبهم في سبيل  الحصول على ماله من الحقوق والحريات؛ وما كان أجدرهم أن يبلغوا  به الغاية والقصد ويقيموا في مصر حكومة وطنية صالحة قائمة على  احترام حقوق الأفراد والسعي إلى ما فيه مصلحتهم. وما كان  أحراهم لو طال بهم الزمن أن يبلغوا بمصر قصارى ما تصل إليه  الأمم الحريصة على حقوقها الساعية إلى الإصلاح.

بعد مضي سنة واحدة من حكم الطاغيتين مراد وإبراهيم  ثارت مسألة في خلاف على وقف، ولم يكن للمسألة في ذاتها خطر  خاص، بل كان الأمر نضالاً على مبدأ وقف فيه بعض الأمراء  يلوحون بالقوة والطغيان، ووقف فيه بعض أفراد الشعب يعتصمون  بالحق والشريعة. والتجأ الجانبان إلى المحكمة فحكمت حكمها  في الخلاف. وكان في مصلحة الأفراد على رغم ما يريده الأمير المدل  بالقوة، فأبى الأمير الإذعان، وأصبح الأمر معلقاً بين أن ينتصر  القانون وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة. فأدرك  العلماء أن واجبهم يناديهم بالمحافظة على القانون، ولم يترددوا لحظة،  بل هبوا لينصروا الحق لم يتخلف منهم واحد، وكان على رأس  الحركة الشيخ الدردير رحمه الله وطيب ثراه. أرعد الأمير وأبرق،  وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، غير أن العلماء وقفوا وثبتوا،  وأرغوا وأزبدوا في سبيل الحق والقانون. وقام الشعب من  ورائهم يؤيدهم، وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم  انتصاراً للعلماء والشرع، وأوشك الأمر أن يفضي إلى فوضى  شاملة. فجزع عقلاء الأمراء المصريين من تلك الحال وأشفقوا  أن تسيل الدماء وأن تعطل المصالح. فاجتمعوا وتشاوروا ثم  أرسلوا إلى الأمير المعاند فاحتجوا على موقفه وأمروه بالنزول  على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض  العلماء أن يتركوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل  يكتسبونه للناس، فكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء  وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف.  وهكذا كان العلماء يكسبون للشعب حقوقه حقاً حقاً ويبنون في

دستور مصر حجراً بعد حجر وإن كانوا في ذلك يسيرون في  تؤدة وبطء.

وإنا إذا ذكرنا اسم السيخ الدردير فلسنا نذكره إلا لأنه  كان علم القوم وزعيمهم. ولقد كان معه عدد كبير من إخوانه  يستند إليهم وينتصر بإمدادهم. وفي الحق إن العلماء بمثل هذه  الهمة لم ينزلوا ولم يسمحوا لأنفسهم أن ينزلوا إلى موضع المهانة في  تلك الأيام التي يصفها البعض بأقسى النعوت. بل لقد كانوا أكفاء  لأعلى الرؤوس في الدولة؛ ثارت مرة مناقشة حادة بين بعضهم  وبين أمير من كبار الأمراء في مسألة قانونية، فخرج الأمير الغاضب  عن حدود الأدب بأن قال للعالم:   (والله أكسر رأسك)  فكان  جواب العالم الغاضب أشد وأقسى، إذ قال له صارخاً:   (لعنك الله  ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن  جعلك أميراً)  وتوسط من كان بالمجلس من الأمراء فيما بينهما. ولم  يجد الأمير بداً من الإذعان لما يقضي به الشرع حسب ما رآه العلماء. وكان بيت العالم حرماً لا يعتدي عليه مهما كان الباعث على  ذلك، فقد كان بعض الأمراء يهربون خوفاً من انتقام منافسيهم  فلا يجدون ملجأ يهربون إليه ويعتصمون به إلا بيت العالم يدخلونه  ليأمنوا فيه. وقد طلب من أحد العلماء مرة أن يسلم جاره الأمير  الذي دخل بيته ملتجئاً فلم يرض أن يسلم اللاجئ إلى بيته، ولم  يجرؤ أحد على دخول منزلة عنوة خوفاً من أن يكون في ذلك  جرح لكرامة زعيم  من زعماء الشعب.

وقد زاد نفوذ العلماء في أيام هذا الاضطراب وعلا صوتهم  فأصبح مسموعاً دوياً في الحوادث الكبرى، كما أصبح مسموعاً  داوياً في الديوان الذي كان ينعقد بالقلعة لحكم البلاد، وكان فيه  الأمراء والرؤساء وأكابر العلماء يمثلون الشعب. وأصبح صوت  العلماء في ذلك الديوان يمثل المعارضة وينادي بما فيه نفع لمصر  وما فيه مصلحة أبناء مصر.

ثم أرسلت تركيا جيشاً بقيادة القبطان حسن باشا لتأديب  الطاغيتين مراد وإبراهيم على سوء حكمهما فخرج العلماء على  رأس وفد لمقابلة القائد التركي ليذكره بضرورة الاحتراس  والاحتياط في حربه الأمراء حتى لا يؤذي مصالح الناس ولا  يضحي بأموالهم. قال الجبتي يصف ذلك: (فتعين لذلك الشيخ  

أحمد العروسي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الحريري، ومن  الأجاقلية إسماعيل أفندي الخلوتي وإبراهيم أغا الورداني وذهب  صحبتهم سليمان بك الشابوري. . . . . . . . . على أنهم يجتمعون به    (بالباشا القائد)  ويكلمونه ويسألونه عن مراده ومقصده ويذكرون  له امتثالهم وطاعتهم. . . ويذكرونه حال الرعية وما توجبه  الفتن من الضرر والتلف).

وقد بلغ من ذعر ابراهيم ومراد وخوفهما من حركة الشعب  أن جعلوا في ذلك الوقت يتملقون المشايخ خوفاً منهم أن ينتهزوا  الفرص فيثيروا على حكمهم ثورة عندما تقبل جنود الدولة العلية  من الشمال. قال الجبرتي: (فذهب إبراهيم   (في عيد الفطر)  إلى  الشيخ البكري ثم إلى الشيخ العروسي والشيخ الدردير وصار  يحكي لهم وتصاغر في نفسه جداً وأوصاهم على المحافظة وكف  الرعية من أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت فإنه  كان يخاف ذلك جداً).

وقد كسب العلماء للمصريين حقاً جليلاً في أثناء هذه  الحوادث فإنه بفضل سعيهم أصدر القائد التركي حسن باشا عند ما دخل مصر قانوناً كان يقضي بأن أهل مصر لا يمس أحد منهم  إلا بمقتضى القانون الشرعي وأن لا سبيل على أحد منهم إلا  بمقتضى ذلك القانون وحده. ثم لم يتردد العلماء بعد ذلك في الوقوف  إلى جانب القانون ولو كان وقوفهم في وجه الباشا القائد المنتصر  نفسه. فانه عقب انتصاره أحب أن ينكل بالمنهزمين من الأمراء المصريين فأراد أن يبيع نساءهم، مع أن القانون الشرعي لا يبيح  بيع الجارية المملوكة إذا صارت أما أو أصبحت حرة، فوقفوا في  وجه ولم يمكنوه من ذلك لمخالفته المكفولة للأفراد في  الشريعة الإسلامية.

أما في جلسات الديون فلم يكن صوت العلماء أضعف جرساً،  فكانوا يعارضون في كل شيء يمس مصالح المصريين حتى في  الأمور الخاصة بالدولة ذاتها، فقد عرضت مرة مسألة الديوان  خاصة بالاستعانة بجنود من بلاد الدولة العثمانية، فوقف الشيخ  العروسي فقال: (إن الأمر لا يحتاج إلى ذلك، فان العساكر  الرومية   (التركية)  لا تنفع بين العساكر المصرية، والأولى استجلاب  خواطر الجند بالإحسان اليهم، والذي تعطونه للأغراب أعطوه  

لأهل بلادكم أولى) وقد أخذ الديوان برأيه في ذلك اليوم.

ولكن العلماء اظهر تمثيلاً للشعب المصري، وأكثر  جلالاً في وقوفهم على رأس مظاهرات العامة كلما جد أمر يدعوا  إلى الاحتجاج، أو حدث حادث فيه تعرض للحقوق والحريات.  ولم تكن تلك الحركات قليلة، كما أنها لم تكن مقصورة على القاهرة،  فقد ثارت ثورات في القاهرة، وثارت مثلها في رشيد، ومثلها  في طنطا وفي بلبيس. وكان العلماء دائماً على رأس تلك الثورات  الشعبية، يظلون كذلك حتى ينتهي الأمر بإذعان القوة للحق.  قال الجبرتي في وصف ثورة من ثورات الشعب في الحسينية:    (وحضروا إلى الأزهر ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة  من أوباش العامة، وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى  الشيخ الدردير فونسهم وساعدهم بالكلام، وقال لهم: أنا معكم)   واستقر العزم عند ذلك على جهاد الأمراء الظالمين وإيقافهم عند  حد القانون بالقوة ما لم ينتهوا بالقول. وحدث مثل ذلك في طنطا  وكان الشيخ الدردير كذلك على رأس المتظاهرين ضد الظلم هناك،  قال الجبرتي:   (فركب بنفسه وتبعه جماعة من العامة حتى التقى  بالأمير، فكلمه ووبخه، وهو راكب على بغلته، وقال لهم: انتم  ما تخافون الله)  وحدث اصطدام أثناء ذلك بين العامة والحاكم  وأتباعه، أصيب فيه جماعة من الجانبين، وضُرب الحاكم نفسه  ضرباً شديداً.

وحدث مرة أخرى أن اعتدى موظف إداري وهو   (الوالي)   أحمد أغا على بعض أهالي الحسينية، وأشتد في مطالبة أحمد سالم  الجزار، وأراد القبض عليه مخالفاً في ذلك العهد الذي تعهد به  الباشا من قبل، ألا يمس أحد إلا بمقتضى الشريعة الإسلامية.  فثار أهل الحسينية ثورة هائلة، والتجأوا إلى الشيخ العروسي  يلتمسون عنده الحماية من الظلم   (وكان الشيخ الدردير  قد توفي إلى رحمة الله)  فقام الشيخ العروسي بأمر الوساطة في شأنهم،  وانتهى الأمر بعد مشادة طويلة بعزل الوالي وتولية والي آخر.  قال الجبرتي: ونزل الوالي الجديد من الديوان إلى الأزهر، وقابل  المشايخ الحاضرين واسترضاهم. ثم ركب إلى بيته وأنفض الجمع،  وكأنها طلعت بأيديهم والذي كان راكباً حماراً ركب فرساً).

وأشتدت مرة وطأة أحد الأمراء على أهل بلبيس في تحصيل

الأموال، فالتجأ الفلاحون إلى الشيخ الشرقاوي ليحميهم،  فبدأ الشيخ بمخاطبة مراد وإبراهيم، فلما لم يجد لمسعاه أثراً في  إصلاح الحال بالسعي السلمي، دعا إلى الثورة فأجتمع له كثير من  أهل القاهرة ومن أهل الأطراف، وأوشك الأمر أن يكون ثورة  دموية مدمرة، وقضت القاهرة ثلاثة أيام في اضطراب وخوف،  قال الجبرتي: (ثم حضر الباشا إلى منزل إبراهيم بك، وأجتمع  الأمراء هناك، وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ السادات  والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ  الأمير. . . . . . . . . ودار الكلام بينهم وطال الحديث، وأنحط  الأمر على انهم   (الأمراء)  ثابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء  عليهم، وأنعقد الصلح. . . . . . . . . وان يكفوا اتباعهم عن امتداد  أيديهم إلى أموال الناس. . . . . . . . . ويسيروا في الناس سيرة  حسنة. . . . . . . . . وكان القاضي حاضراً بالمجلس، فكتب حجة  عليهم بذلك، وفر من عليه الباشا، وختم عليها ابراهيم بك  وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها ايضاً، وانجلت الفتنة ورجع  المشايخ وحول كل منهم وأمامه وخلفه جملة من العامة، وهم  ينادون حسب ما رسم سادتنا العلماء

وبعد فما الذي بين هذا الحال وبين بناء صرح الحريات  المصرية كاملاً متماسكاً؟ لقد كان العلماء يبنون ذلك الصرح حجراً  حجراً، وكان الشعب من ورائهم يطالب بحقوقه ولا يتنازل  عن شيء منها مطالبة المصر على الحياة الكريمة العازمة على التمتع  بإنسانيته تمتعاً تاماً. وما كان لمثل هذا الشعب أن ينتهي به السير  إلا عندما يريد من العزة والكرامة.

غير ان الله لم يرد ان يكون هذا في ذلك الوقت، فقد نزلت  بمصر كارثة الغزوة الأجنبية، غزوة الحملة الفرنسية التي عاقت  ذلك السير المجيد وحفرت هوة عميقة بين ماضي مصر المجيد  وحاضرها، وبين سعيها في القرن الثامن عشر وسعيها اليوم.

ألا فلتقطع ألسنة الذين يقولون إن دستور مصر كان منحة  مهداة، أو أن حريات مصر كانت عطية مسداة. فلقد كان شعب  مصر لا يني يسعى إلى تلك الحريات، ويحمي تلك الحقوق، مضحياً  في ذلك بكل شيء، حتى بالدماء!

اشترك في نشرتنا البريدية