الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثالثالرجوع إلى "الرسالة"

ضحى الاسلام

Share

أراد ناقد من نقاد التمثيل أن يثنى على قصة راقته، وملكت عليه  إعجابه، وكان صاحب القصة له صديقاً حميما فتوقع أن يلام فى الثناء  عليه، ولكنه لم يتحرج من إهداء هذا الثناء إلى صديقه فى غير تردد  ولا تحفظ. وأعلن فى صراحة -أعجبتنى- أن من خيانة الأصدقاء  أن تتخذ صداقتهم وسيلة إلى جحود مالهم من حق وإخفاء مالهم  من فضل، وتجاملهم هذه المجاملة السلبية التى تدفعك إلى أن تتردد  وتتحفظ، وتقدم اليهم ثناء ممتقعاً شاحباً، حتى لا تتهم بالاغراق،  ولا توصف بالمحاباة. وحتى لا يسوء ظن قرائك بنصيبك من  الانصاف، وحظك من الاستقلال.

رأى ذلك الناقد (وأنا أرى معه) أن هذا النحو من معاملة  الأصدقاء خيانة منكرة، وظلم قبيح. وأنه فالوقت نفسه نوع من  اتهام النفس، والاسراف فى سوء الظن بها. فليس ينبغى للناقد أن  يصدر -فيما يرى من رأى- عما يقول الناس فيه أو ما يمكن أن  يقولوا فيه، وإنما هو مدين لنفسه ولقرائه بما يعتقد أنه الحق  الخالص، سواء أرضي الناس أم سخطوا، وسواء أوافق رأيه  هوى القراء، أم أنحرف عنه.

وعلى هذا النحو من الاستعداد عمدت دائماً إلى النقد،  واجتهدت ما استطعت أن لا أظلم الصديق لصداقته، ولا الخصم  لخصومته، وليس الظلم مقصوراً على أن تغضَّ من العمل الأدبى  أو العلمى، أو تنقص من قيمته لأن صاحبه صديق لك، أو حرب  عليك. بل هناك ظلم أقبح من هذا وأشنع، وهو أن تثنى على من  لا يستحق الثناء أو تغلو فى حمد من لا يستحق الحمد إلا بمقدار،  وأن تحمد الخصم لأنه خصم، ولأنك تكره أن يقول الناس فيك  خاصمه فعجز عن إنصافه وتحامل عليه.

ولست أريد أن أخون صديقى (أحمد أمين) بالاسراف فى الثناء عليه، ولا أن أخونه بالغض منه والتقصير فى ذاته، وإنما  أريد أن أنسى صداقته، وأهمل (ولو لحظة قصيرة) ما بينى  وبينه من مودة كلها صفو وإخاء استطعنا أن نجعله فوق ما يتنافس  الناس فيه من المنافع وأغراض الحياة، وإنما أريد أن أنصفه، وأشهد  لقد فكرت وقدرت، وجهدت نفسى فى أن أجد شيئاً من العيب  ذى الخطر أصف به هذا الكتاب الذى أقدمه إلى القراء فلم  أجد، ولم أوفق من ذلك إلى قليل ولا كثير.

وليس ذنبى أن (أحمد أمين) قد قصد الى عمله فى جد وأمانة  وصدق، وقدرة غريبة على احتمال المشقة والعناء، والتجرد من  العواطف الخاصة. والأهواء التى تعبث بالنفوس، فوفق من  ذلك إلى أعظم حظ يستطيع العالم أن يظفر به فى هذه الحياة.

نعم؛ وليس من ذنبى أن (أحمد أمين) قد استقصى فأحسن  الاستقصاء، وقرأ فأجاد القراءة، وفهم فأتقن الفهم، واستنبط  فوفق إلى الصواب. ليس من ذنبى هذا ولا ذاك، وليس من ذنبى أن (أحمد أمين) بعد هذا كله، وبفضل هذا كله، قد فتح فى درس  الأدب العربى باباً وقف العلماء والأدباء أمامه (طوال هذا  العصر الحديث) يدنون منه ثم يرتدون عنه، أو يطرقونه فلا  ينفتح لهم، ووفق هو إلى أن يفتحه على مصراعيه، ويظهر الناس  على ما وراءه من حقائق ناصعة، يبتهج لها عقل الباحث والعالم  والأديب، ليس شىء من هذا ذنبى أنا! وإذا لم يكن بد من أن  يلام أحد لأن عالماً مصرياً قد وفق إلى هذا الفوز المبين،  أهدى إلى اللغة العربية كتاباً لم يسبق إلى مثله، فليُلَم هذا العالم  المصرى نفسه، وليعاقب (أحمد أمين) لأنه ظفر بهذا الفوز.

لقد اختار (أحمد أمين) لكتابه عنوانه هذا (ضحى  الإسلام) وهو لا يقدر إلا أن الضحى يأتى بعد الفجر، وأنه  وقد أظهر (فجر الإسلام) يجب أن ينغمس فى ضحاه. أما أنا،  فكنت أفهم معه هذا الفهم، وأذهب معه هذا المذهب، ولكنى  لم أكد أبدأ معه قراءة الكتاب حتى أخذت أحس شيئاً لم أرد  أن أتحدث به إليه، مخافة أن يكذب ظنى مضينا فى قراءة الكتاب،  ولكننا مضينا، ومضينا حتى أتممنا هذا الجزء الذى نقدمه الى القراء. فاذا هذا الشىء الذى كنت أحسه يزداد وضوحاً وجمالا  وقوة. وإذا ظنى يصدق شيئاً فشيئاً حتى يصبح يقيناً وإذا أنا  مؤمن إيماناً لا يشوبه الشك بأن هذا الكتاب الذى أنا سعيد  بتقديمه إلى القراء يلقى على تاريخ الإسلام فى العصر العباسى  الأول نوراً رائعاً وضاء قوياً هو أشبه شىء بنور الضحى.

فالكتاب (ضحى الاسلام) لأنه يدرس تاريخ الحياة  العقلية للمسلمين فى القرن الثانى للهجرة، وهو (ضحى الإسلام)  لأنه قد جلى هذه الحياة وأظهرها للناس كأوضح ما يمكن أن  تكون، وكأجمل وأبهى ما يمكن أن تكون، ولست أدرى أيهما  أهنئ بهذا الفوز (أحمد أمين) لأنه قد جد وألح ومضى فى الجد  والالحاح، حتى انتهى إلى هذا التوفيق، أم الجامعة المصرية لأنها  قد اهتدت إلى (أحمد أمين) ووكلت إليه ما وكلت من أنواع  الدرس وفنون البحث، ولعل الخير كل الخير فى أن أصرف هذه  التهنئة عن (أحمد أمين) وعن الجامعة إلى الذين يقرءون اللغة  العربية، ويعنيهم أن يؤرخوا آدابها، ويستكشفوا ما اشتملت  عليه من الكنوز التى كانت مجهولة إلى الآن، هؤلاء أحق بالتهنئة  لأنهم سيسيرون منذ اليوم إلى أغراضهم فى طريق واضحة  سهلة معبدة، يغمرها نور الضحى.

لن تكون حياة المسلمين منذ اليوم، كما كانت من قبل،  غامضة مضطربة، يتحدث عنها مؤرخو الآداب بالتقريب لا  بالتحقيق، ويقولون فيها بالظن لا باليقين. ذلك عصر قد  انقضى، وألقى بينه وبين الذين سيؤرخون الآداب ستار  صفيق. ألقاه (أحمد أمين) وأصبح الذين يقصدون إلى تاريخ  الأدب قادرين منذ اليوم على أن يحققوا ويستيقنوا،  ويسيروا في بحثهم على بصيرة وهدى.

ما أكثر ما كنا نضيق صدراً بهذه الرموز الغامضة التى كان  يلجأ اليها مؤرخو الآداب حين كانوا يذكرون تطور الحياة  الاسلامية -أيام بني العباس- بفضل الاختلاط بين العرب  وغيرهم من الأمم. وبفضل اتصال العقل العربى بالعقول  الأجنبية، وبفضل الترجمة والمترجمين؛ والتأليف والمؤلفين.  كانت هذه الألفاظ كلها رموزاً إلى الآن تدل على أشياء كثيرة،  ولكنها لا تدل على شىء. تُصَوِّرُ أمام الباحثين صوراً مختلطة  مضطربة لا تحصى ولا تستقر، فهى ذاهبة أبداً، جائية أبداً،  غامضة أبداً. نسعى إليها، ولا نظفر بها. أو يصرفنا عنها  الكسل العقلى؛ الذى هو آفة حياتنا الأدبية فى هذا العصر.

أما الآن فقد ضبطت هذه الصورة أحسن ضبط وجليت  أحسن تجلية، وأصبحنا إذا ذكرنا تطور الأمة العربية أو الأمم  الإسلامية فى القرن الثانى للهجرة نعرف بل نحس حقيقة هذا  التطور ومصدره، والآماد التى انتهى إليها، وأصبحنا إذا  ذكرنا الحياة الاجتماعية للمسلمين فى هذا العصر لا نقول كلاما  مبهماً، وإنما نقول كلاماً يدل على ما يراد به أحسن دلالة  وأجلاها؛ يدل على طبيعة هذه الحياة وما تقوم عليه من  اتصال بين الأفراد والجماعات، على اختلاف الأجناس  والبيئات والأمزجة، يدل على طبيعة الزواج الذى كان يكون بين  هؤلاء الناس فيخلط دماءهم خلطاً، أو قل يمزجها مزجاً،  يدل على طبيعة الرق الذى محا الشخصيات الفردية والاجتماعية  لكثير من الأفراد والأمم، وصهرها كلها فى مرجل واحد هو  الدولة الاسلامية، فكون منها شخصية جديدة كل الجدة،  طريفة كل الطرافة، هى شخصية الأمة الاسلامية.

نعم ويدل على هذه الطبقات التى كان يتألف منها الجسم  الاجتماعى، للأمة الإسلامية، والتى كانت تتقسم فيما بينها  الأعمال الكثيرة المختلفة، التى يحتاج إليها هذا الجسم لا ليحيا  فحسب، بل ليرفه هذه الحياة ويرقيها، ويأخذ فيها بأعظم  حظ ممكن من الترف المادى والعقلى والشعورى جميعاً.

واذا ذكرنا الثقافة اليونانية، فلن نفهم منها منذ اليوم هذا  المعنى المبهم الذى نرمز إليه بالفلسفة أحياناً، ولكنا سنعرف  بالضبط مقدار ما أخذ العرب عن اليونان، وكيف أخذوه،  ومن أين أخذوه، وكيف أساغوه أولا، ثم تمثلوه بعد ذلك؟.  وقل مثل هذا فى الثقافة الهندية والفارسية، أستغفرالله بل  خيراً من هذا، قل أكثر جداً من هذا فما أعلم أن باحثاً عن  تاريخ الأدب العربى وفق إلى تحقيق الصلة بين العرب والهند،  أو بين العرب والفرس إلى مثل ما وفق إليه (أحمد أمين) وهو -بعد هذا كله- أول من بسط هذا فى اللغة  العربية بسطاً يطمئن إليه الباحث الذى يسلك إلى بحثه طريق  الجد والصدق، لا طريق العبث والتضليل.

واذا ذكرنا الثقافة المسيحية والثقافة اليهودية، فلن نفهم  منهما منذ اليوم ما كنا نفهمه من قبل، من أن اتصال المسلمين  باليهود والنصارى قد أحدث بين أولئك وهؤلاء ضروباً من  التأثير العقلى العام. ولكننا سنعرف طبيعة هذا التأثير ومقداره ومصدره، ثم سنضع أيدينا على مظاهر هذه الحياة الجديدة، فيما أنتج المسلمون من أدب وعلم وفن.

أستطيع أن أقول إن (احمد امين) حينما انتدب لتأليف هذا  الكتاب قد اتخذ لأمة المحارب، ووضع أمام عينيه غرضاً  أقسم ليبلغنه، أو ليعدلن عن إظهار الكتاب. وهذا الغرض:  هو تخليص الحياة العقلية الإسلامية فى القرن الثانى من  الغموض والإبهام، وما زال بهذا الغموض والإبهام حتى  أجلاهما عن موقفهما، وانتزع منهما حياة المسلمين العقلية إلى  منتصف القرن الثالث للهجرة. وكان يزورنى كل أسبوع ومعه  طائفة جميلة رائعة من الغنائم التى كان يكسبها فى هذه الحرب  الشاقة المتصلة، فأقاسمه سعادته بالظفر، واغتباطه بالفوز.

ولست أحب أن تقدر أنى أعمد فى هذا الكلام إلى  ضروب المجاز وألوان التمثيل لأزين القول وأنمقه، ولكنى  أحب أن تستيقن أنى إنما أقول الحق خالصاً من كل زينة،  بريئاً من كل تنميق. فقد كان تأليف هذا الكتاب حرباً  عنيفة طويلة مملة بين المؤلف وبين الغموض والابهام. وكان  المؤلف كلما تقدم خطوة وقف ينظم انتصاره، ويصوغ  ثمراته هذه الصيغة الجميلة التى ستراها فى فصول هذا الكتاب  ويتأهب فى الوقت نفسه لهجمة أخرى يكسب بها موقعة  أخرى، وينتصر بها انتصارا جديداً.

ومع أن المؤلف قد أنفق جهداً قوياً فى أن يجنبك  مشاركته فيما كان يحتمل من عناء، ويلقى من مشقة، ويذوق  من مرارة الصبر والمصابرة، ومطاولة المسائل المعضلة التى  كانت تعرض له. فأنت واجد أثر هذا كله فى فصول الكتاب،  حين ترى المؤلف يسير فى أناة تشبه البطء، ويعرض عليك  جزئيات ضئيلة، تشبه أن تكون إغراقاً فى التفصيل، وتقليداً  للجاحظ فى حب الأستطراد، ولكن إثْبُتْ لهذا البطء،  واصبر لهذا التفصيل، وامض مع الكاتب فى رفق وأناة  فسترى أن نتيجة هذا الثبات والصبر والرفق أقوم جداً مما  كنت تظن، وأنفس جداً مما كنت تنتظر، وأن الكاتب لم يتورط  فيها تورطاً، وإنما قصد إليها قصداً، وتعمدها تعمداً. لأنه  لم يكن يستطيع أن يعدل عنها حتى يضحى بالأمانة العلمية،  والتحقيق الذى يفرضه البحث الحديث فرضاً على العلماء.

ولا تَخَفْ من هذا البطء، ولا تشفق من هذه المطاولة،  فلن يعترضك ملل، ولن يفل من حدك سأم، ولن تضيق بالكتاب لحظة، فقد عرف الكاتب كيف يهون عليك طول الطريق إلى غايتك، وكيف يبث أمامك فى هذه الطريق من  الزهر ما يستهوى عينك، وكيف ينشر حولك فى هذه الطريق من الأصداء الحلوة ما يخلب أذنك. وأنا زعيم بأنك ستحتاج إلى أن تعيد قراءة بعض الصحف وبعض الفصول،  وسترى أن الكاتب على إبطائه وأناته مسرع مسرف فى السرعة بعض الأحيان.

أشهد لقد وفق (أحمد أمين) فى هذا الكتاب الى الاجادة  العلمية والفنية معاً: أستكشف الحياة العقلية الاسلامية  استكشافا لم يُسْبَقْ إليه، ثم عرضها عرضاً هو أبعد شىء عن جفاء العلم  وجفوته، وأدنى شىء الى جمال الفن وعذوبته.

فلينعم القراء بفصول هذا الكتاب، ولينعم المؤلف بما  ينعم به الظافر حين ينتهى الى فوز لا تشوبه شائبة. ولتكن  هذه الحياة الجادة الخصبة المنتجة -فى تواضع ولين جانب-  التى يحياها (أحمد أمين) درساً نافعاً، ومثلاً صالحاً للذين  يريدون أن يحيوا فى مصر حياة العلماء.

اشترك في نشرتنا البريدية