الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 80الرجوع إلى "الرسالة"

ظواهر متماثلة، في تاريخ الأدبين العربي والانجليزي

Share

لا يكاد يكون بين الأدبين العربي والانجليزي من وجوه  التشابه إلا الأمور العامة التي يتفق فيها كا أدبين يعبران عن  نوازع النفس الانسانية، وهما فيما عدا ذلك مختلفان جد الاختلاف،  وهذا راجع الى أمرين: أولهما اختلاف الأمتين في الجبلة والبيئة:  فهذه أمة شرقية سامية خرجت من جزيرة صحراوية وورثت  الدول الشرقية القديمة، وتلك أمة غربية آرية خرجت  من جزيرة شمالية وشاركت في تراث الدولة الرومانية، وثاني  الأمرين اختلاف قسطي الأدبين من التأثر بالثقافة اليونانية:

فبينما كان تأثر الأدب العربي بها قليلاً غير مباشر تأثيرها في  الأدب الانجليزي شاملاً غامراً للأصول والفروع، فكتسب  ذلك الأدب صبغة إغريقية ظل الأدب العربي بعيداً عنها

ولكن هناك ظواهر فى تاريخ الأمتين والأدبين متماثلة أدى  إليها تماثل وقتى في الظروف وأدت الى نتائج متماثلة : فمصر  الجاهلية في تاريخ الأدب العربي شبيه بعصر ما قبل اليزابث في  التاريخ والأدب الانجليزيين : ففى ذينك المصرين كان كل من  الشعبين يعيش داخل جزيرته في عزلة كبيرة عن العالم على حال  شبيهه بعصر الأبطال في بلاد اليونان الذي أنتج ملاحم  هوميروس , وكان الاديان تبعا لذلك جافيين , وعرى الاسلوب واللفظ , ساذجى المعنى , بعيدين عن الصناعة الفنية , وكانا اقل رقيا من الأدب الذى جاء فى العصر التالى . والواقع ان الشبه هنا بين الجاهلية العربية وعصر الأبطال اليونانى كبير : في الجاهلية كان العرب منقسمين قبائل وعشائر متناحرة كما كانت البلدان والعشائر اليونانية ، وإن كانت تحس بقوميتها العربية العامة متمثلة فى لغتها وفى مجامعها السنوية فى الأسواق وفى الحج الى مكة , كما كان اليونان يجتمعون فى المواسم الاولمبية ويحجون الى دلفى , وفى تميزها على الأمم الأخرى التي كان العرب يسمونهم عجا كما كان اليونان

يعتبرون من عَداهم برابرة، وإن يكن العصر الجاهلي لم ينتج ملاحم  كباراً كالألياذة والأوديسا في اليونان أو كملحمة   (بيولف)  في  انجلترا، فان قصائده على قصرها هي من هذا الضرب. ولعل العصر  الجاهلي لو طال قليلا لائتلفت تلك القصائد الصغيرة التي تمجد  كل منها قبيلة واحدة، فكونت ملحمة كبرى تتغنى بفروسية  الأمة العربية قاطبة

ونهضة العرب بظهور الاسلام تماثل نهضة الانجليز في عصر  اليزابث بوصول النهضة الأوربية الى انجلترا واتجاه نظر الانجليز  الى ما وراء البحر؛ ففي كلا العصرين بدأت كل من الأمتين تخرج  من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها وتتصل بالعالم وتصطنع  حضارته وتبنى لنفسها امبراطورية مترامية الاطراف، وارتقى  أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً ورقت ديباجته، وإن يكن الرقي  الادبي في صدر الاسلام قد تمثل في النثر بينما تمثل في العصر  الاليزابثي في الشعر ولاسيما الشعر التمثيلي

وبانبعاث هذه النهضة وقيام هذه الدولة انتسرت كلتا  اللغتين في بقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم؛  فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية  سار يتكلم من حدود الصين الى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات  وأزال غيرها وحل محلها، وأصبح اليوم لسان شعوب كثيرة في  آسيا وأفريقة. واللغة الانجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين  تعد على الأصابع في عهد شكسبير أصبحت تُتكلم وتدرس في  مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب  عالمياً على عهد عظمتهم

ولم تكد كل من الأمتين توطد أركان امبراطوريتها حتى  انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ  والسلطان، وداناها في ازدهار الآداب والعلوم، فكما انفصلت  الأندلس عن الخلافة العربية استقلت الولايات المتحدة الأمريكية  عن الامبراطورية البريطانية؛ بيد أن البلاد الأصلية احتفظت  بالزعامة الأدبية على طول المدى فلم تنجب الاندلس من  الأدباء من بذلوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الامبراطورية البريطانية من داني شكسبير وملتون

وباتصال كل من الأمتين بالأمم المتحضرة سرت إليها موجة

عدوى من دواعي الترف وبدأ أثر ذلك في أدبها: فاختلاط العرب  بالفرس أدخل الترف والعبث في البلاط العباسي وأثر في جيل  أبي نواس من الشعراء، واتصال الانجليز بفرنسا في ظل ملكها  المترف لويس الرابع عشر أفسد بلاطهم على عهد شارل الثاني  وبان أثر ذلك في الأدب ولاسيما في الرواية التمثيلية

وكلا الأدبين تأثر إلى حد بعيد بالكتاب السماوي الذي  تدين به أمته؛ فأثر القرآن في المجتمع العربي وتاريخ اللغة العربية  وأصولها وآدابها وثقافة أدبائها وأساليبهم جسيم بين الجسامة،  فقد كان منذ جاء مثلاُ أعلى وثقافة قائمة بذاتها؛ والانجيل منذ  ترجم إلى الانجليزية في عهد الاصلاح الديني له اليد الطولي  في تثبيت الأسلوب النتثري الانجليزي، وتثبيت مفردات اللغى،  وإدخال مفردات جديدة واشتقاق غيرها، واختراع طرق للاشتقاق

أدت إلى توسيع جوانب اللغة , وكان دائما قدوة للأدباء يحتذونها فىإسلاس الأسلوب , وله أثر مباشرجلى فى كتابين من وذخائر الأدبالانجليزى : أحدهما " رحلةالحاج " لبنيانوالثانى " الفردوس المفقود " للتون : في كلمتهما كان أساس القصة ما ورد فى الإنجيل من أنباء الخلق والبعث والحساب , بل إن دراسة الإنجيل كانت هى الثقافة الوحيدة التي نالها ( بنيان ) الذى كانقسا ضئيلالحظ من التثقف , ومع ذلك فأسلوبه المبنى على أسلوب الانجيل يعد فى الذروة فى أدب اللغة

وهناك التأثر بالتراث اليونانى الذى كان حتى على كل شعبانى بعد اليونان ان يتأثر به : فاغترف أدباء الانجليزية من منأهل الأدباليونانى اغترافا واستوعبوه دراسة فجاء اثره شاملا عاما لا يقتصر على فرع دون فرع ولا يمتاز به جيل أو أدباء أو أديب دون أديب , على حين كان التأثير اليونانى وفى الأدب العربي كما تقدم ضئيلا غير مباشر اتيا عن طريق دراسة فلسفة اليونان لا ادمهم مما بدا أثره فى حكم المتفى والمعرى واضر ابهما

لم يأخذ العرب عن اليونان ولا عن غيرهم

أخذاً بالجملة ما صنع الانجليز، بل ظلوا غب زمانهم شامخين بأدبهم  ينظرون من عليائه إلى من حولهم من أمم وما لها من آداب؛ أما عهد  الاخذ بالجملة في تاريخ الأدب العربي فهو عصرنا الحاضر الذي  يُسع فيه أدباؤنا اللغات الغربية دراسة ونقلاً ومحاكاة، فيُغنون  أدبنا أي إغناء، ويخصبونه بالعنصر الأجنبي الذي كان يعوزه

هذه ظواهر يتقارب فيها تاريخا الأدبين لتقارب في ظروف الأمتين في شتى العهود، أما ظواهر التباين فلا تكاد تعد؛ ويجب حين نقابل بين التاريخين أن نذكر أن دولة العرب أقدم عهداً وأدبهم أعرق محتداَ، وأن دولتهم وأدبهم قد غبر الفصل الاول من قصتهما، وهما اليوم في طور بعث جديد أما الدولة والأدب الانجليزيان فما يزالان في الفصل الأول

اشترك في نشرتنا البريدية