الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 79الرجوع إلى "الرسالة"

عابر سبيل

Share

قالت له نفسه الكريمة: (سِرْ يا رفيقي على هادك حتى تبلغ؛ لستَ من هذا الناس، ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!)

قَبْلَ أن يسفر الصبحُ من ليلة العيد، أستهل الصبيُّ  صارخاً لأولِ ما يرى الدنيا؛ وقالت القابلة:   (ي بُشرى هذا  غلام!)  فانبسطت وجوه؛ وابتسمت شفاه، ودب المرح في  جنبات الدار

وضمته أمه إلى صدرها النابض فقبلته وقالت:   (ستكون  سعيداً يا بني؛ إن الحياة لَتبسم في وجهك؛ هذا يوم أشرق  صبحه!)

وعاد   (الشيخ)  من المسجد يدب على عصاه، في لسانه  تكبيرُ وتسبيح، وفي قلبه صلاةٌ قائمةٌ ودعاءٌ خاشغ. واستقبلته  ابنته بالبشرى:   (إنه صبي يا أبتِ! هل ترى أخي؟)

وأدنى الشيخ من جبين الصبي فما يختلج بالشكر! فقبله  والدمع يترقرق بين أهدابه، والكلمات تحتبس في لسانه؛ وأطال  النظر في وجه الوليد فقال:   (لقد أبطأت طويلاً يا بني حتى  أدركني الهَرَم، ولكني بك اليوم سعيد! لئن كنت موشكاً أن  أمضي إلى الدار الأخرى - إنني لحيٌّ بك في دنياي جيلاً جديداً؛ فَعشْ واسعدْ يا ولدي وابتسم للحياة!) ورفع الشيخ رأسه إلى السماء وقال ": اللهم هذا دعاني لهذا , وأنت أرحم الراحمين ".!

مضى الطفل يعدو وراء الأيام تجاذبه أثوابَ الطفولة؛ فاذا  هو غلام يلهو في فناء الدار مع لِداتٍ من الصبيان

وقال له صبيٌّ:   (ما هذا معك يا رفيقي؟)  فانبسط وجه  الغلام، وقاسم الصبيان حلواه ومِليماتِه! وعرف الأطفال أن  صاحبهم جواد، فأقبلوا عليه واجتمعوا على وده: وهمس أحدهم

فيمن يليه:   (إن معه اكثيراً من ذاك!)  فتعود الأطفال  أم يسرقوه! ومضى الصبي إلى أبيه يبكي -    (ولدي، ما يبيك؟) -    (أبكي المليمات يا أبي!) -    (غداً أُعطيك غيرها يا بني؛ إن عند الله كثيراً من  المليمت للاولاد الصالحين!)

ونظر الغلام إلى فطير في أيدي صحابته فاشتهته نفسه؛  أفيطلب أن يقاسمهم وما تعود؟ ولكن أباه أخذه بألا ينظر إلى  ما في أيدي الناس؛ وكم علمه بالحكاية، وكم ضرب له من الأمثال: أن الحيوان الضعيف هو الذي يعيش على ما في الأيدي؟

ورأى الاطفال شهوته في هينه، فاستخفوا منه يلتهمون  من في أيديهم!

وشب الغلام، فدفعه أبوه إلى المدرسة، وعلمه في أول لياليه  وقد رجع من مدرسته؛ أنْ هؤلاء بازاء أهلك هناك؛ فأحسنْ  فيهم رعابة الود، وكن بينهم أخاً في إخوانه.)

وقال له زمياه في المدرسة ذات يوم:   (هل تعينني على كتابة  دَرْسي؟)  فلما اعانه مضى الزميل وخلفه يعالج درسه وحده!

وسمع المعلم ذات مرةٍ همساً بين تلميذين؛ وكان جاره  يطلب منه قلماً؛ وغصب المعلم وصاح:   (مَن يتحدث؟)   ولصقت التهمة بالمظلوم، فتلقى الصفعةَ صامتاً وجاره يبتسم؛ ولم  تكن ابتسامته من شناته، بل فرحاً بالنجاة من كف غليظة!

وفي الطريق شاغَب التلاميذُ في أحد الايام أعمى يدب على  عكازه، فلما توعدهم وهز لهم العصا، فروا وبقي الغلام لأنه بريء،  فلم تنل عصا الرجل أحداً غيره! لقد ىلمته الضربةُ ولكنه تقدم  بيهتدي الرجل الطريق!

وأيفع الغلام، واستدناه أبوه اليه وهو مطوي في الفراش  على نفسه من وهن الشيخوخة؛ ولبث الشيخ طويلاً يصوب  النظر في الغلام ويصعده، ثم تكلم:   (ليتك يا بني ملء عيني  ما أراك ملء قلبي! ولكني أرى في وجهك اليوم ما كانت

تُريني المرآة منذ عشراتٍ وعشرات، فلا جرم أن تبصر يا بني  في مرآتك بعد عشراتٍ وعشراتٍ صورة أبيك؛ ستكون  أميراً يا ولدي؛ سيستجيب الله دعائي لك، وما انقطع دعائي لك منذ  ولدت؛ فأحب الناس، وَهبْ نفسك للجماعة! كن رجلاً  قوياً يا بني؛ كن للناس فيض الحب والرحمة، ولا تستجد  الحياة ما لا تعطيك؛ السعيد يا بني من يعطي لا من يطلب  العطاء!)

وتكرر هذا من أبيه اياماً، كان يريد الا يموت إلا وقد وضع  نفسه في ابنه!

ثم مضى أبوه في رحلة طويلة لا رجعة منها إلى هذه الدار. يا حسرتا! هذا هو في الفراش مسبحي والنائحات تنوح! وأخفى  الفتى عينيه يستر دمعه، لقد علمه أبوه أن يكون جَلداً فليحفظ  وصاة أبيه

ونظر في وجوه المشيعين في الجنازة فما رأي بينهم رجلاً  كالذي فقده، فعلم أنه فَقدَه الى=الأبد. وتصور الدار الخلاءَ  إلا من أمه وإخواته. يا للفاجعة! يحب أن يون رَجُل الدار؛  لقد لقنه أبوه لمثل هذا اليوم دروس الرجولة منذ كان في المهد  صبياً. وهتف بالكلمة الغالية لآخر مرة:   (يا أبي،  فانني  أنت هنا!)

وعاد الى الدار مطرق الرأس، ليضع يد الرجل الصغير في  أكف الرجال الكبار يشكرهم على ما جاءوا لتعزيته!

أجاءوا يُعزون     (الرجل الصغير)   أم جاءوا يُحصوُن  ما خلف الميتُ وأنفيهم تسيل طمعاً؟

وقال له أمه: (ما بي خوف الوحدة وأنتَ لي، فقم على  الدار والدرس؛ إن الرجولة تقتضيك أن تكون من أهل العلم  والكرامة، فقد كان أبوك عالماً كريماً. كن للناس ما كان  أبوك: وجهاً طلقاً، ونفساً سمحة، ويداً معطية، وقلباً  يفيض بالحب!

وخُيل الى الغلام أنه الرجل، وطَمْأنَهُ الى الناس أن  أباه اوصاه بالناس، فلم يرد لأحدٍ طَلِبه، وإنه ليحمل من هموم

الناس أكثر مما يحمل من هموم نفيه؛ مؤمناً بأنه يفعل واجبه  للجماعة، ويؤدي دْينه للأنسانية؛ مستيقناً أن الناس ستحمل  عنه إذا نابه هم!

وقال له جاره يوماً:   (إن دائني يركب كتفي، فهل عندك  فضلٌ من المال الىحين؟)

وأعانه ما قَدَر على إعانته، فاذا جارهُ لا يقلقاه من بعدها إلا  حادَ عن الطريق؛ وإن غب (الرجل الصغير)  لقيلاً من سوء  الظن، وإن فيه لكثيراً من الحياء!

وهل يحيد الرجل عن طريقه إلا من عسرٍ يستحي أن  يستعلن، وهل في الناس - فيما يرى - من يجحد الفضل  وينكر العارفة. . .؟

وسأله صديق مرة:   (هل تعينني على تأديب ولدي؟ فما بي  طاقةٌ على أن ادفعه الى معلم بالمال؛ وما بي طاقة أن اهمله  من التعليم!)

واهتزت نفس الفتى، لأنه - فيما بدا له من صاحبة -  قادرٌ على أن ينفع النس مثل أبيه. وشد الولد من العلم ما شدا،  فأنكر معلمه وتنكر له أبوه!

وقال رجلنا لنفسه:   (با للأب المكدود! لقد حَزبته  مشغلة العيال عن ذكري؛ ليته يستعينني على بعض أمره!) ومن أين للفتى أن يعلم بأن كل مبذول مًهين. . . .؟

وقال له واحدٌ من قرابته ينصحه:   (هلا ادرخت فضل  اليوم للغد؟ إن المالَ عَصب الحياة، وجاه الرجولة، ومطيةُ  الامل البعيد)

وابتسم   (الفيلسوف الصغير)  وهو يقول:   (المال؟  ما أُحب أن أجعل المال خاتمة المسعى وغاية الجهاد،إن البطن  لشبرٌ في شبر، وإن الثوب لذراع في ذراع؛ أفيتسع البطن حتى  يبتلع غلات ضيعة، أو تطول القامة حتى ما يكسوها إلا ثوبٌ  بألف، أو يتضاعف الجسم حتى ما يرويه إلا بيت في مساحة  مدينة؟ أنا هو أنا يا صديقي، غنياً أو فقيراً؛ بطتي هو بطني،  وثوبي هو ثوبي، وبيتي هو ما متد من قدمي الى رأسي حين أنام! أي سخرية! إن الفقير الذي يعوزه القرش ليستطيع أن

يقول قالة الغني الذي يملك المليون. وماذا يملك العني مما يملك  إلا أن يسرح الطرف فيقول: هذه ضيعتي وهذاقصري أفلا  يستطيع الفقير أن يسرح عينيه معاً فيقول مثله: هذه ضياعي  وتلك قصوري؟ يلي يا صاحبي. إن الفني لوهم من أوهام الناس،  وإن الفقير المعدم ليرى أنه يملك ما شاء أن يملك من الدنيا ما دام  راضي النفس! ) وفتراقا وكلاهما يرثى لصاحبه!

وقالوا له:   (هلا التمستَ لك زوجةً تأوى إليها فتجمع  ما تفرق من أمرك؛ لعلك أن تجد عندها راحةَ النفس وهدوء  القلب؟)

قال: (حتى ألقاها فأعر فها فيدلني عليها قلبي. ما أريدها  غنية، فمالي وغناها وأنا عائلها وكاسبها؟ وما أريدها جميلة، فمالي  وللجميلة تتوزعها قلوبُ الناس وعيونهم، وبتوز عني منها الشك  والقلق؟ وما أغلو في طلب الفيلسوفة العالمة، فأجمع على نفسي  هما بالليل وهما بالنهار! وما أريد أن تقول:   (كان أبي ورَحم الله  جدي) ، فتملأ بيتي بأشباح الموتى وأطياف الهالكين! بحسبي  أن أجد الفتاة التي يخفق لها قلبي ويهدأ عندها حنيني.)

وخُيل إليه أنه وجدها بعد إذ أعياه المطاف؛ فوهب لها  قلبه، وأخلص لها وده، وكشف لها عن نفسه؛ ونظرت الفتاة  في مرآتها، ثم لَوَتْ عنه معجبةً مزهوة!

أتراه وقد نالت منه بقسوة الصد، وصَعرِ الخد، وجفوة  الدلال - قد أيقن أن المرأة لاتستوثق من حب صاحبها  إلا غلبتْ، ولا تستمكن من زمامه إلا رَكبتْ. . .؟

باللمسكين! لقد كان بريئاً طاهراً كالطفل، وادعاً مستكيناً  كالحمل؛ يحسب الناس كل الناس في مثل براءته وطهره، فما  ينشد فيهم إلا المثل الأعلى الذي يراه في نفسه! وأين المثلث الاعلى من  هذا الناس؟ أين هؤلاء الذين يرى، من أناسي خياله؟ وأين هذا  الوجود من عالم قلبه؟

لقد منحهم حبه فهل لفقي عندهم إلا الغدر؛ واصفاهم وده  فهل رأى إلا الاثرة؛ ومحضهم إخلاصه فهل عرف إلا الخديعة  والمكر؛ وألان لهم جانبه فهل وجد إلا الكبرياء وصعر الخد. . .؟

وأيقن   (الرجلُ الصغير)  انه لم يكن في هذا العالم غير طَفلٍ كبير! وعرف أخيراً أين أحلامه من اليقظة، وأين أمانيه من  الحقيقة، وأين المثلُ العليا التي جد ينشدها منذ كان صبياً فلم  يجدها إلا في نفسه. . .!

وراودته نفسه أن يكون بعض هذا الناس لعله يلقي بعض  أسباب السعداة، فَرن الصدى في مسمعيه يرجع قول أبيه:    (ستكون أميراً يا بني، فأحب الناس، وهَبْ نفسك للجماعة؛  إن السعيد من يعطي لا من يطلب العطاء!)

وثابت إليه نفسه، ونفذت الطمأنينةُ إلى قلبه فقال:   (نعم  غنني لأمير، لأنني فوق الناس، لأنني أعطي ولا أستجدي؛ وإنني  لسعيد، لأنني أملك الرضى، ولأنني أمل أن أجعل الحياة جميلة! ) )

وتلفت يمنةَ ويسرة، ونظر إلى الناس تتجاذبهم ضرواتُ  الحياة ، مستعيناً بالرضى، مستيقناً أنه سيجد المثل الأعلى هناك؛  عند الغاية من هذا الطريق!

وقالت له نفسه: (سِرْ يا رفيقي على هداك حتى تبلغ؛  لستَ من هذا الناس؛ ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!

طنطا

اشترك في نشرتنا البريدية