( هذه كلمة صريحة يبدو صدقها من ثنايا نبراتها الخاصة هذه إحدى زهراتنا الجامعيات تأتى الضوء على مأساة جيل كامل ، فنقرأ ونسأل أنفسنا ، أسئلة شقى ولتصرخ كما تصرخ هذه الزهرة الجامعية ، لعل الآذان تفتح إلى الحق )
أفكر فى الامتحانات فأول ما ينبعث فى ذهنى هو هذه الصورة : مقعدى وقد غرس وسط الأعشاب فى أرض خربة اخذتها الجامعة مكاناً لإجراء الامتحان . وراحت أطراف الأعشاب المدببة تخز قدى وخزا أليماً . فما أزال بها أنقلها من جانب إلى آخر عسى أن أجد متسعاً لها فى منطقة جرداء ولكن هيهات وقد ثبت القصد فى مكان ليس من حقى أن أقدمه إصبعاً واحدة أو أؤخره أخرى . ثم مجموعة كبيرة من الحشرات تزحف على من كل صوب فتصل إلى أصابعى الممسكة بالقلم قبل أن تصل إليها أفكارى ، وتحتل ورقة الإجابة قبل أن تحتلها ألفاظى . فإذا بخطة الإجابة فى ذهنى قد استحالت إلى خطة للقضاء على هذه الحشرات وقد يتم تنفيذ هذه الخطة سريعاً ، وقد يستغرق وقتاً طويلا ينال من صبرى وجهودى واتجاه ذهنى نصيباً كبيراً كان من شأن الإجابة وحدها . فإذا تم لى النصر أخيراً ، وأخذ العلم يشق طريقه على الورق ، لم يلبث أن يرتجف فجأة ويتداعى بين أصابعى فى اضطراب شديد إثر دوى صوت بنهر طالباً فى أول اللجنه . وما إن يشتد النقاش ويستحيل إلى معركة كلامية عنيفة حتى يستولى على كل حواسى وتفكيرى وبعود الذهن صفحة بيضاء ويظل كذلك إلى ما بعد فض رئيس اللجنة لهذه المعركة
وكنت ما أزال طالبة ساذجة ترضى عن كل شئ . أو تعلله تعليلا يرضيها . فما كان هذا الوضع فى نظرها إلا اختباراً للصبر ، يعلمها كما علمها معلموها أن المجد محفوف بالشوك . وأن لا بد للشهد من إبر النحل . فكانت تلك الأعشاب وهذه الحشرات لديها بمثابة أشواك المجد وإبر
النحل ، لا يعكران لها صفواً ما دامت ستنال المجد وتذوق الشهد ، وكانت إذ ذاك بى نزعة روحية تدعونى إلى إهمال كل شئ مادى . فكنت أحتقر تلك الحساسية التى تجعل للآلام الجسمية موضعاً فى مجرى شعورى . وصرت أربأ بنفسى عن الإسرار لغيرى بما أقاسى ، بل كنت أمسك عن التصريح لهذه النفس فيما بينى وبينها ، بأن الآلام التى أعانيها أثناء الامتحان تستولى على بعض من انتباهى . وكل ما كنت أفعلة إذا اشتد بى الألم هو أن أتذكر ذلك الصوفى الذى بترت ساقه وهو يصلى فلم يستشعر لها ألما ، ثم أنهر النفس قائلة : إنما يجب عليك أن تكون أنت الأخرى فى سكرة علمية اثناء الامتحان ، فلا تعيرى هذه الآلام انتباها ولا تستشعرى لجسمك كياناً .
لكن العلم والتجارب أقنعانى بأن الإنسان وحدة يتأثر جانباها كل منهما بالآخر ، وأن الجسم وحالاته لا بد مؤثر على العقل وتفكيره . وابتدأت هذه الصورة تبعث فى ذهنى فتضيف حيرة إلى حيرتى ويأسأ إلى يأسى كلما ألح على هذا السؤال إلى أى حد نقيس هذه الساعات الثلاث المخصصة للامتحان فى كل علم ما حصله الطالب طول عامه قياساً صحيحاً ؛ فلطالما حاولت أن أقنع نفسى بأن هذه الساعات الثلاث تستطيع أن نقيس حقاً مقدار تحصيل الطالب وحكم على صلاحيته لاستقبال مرحلة جديدة من التعليم ، لكنى لم أفلح فما بالك لو أضيف إلى هذه الساعات الثلاث تلك الملابسات التى وصفتها ؟
أما أن هذه الساعات الثلاث فى حد ذاتها لا يمكن أن يعتمد عليها فى تحديد مدى تحصيل الطالب ، فهذا ما يستند إلى أسباب عدة أولها : -
أن هذه المدة الوجيزة لا نقيس مدى الإطلاع الخارجى الذى يجب أن يؤديه الطالب الجامعى , المهم إلا إذا اقتصرنا
للاستدلال على اطلاعه بذكره لأسماء المؤلفات التى قرأها ، وكم يحفظ الطلبة من أسماء كتب لم يقرأوا منها سطراً واحداً . وإنما هى تضطر الطالب للإيجاز حتى لا يكاد يتجاوز ما سمع فى المحاضرات ، كما تضطر الأستاذ للاكتفاء بهذا الموجز فى ورقة الإجابة . ومن شأن هذا أن يحد من أفق الطلاب الجامعيين ويحمل تحصيل أكثرهم لا يتجاوز تحصيل تنفيذ المدرسة الثانوية إن لم يقل عنه ، لأن التلميذ فى المدرسة الثانوية يقرأ الكتب المقررة عليه ، بينما لا يقرأ الطالب الجامعى سوى مذكرات عن المحاضرات لا يعلم إلا الله كيف كتبها وإلى أي حد نسقها .
وعلى الرغم من ذلك ، وبينما نجد وزارة المعارف تجد فى تطبيق نظم جديدة تكفل الحكم الصائب على مدى استحقاق التلميذ لاستقبال مرحلة جديدة من التعليم ، نجد الجامعة لم تفكر يوما فى تغيير نظمها العتيقة ، ولا تجربة نظام المدد الدراسية (Terms) المتبع فى اكثر جامعات أوربا وأمريكا ، مع مضاعفة الاهتمام بأبحاث الطلبة طول العام ، وإعطائها من حق الحكم على الطالب ما يساوي نصيب الامتحان . ثم تكليف الطلبة بالقيام ببعض الأعمال فى العطلة الصيفية حتى تستوثق من مقدرتهم على تطبيق ما درسوا وتضمن اكتسابهم للخبرة العملية . لم تفكر جامعاتنا فى شئ من هذا مع العلم بأن لمثل هذه النظم من النتائج ما يتعدى صواب الحكم على مدى اطلاع الطالب إلى رفع مستوي الطلبة جميعاً والتخفيف من وطأة الاعتماد على الدور الثانى . وذلك لأن الطالب سيجد فى أعمال السنة والاطلاع الخارجى ما دامت لها نصف الحق فى تقرير مصيره ؛ هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لأنه سيعلم أن عليه عملا يجب أن يؤديه أثناء العطلة فلا يتعمد ترك بعض العلوم للدور الثانى حتى يتسلى بقراءتها فى الصيف كما يزعم اكثرهم .
أما السبب الثانى الذى يقضى على قيمة هذه الساعات الثلاث كمقياس صحيح لمقدرة الطالب العلمية ، فهو أن أسئلة الامتحانات تصل إلى أيدى كثير من الطلبة قبل الامتحان . وعندى كثير من الأدلة على ذلك مذ كنت طالبة ساذجة لا تصدق شيئا ينال من سرية الامتحان وهيبته حتى صرت الآن أشهد هذه الفضيحة الكبرى وتتوالى على أنباؤها من كل صوب
فأتحقق وكلى أسف من صدق ما كان يروى وأنا طالبة أما كيف يتم ذلك فهذا ما زلت فى حيرة من أمره ، بل وأدعو الله ألا يثبت لى يوما صدق ما يتكهن به البعض حتى احتفظ بالبقية الباقية من احترامى للتعليم الجامعى فى مصر .
لكن لدى مجموعة كبيرة من آراء الطالبات والزميلات المتذمرات من هذه المأساة الخلقية ، أحب أن أعرض بعضها لعل أولى الأمر يتدبرونها ويسمعون إلى نفس أسبابها والقضاء عليها . أسوق هذه الآراء وأنا فى حيرة أخرى فلماذا لا يتكاتف الطلبة ويعلنون الثورة على هذا الوضع ؟ أهم جميعاً يشتركون فى الجريمة ؟ أم هم أبرياء وتنقصهم الشجاعة لمصارعة أولى الأمر ؟ أم هم أبرياء وشجعان لكنهم يرون ان هذا الأمر جانب من جوانب الأنحراف الخلقى العام الذى أصاب الناس جميعاً هذه الأيام ولا سبيل لتقويمة مهما بحت الأصوات :
فهذه فتاة ذكية طموح جاءتنى شاحبة الوجه مضطربة الحركات ، فما كدت أفتتح الحديث معها متمنية لها التفوق فى الامتحان حتى صاحت بى فى يأس : " لقد ضاع التفوق من يدى " قلت : " وكيف ؟ " فأجابت ثائرة : " لقد كانت أسئلة الامتحانات مع كثير من الطلبة قبل الامتحان وحين فطنت الكلية إلي ذلك فى الأيام الأخيرة كان كل ما واجهت به الأمر هو إبدالها بأسئلة الدور الثانى أو ارتجال أسئلة جديدة لست أدرى . فإذا بالامتحان وقد تأجل ميعاد انعقاده نصف ساعة ، وإذا بالأسئلة رديئة الطبع غير محكمة التدبير ، وإذا من كانوا قد أعدوا عدتهم للأسئلة المعلومة وحدها بصرخون ويولولون . وإذا اللجنة فى هيرج ومرج يحطم الأعصاب وبشل التفكير ، وأى يد بعد ذلك تستطيع أن تقبض على قلم . وأى ذهن يستطيع أن يتسلسل له تفكير ؟ " وغاب صوتها لحظات وإن كان حديثها الثائر لم ينقطع له تيار وإنما عكسته حنجرة أصابها الإعياء فارتد إلى قلبها الثاثر يؤجج ضرباته حتى يهز كيانها هزاً . فلما استعادت حنجرتها شيئاً من قوتها وجدتها تصيح فى حنق شديد : " كلما تصورت أن هذا المجهود المضنى الذى نال من جسمى ومن ذهنى ما نال لا يؤهلنى لمثل ما يؤهله اطمئنان يطرق باب غيرى فى صورة أسئلة يعدونها ، وهم أهدأ ما يكونون بالا ،
وأكثر ما يكونون ارتياحا ، أكاد أجن من وضع كهذا يجعل ثمار الغش أحلى من ثمار الكد والكفاح . صدقينى لقد صرت أحتقر كل شئ ، حتى التفوق الذى قد يؤهلنى لأن أصل إلى مركز يجعلنى إحدى المشتركات فى هذه الجريمة الشنعاء " .
ورثيت لحال الفتاة ، ونحيت جانبا ذلك الهذيان الذى صدر عنها عن حمى الغيرة على التفوق ، وأملته الرغبة فى تبرير القصور . نحيته جانبا إذ وجدته أبعد تصوير لحقيقة أعرفها جيداً عن سرية الامتحانات . لكن تصادف لفرط تعبى أننى أردت الاتصال تلفونياً بإحدى الصديقات وتعذر على هذا لمدة ساعتين لانشغال الخط انشغالا متواصلا فلما لمتها على ذلك فيما بعد أجابت ضاحكة : " ألا تعلمين أن أخى يمتحن هذه الأيام وأن الأسئلة تتوارد عليه من كل صوب ويوزعها بدوره على من شاء كرمه أن يشملهم برعايته ؟ " وعندئذ تمثلت أمامى صورة الطالبة البائسة ورنت فى أذنى عباراتها الثائرة وأمضيت ليلتى أرقة أفكر وأتأمل فى كل ما قالت حتى أسفر الصبح ، ووجدتنى أمضى إلى زميلة معيدة بإحدى كليات الجامعة لأشركها معى فى التفكير . لكننى وجدتها تضحك منى ساخرة وهى تقول . " كنت أشد حيرة منك فى العام الماضى . لكن الظاهر أننى قد تأقلمت لهذه البيئة لا تراعى يا صديقتى فسوف ترين المثل العليا تنهار أمامك الواحد بعد الآخر . فتجلدى مثلى وتأقلمى . ." وراحت تقص على مسمع يكاد يصم ذهولا كل ما لمست من فضائح الامتحانات هذه الأيام .
لقد كان آخر ما أود أن يصيب بنى وطنى هو هذا الوباء الأخلاقى الفتاك ، وكان آخر من أود أن يتفشى بينهم هو هذه الطبقة المستنيرة من الأمة . ولقد كنت أفضل أن أرى التعليم الجامعى مقصوراً على أقلية ضئيلة ، فلن يضيرنا هذا شيئاً ، إذ أنه الوضع السليم فى معظم بلدان العالم . أما أن نزج إلى الجامعة بكل من هب ودب وبكل العقليات على اختلاف مستوياتها ، ثم نتركهم يغتصبون الشهادات اغتصاباً ، ويختالون عليها احتيالا ، فهذا هو الضر الذى يأباه كل وطنى مخلص ذو عقل سليم . فلا شك أن السبب الرئيس لهذه
الظاهرة البغيضة هو فتح أبواب الجامعات لغير أهلها . فلا هم جنوا من ذلك غير فساد الخلق وتعلم الاحتيال ، ولا جنى غيرهم سوى الانهيار الخلقى والعلمى لتفشى العدوى ، أو الانهيار النفسى والانصراف عن التطلع إلى التفوق لليأس من حكم الامتحانات .
هذه بعض مساوئ الامتحانات فى بلادنا بالإضافة إلي مساوئ الامتحانات التى نعرفها كلنا وراحت معظم دول العالم تفكر فى التخفيف من حدتها بشتى الطرق . وهذا هو ما جعلنى أشك كثيراً فى قيمة مثل هذه الامتحانات ولمجرد ما ذكرت من أسباب ، فما بالك لو أضيف إلى هذه الأسباب تلك الملابسات التى وصفتها فى ابتداء الحديث ؟ فلو كنا لا نستطيع أن نعدل من هذا النظام العتيق للامتحانات ، ولا نقلل من أهمية هذه الساعات الثلاث ، فلا أقل من أن نهئ لها المكان اللائق بحيث يخص الطالب من راحة الجسم مرة كل عام ما يخص طالب اللهو كل يوم إذا أراد أن يمضى ساعات ثلاثاً من فراغه فى إحدى دور اللهو العديدة

